وضع الفنان في «بيت الفنانين»
لقد سررتُ بمشاهدة مسرحية «بيت الفنانين» تأليف الكاتب الجديد أحمد عثمان وإخراج كمال حسين في المسرح الحديث؛ وذلك لأنَّ المسرحية نجحت في أن تُحَوِّل الفكر إلى نوع من الحركة الدرامية الجاذبة، فهي تُعالج قضية ذهنية خالصة، وكان من الممكن أن تتحول إلى ما يُسميه النقاد الإنجليز «بمسرحيات المناقشة» المملة الرَّاكدة، ولكن كاتبنا الشاب استطاع أن ينجو من هذا المطب الخطير بمهارة بَدَتْ طبيعية وذكية لا نُحِسُّ فيها بأي افتعال؛ ذلك لأنه ربط القضية الذهنية التي عالَجها بالتجربة الخاصة بثلاثة من الفنانين، واتخذ هذه التجربة الخاصة أساسًا لفهمهم الخاطئ لوضع الفنان في مجتمعه، كما صحح هذا الفهم في نهاية المسرحية داخل بوتقة التجربة أيضًا.
فالمسرحية تُصَوِّر قصة ثلاثة فنانين قَرَّرُوا اعتزال المجتمع وحَبْس أنفسهم في غرفة ببدروم ليخلوا إلى فنهم ويبتعدوا به عما سَمَّوْه صغائر المجتمع وشروره، وقرروا أن يقطعوا كل صلة لهم بهذا المجتمع حتى ولو كانت هذه الصلة هي الصحف والمجلات التي منعوها من أن تتسلل إلى حصنهم الفني، وبالطبع تبدأ المسرحية بحديثهم عن أسباب عزلتهم، ولكنَّ المؤلف الذكي لا يكتفي بعرض نظريتهم بمجرد الحديث أو المناقشات النظرية الرَّاكدة، بل يُعطينا — في لمحات درامية سريعة — التجاربَ التي كانت سببًا في اتخاذهم هذا القرار، فهو إذا كان قد اكتفى بأن يخبرنا عن طريق الرواية الشفوية بأنَّ الفنان المصور عبد المنعم قد اتخذ قراره نتيجةً لعدمِ فَهْم أبيه التاجر لهوايته الفنية واستنكاره لها، وتعنيف ابنه من أجلها، حتى أحسَّ بأنه لم يَعُدْ أمامه مَفَرٌّ من أن يختار بين العزلة وبين مواصلة الحياة في أسرته وفي مجتمعه.
إذا كان الكاتب قد اكتفى بذلك فيما يختص بمشكلة الفنان الرسام فإنه قد عَرَضَ علينا مشكلة زميليه في لمحات درامية سريعة حية نابضة؛ إذ رأينا أُمَّ أحدهما — وهو الفنان القصاص — تأتي إليه في حِصْن عزلته؛ لتتوسل إليه كي يعود إليها، ولكن الفنان الشاب يرفض توسلاتها؛ لأنَّه قد سئم الحياة في بيت أسرته الذي لا يخلو من الشجار العنيف بين أبيه وأمه التي أتى إليها الأب بضرة تُنَغِّص حياتها وتُثير أعصابها، وأمَّا الفنان الثالث مؤلف الموسيقى فقد شاهدنا خطيبته السابقة تأتي في عزلته متوسلة راجية العودة إليها، بعد أن تبَيَّنَتْ أنَّ الرجل الذي كانت قد فضَّلَتْه عليه وتخلت عنه بسببه قد تَكَشَّفَ عن رجل نصاب، لوح لها ببريق الثراء كذبًا وتضليلًا، ولكن فناننا الشاب يُصارحها بأنه آمَنَ نهائيًّا بأنها ليست وحدها الفتاة الخائنة الغادرة، بل إن جميع الفتيات لا يختلفن عنها في شيء، وإنه قد قرر نهائيًّا أن يَضْرِب صفحًا عن كل محاولاته للحب أو الزواج، بل وأن يعتزل المجتمع كله ليخلو إلى الفن بعد أن تأكد مِنْ كَذِبِ هذا المجتمع وزيفه، وعبثًا حاوَلَت الفتاة أن تثنيه عن عزمه.
ولقد كان من رهافة ذكاء المؤلف أن عالج مشكلة هذا الفنان بالتي كانت هي الداء؛ إذ جعل الفتاة الجميلة الطيبة بنت صاحبة البيت تهوى هذا الفنان، ولا تزال تلح عليه وتروضه حتى تستأنسه وتقنعه أنَّ مكان الفنان ليس في بدروم يتخذ منه حصنًا أو برجًا عاجيًّا، بل مكانه في المجتمع وبين الجمهور ووسط الحياة، وإلا فلِمَنْ يُنْتِج فَنَّه، بل ومِنْ أين يستمد مادة فنه، وكذلك الأمر بالنِّسبة للفنان القصاص، فقد جعله المؤلف يهوى فتاة أخرى كانت تأتي لزميله الفنان الرسام «كموديل»، وبفضل هذا الحب استطاعت الفتاة أن تقنع فنانها الشاب هو الآخر بأن مكانه ليس في البدروم بل في الحياة.
وأمَّا الفنان الرسام؛ فإنه إذا كان قد رَفَضَ أوَّل الأمر بيع إحدى لوحاته لسيدة ثرية؛ لأنه أحسَّ بأن هذه السيدة لا تريد لوحته لإيمان حقيقي بالفن وقدرة أكيدة على تذوُّقه، بل لمجرد استعراض الثراء والمباهاة والسخف البرجوازي، على نحو ما تقْتَنِي أمثالُها الكلابَ أو القطط في قصورهن، فإننا نراه هو الآخر يُقرر مع زميليه أن يحمل لوحاته في النهاية؛ ليخرج بها إلى جمهور الحياة، وذلك بعد أن تغيَّر جو البدروم النفسي كله وانحلت العقدة التي كانت تعشش فيه، وهكذا انتصرت في النهاية نظرية الفن للحياة وللمجتمع، وتبددت خرافة الفن للفن التي لم يكن مصدرها غير تجارب شخصية سيئة للفنانين الثلاثة دفعتهم إلى تلك العزلة، التي لم يلبثوا أن اقتنعوا بحمقها بعد أن انحلت عقدهم في مواقف درامية هادئة، ولكنها مع ذلك عميقة مؤثرة لا تثير انفعالنا فحسب، بل تُثير أيضًا فِكْرنا إثارة خصبة مؤثرة.
لقد فرحت حقًّا بهذه المسرحية الجميلة الواعية، كما فرحت ببدء اتصال هذا الكاتب الجديد بالجمهور، ومن الظَّريف أنْ أَذْكُر أن هذا الكاتب ابتدأ حياته الفنية بالعمل كراقص في فرقة رضا، ثم غَلَبَتْه موهبته الأدبية الأكيدة؛ فأخذ يكتب المسرحيات ويكتفي بنشرها في كتب، ثم تقدم في العام الماضي إلى الفرقة القومية بمسرحية «ثورة الحريم» التي كان من نصيبي قراءتها كعضو في اللجنة الفنية المختصة، وعندما أحسستُ بموهبته لم أكْتَفِ بأنْ أكتب في الحكم النِّهائي للمسرحية اللفظة التقليدية وهي لفظة «صالحة»، بل أضفتُ إليها لفظة أخرى قد تبدو نكتة لفظية، ولكنني تعمدتُ إثباتها، وهي لفظة «جدًّا»، ومع ذلك فلسوء الحظ لم تعرض الفرقة القومية حتى الآن هذه المسرحية على الجمهور، ولعلَّ ذلك راجع إلى أنَّه كاتب مبتدئ لم تُعْطَ له أولوية، أو لعل عمله كراقص باليه أَوْهَمَ أن علاقته بالأدب ليست أكيدة؛ ولذلك فَرِحْتُ بإيصاله للجمهور عن طريق المسرح الحديث، ومسرحية «بيت الفنانين» التي يبلغ فيها الحوار مستوى رفيعًا يجمع بين الخفة والعمق كرقص الباليه تمامًا.
ومنَ المؤكَّد أنَّ هذا النص الجيد قد رَفَعَ من قدرة الممثلين والمخرج، وفرقٌ كبيرٌ بين أسلوب المخرج كمال حسين في إخراجه الناجح لهذه المسرحية رغم عدم تغير المنظر في فصولها الثلاثة، وبين ما سبق أن شاهدْتُه لنفس المخرج من بهرجة سطحية في إخراجه المسرحيات السابقة، كما أنَّ الفرق شاسع بين ليلى طاهر بنت صاحبة البيت في هذه المسرحية وبينها في شخصية ديدمونة التي فشلت في حمل عبئها الثقيل، كما أنَّ نوال أبو الفتوح قد أبدعت في أداء دور سهام الموديل، ولا أُحِبُّ أن أغمط أيضًا من أَدَّوْا أدوار الفنانين الثلاثة حقَّهُم من إعجاب، وهم في ترتيب إعجابي: وحيد عزت في دور عبد المنعم الرسام، ويوسف شعبان في دور الموسيقار، ورشوان توفيق في دور الفنان القصاص، بل إنَّ أصحاب الأدوار الثانوية قد أَدَّوْها أيضًا على نحوٍ مُقْنِع.