خمسة وخميسة
نَشَرَتْ سلسلة الكتاب الماسي أحدث إنتاج لأديبنا الكبير محمود تيمور، وهو مجموعة من المسرحيات القصيرة ذات الفصل الواحد بعنوان «خمسة وخميسة»، وإن يكن هذا العنوان لا يمتُّ للمجموعة بِصلة، فليس من بين هذه المسرحيات مسرحية تحمل هذا الاسم كما جرت العادة في مجموعات القصص أو المسرحيات القصيرة، ويخيل إليَّ أن فكرة هذا العنوان ربما جاءت إلى الأستاذ تيمور من أنَّ المجموعة تضم خمس مسرحيات أطول من المسرحية السادسة الأخيرة التي ربما كانت هي «الخميسة» كمصغر لخمسة.
وعلى أية حال فالعنوان شعبي لطيف يبدو مُتلائمًا مع هذه المجموعة التي فَضَّلَ أديبنا الكبير أن ينشرها مكتوبة بالعامية، على أن يعود بعد ذلك فينشرها في كتاب آخر مترجمة إلى الفصحى على نحو ما وعد في تقديمه للمجموعة، حيثُ تحدث عن حيرته إزاء ما نُعَانيه اليوم من ازدواج لغوي.
وإذا كان الأستاذ توفيق الحكيم قد حاول التغلب عليه في المسرح بمحاولة الكتابة بلغة وسط بين العامية والفصحى، وكأنَّها لغة ثالثة على نحو ما أوضح وعمل في مسرحية الصفقة، فإنَّ الأستاذ تيمور قد رأى أن يُعَالج هذه المشكلة في السنوات الأخيرة بنشر مؤلفاته باللغتين معًا.
مما لا خلاف عليه أنَّ القصة إذا جُلِيَتْ على المسرح بشخوصها يتحدثون جهرة، فإنه مما يُعِين على تهيئة الجو الملائم لها وإحداث التأثير المقصود منها أن يَنْطِق الشخوص كما يتحدثون في حياتهم العامَّة، بل في حياتهم الخاصَّة؛ ولهذا حرصتُ على أن أُقَدِّم المسرحيات ذوات الموضوعات العصرية والجوِّ العائلي في لهجتها العامية، على أن أكتب نُسختها بالفصحى حتى لا تظل حبيسةَ نصٍّ محدود في بلد عربي واحد.
وفي العبارة الأخيرة برر الأستاذ تيمور إعادة نشر المسرحيات التي يكتبها بالعامية مُتَرجَمة إلى الفصحى، وإن يكن هذا التبرير غيرَ كافٍ.
فإعادة كتابتها بالفصحى ليس لضمان تَقَبُّلها من إخواننا العرب المعاصرين في أقطارهم المختلفة وفهمهم الكامل لها فحسب، بل أعتقد أنَّه لا يزال الضامنَ الأكيدَ لخلود مثل هذه الأعمال الأدبية ضِمْن تراثنا العربي الباقي على الزَّمن، فمما لا شك فيه أنَّ الفصحى ستبقى، وأمَّا العامية فسريعةُ التطور، وستزداد هذه السرعة بازدياد انتشار التعليم والثقافة وتقهقُر الأمية في عالمنا العربي كله، بحيث يُخْشى أن تُصْبِح الكتابات العامية في يوم قريب أو بعيد مجرد وثائق تاريخية، وإن كان بعض الزملاء الذين اشتركتُ معهم في مناقشة خمسة وخميسة قد أبدوا تشوقًا للاطلاع على النُّسخة الفصحى لهذه المجموعة؛ ليتبينوا إلى أيِّ مدًى سيستطيع الكاتب ترجمةَ التراكيب العامية الدقيقة المعنى والتلوين إلى اللغة الفصحى، مع المحافظة على الروح الشعبية للشخصيات، وقد فتح أحدهم إحدى الصفحات اعتباطًا ليتخير بعض تلك التراكيب العامية ويتساءل عن كيفية ترجمتها إلى الفصحى مع المحافظة على لونها الشعبي، مثل قول الفلاحة نظيمة: «بعد ما ولدت والذي منه.»
فعبارة «والذي منه» كم من الصعب ترجمتها إلى الفصحى.
وكذلك قولها: «أقوم منطورة» فلفظة «منطورة» لا نظنها قافزة أو واثبة. ذلك مما التقطه الزَّميل من صفحة واحدة، وبخاصة وأن الأستاذ تيمور رغم وضْعِه الاجتماعي الممتاز قد صدر في هذه المجموعة عن روح شعبية مرهفة، وحرص على التعبير الشعبي اللاذع والنكتة الشعبية المجنحة، وكأنه قد خَالَطَ الشعب وامتزج بحياته طوال عمره، مما يكسب لغته العامية نفسها طابعًا فنيًّا جميلًا.
ومجموعة خمسة وخميسة من حيثُ مضمونها تُشْبِه إلى حدٍّ بعيد مضامين القصص القصيرة من حيث أن كلًّا منها تصوير وتجسيد لفكرة أو إحساس أو حالة نفسية معيَّنة، فمسرحية «حَكَمَت المحكمة» مثلًا تصور حالة الفزع المرعب الذي قد يصيب أمًّا خوفًا على وليدها، حتى لَتحسب أنها تنقذ هذا الوليد من الموت البشع عندما تلقي به في ساقية.
وذلك لأنَّ الفلاحة نظيمة المتزوجة من حفناوي الجزار قد رُزِقَتْ تباعًا بثلاث بنات، وعند حملها الرابع هَدَّدَها زوجها والسكين الطويلة في يده بذبح وليدها على باب البيت لو جاء أنثى، فأصيبت الأم بفزع وَصَلَ بها إلى ما يُشبه الجنون عندما وَضَعَتْ فعلًا بنتًا، وإذا بها تحملها ساعة ميلادها عَدْوًا إلى الحقل؛ لتُلقي بها في الساقية ظانة — وهي في شبه جنون — أنَّها ستنقذ بذلك ابنتها الحلوة ذات العينين الخضراوين كالبرسيم البدري من سكين زوجها الجزار.
فمضمون المسرحية إذن هو تصوير وتجسيد تلك الحالة النفسية الفظيعة التي سيطرت على هذه الأم المسكينة، ولكن الشكل الذي اتخذته أثار بيني وبين الصديق يحيى حقي جدلًا عميقًا، فالصديق يرى أنَّ الحوار فيها أقرب إلى حوار القصة منه إلى حوار الدراما، وهو يستند في ذلك إلى حجة وجيهة، هي أنَّ الحوار من أول المسرحية إلى آخرها يجري بين وكيل النيابة الذي سيقت إليه نظيمة في التحقيق معها في تهمة قَتْل ابنتها وبين نظيمة، مع تدخل الخفير الذي ضبطها.
والأستاذ حقي يرى أنَّ الحوار لا يعتبر دراميًّا إلا إذا كان طرفاه مُشْتَرِكين في الحدث، وفي حالتنا هذه من الواضح أن وكيل النيابة لا دَخْلَ له في الحدث أو القصة، وإنما هو — كما قال يحيى حقي في المناقشة — بمثابة فتاحة علبة السردين التي تقتصر وظيفَتُها على رَفْع الغطاء عن العلبة للكشف عن محتواها، وذلك بينما رأيت أن الحوار لا تحدد دراميته بطرفيه بقدر ما تحدد بطبيعة هذا الحوار، فهو يعتبر دراميًّا إذا كان يساهم في تطوير الحدث، وتحقيق الهدف بأسلوب درامي، وإذا كان الهدف في هذه المسرحية هو تصوير حالة نفسية خاصة وتجسيدها؛ فإنَّ الحوار يعتبر دراميًّا إذا استخدم الأسلوب الدرامي، أي: إذا كشف عن الحالة النفسية بواسطة الوقائع والتصرفات السلوكية، لا بواسطة التحليل أو التصوير النظري الذي يتدخل فيه المؤلف.
وقد ضَرَبْتُ على ذلك مثلًا بأنَّ المؤلف لم يُجْرِ على لسان أية شخصيةٍ وصفًا أو تحليلًا نظريًّا لحالة نظيمة النفسية، بل جعلها هي نفسها تقول لوكيل النيابة أنها كانت تسمع وَقْعَ أقدام زوجها الجزار وهو يعدو خلفها عندما اتجهت ببنتها عدوًا إلى الساقية في الحقل، وعندما يتدخل الخفير فورًا ليُكَذِّبها مؤكدًا أن زوجها كان عندئذٍ في دوار العمدة، مما يُوحي إليها أنها لم تسمع صوت أقدام وإنما خَيَّل إليها الفزعُ ذلك عندما وَصَلَتْ حالتها النفسية إلى حد هذيان الحواس، ولو كنا في قالب القصة لرأينا المؤلف يتدخل بطريقة أو بأُخرى ليُفسر لنا أو يحلل هذه الحالة النفسية بدلًا من الاكتفاء بمثل هذه الوقائع ذات الدلالة غير المباشرة.
ومجموعة خمسة وخميسة رغم روح الفكاهة اللطيفة الشائعة فيها وأسلوبها الفني الجميل، تُؤيد من النَّاحية الاجتماعية عددًا من القيم الإنسانية الصاعدة البالغة السمو، على نحو ما نرى الصعلوك الدميم الخلقة أو غير الوسيم يمزق ألف جنيه كَسَبَهَا من اليانصيب، واستطاع أن يصل بفضلها إلى غانية أرستقراطية كانت تحتقره وتطرده من أمامها كالكلب، حتى إذا عَلِمَتْ بامتلاء جيبه بالألف جنيه أَقْبَلَتْ عليه وشربت معه الشمبانيا، ولكنه يثور عندئذٍ ويمزق أوراق البنكنوت رافضًا أن يكون المال وسيلة إلى هذه الغانية، وإذا كان بعض الزملاء الذين اشتركوا معي في مناقشة المجموعة قد رأوا في هذا التصرف دليلًا على مُرَكَّب نقص عند الصعلوك، فإنني على العكس من ذلك أرى فيه دليلًا على سمو الإنسان الجديد واحتقاره للمال الذي يستذل كرامته حتى ولو كان هذا الإنسان صعلوكًا، ونحن اليوم لم نَعُد عبيدَ المال.
وفي المجموعة بعد ذلك عدد من المسرحيات التي تَسْخَر سخرية لاذعة من حياة الطبقة الأرستقراطية المنحلة في العاصمة، وتفاهة اهتماماتها وانحطاط ذوقها وأخلاقها، وبخاصة مسرحية «حفلة شاي»، بحيث يخيل إليَّ أن أديبنا العريق قد صدر في هذه المجموعة عن خير القيم التي تنادي بها فلسفة حياتنا الجديدة، ويخيل إلينا أنَّ أجهزة ثقافتنا الجديدة الكبيرة — وبخاصة جهاز التليفزيون الضخم — يُحْسِن صنعًا لو استفاد في برامجه بهذه المجموعة التي لا يمكن أن يرتفع إلى مستواها عدد كبير من البرامج التي يعرضها أحيانًا هذا الجهاز الكبير الواسع التأثير.