«الراهب» بين الثقافة والفن
التقيتُ مع الصديق الدكتور لويس عوض في ندوة لمناقشة مسرحيته «الراهب»، وخُيِّل إليَّ أنَّ هذا الالتقاء كان واجبًا حتى لا أنفرد بالحكم على هذه المسرحية، ودون أن أستجلي منه الأسس والأهداف التي صدر عنها في تأليفها؛ وذلك لأنَّ الدكتور لويس عوض وإن يكن قد كتب في صَدْر حياته شعرًا، إلا أنَّ الذي غلب على حياته بعد ذلك قد كان الدِّراسة والنَّقد، ولا بدَّ عند قراءة عمل أدبي ينشئه من أن نضع في اعتبارنا الصفتين: صفته كفنان وصِفَتُه كأستاذ وناقد، أي: كرجل مثقف له في الفن والأدب آراؤه الفكرية والفنية، وهو في مثل هذه المرحلة من حياته لا يمكن أن يتخلص من أرائه ونظرياته النقدية عندما يُبدع عملًا أدبيًّا، وإن يكن من بين تلك الآراء أنه لا يرى أنَّ على الأديب المبدع أن ينقد عمله الأدبي، بل ولا يحق له ذلك، بل يجبُ أن يترك النَّقد لغيره من زملائه، وأنا في الحقيقة لم أطالبه في المناقشة بنقد مسرحيته، بل طالبته بإيضاحات واستفسارات.
والدكتور لويس عوض يرى مثلًا أنَّ على الأديب أن يتقيد بوقائع التاريخ، ولا يحق له أن يتصرف فيها عندما يُعالج موضوعًا تاريخيًّا، وما يُباح له هو الإبداع في تفسير الأحداث التاريخية ودوافع الشخصيات، وهذا مبدأ سبق أن اختلفت معه فيه وقتلناه بحثًا ومناقشةً.
فمن رأيي أنَّ الفَارق الكبير بين المؤرخ والأديب يُحَتِّم التفريق بين موقفهما من أحداث الماضي، فالمؤرخ هَدَفُه التعريف بذلك الماضي بينما الأديب هدفه استخدام الماضي في التأثير على مُعاصريه على نحوٍ من الأنحاء، فهو إذا كان يُريد أن يركز على شخصية من الشخصيات التاريخية ليبرز قيمة من القيم الإنسانية العامَّة، لا مَفَرَّ له من أن يسقط من عمله الأدبي التصرفات التي يمكن أن تكون هذه الشخصية التاريخية قد أتتها مناقِضة بذلك القيمةَ التي يريد الأديب أن يبرزها.
فمسرحية الراهب مثلًا نُحِسُّ من خلالها أنَّ المؤلف قد أراد أن يبرز قيمة الشجاعة والاستبسال والإخلاص في الدفاع عن الوطن ضد المحتلين الغاشمين، مجسَّمةً في شخصية الرَّاهب المصري أبا نوفر أثناء الثورة التي قادها سنة ٢٩٦م ضد إمبراطور روما الغليظ القاسي دقيانوس، الذي حدثت في عَصْره معجزة أهل الكهف عندما فروا إلى الكهف فرارًا من بطشه بكل من يعتنق المسيحية، وإبراز هذه القيمة يتطلب أن يُقدم لنا المؤلف شخصية أبا نوفر في صورة تُعَطِّفنا عليها وتحببها إلينا.
ولكنني لاحظتُ أنَّ أبا نُوفر لا يجذبني إليه، ومن الغريب أنَّ المؤلف يُحَدِّثنا في النَّبذة التاريخية التي أَلْحَقها بمسرحيته أنَّ التاريخ لم يحفظ لنا عن أبا نوفر إلا أنه كان من الشهداء الذين بطش بهم الرومان، وأمَّا ماذا فعل أبا نوفر في حياته التاريخية فلا علم لنا به. ومع ذلك أضاف المؤلف إلى مسرحيته قصة فرعية ذَبْذَبَتْ إحساسنا الطيب نحو أبا نوفر، وهي الفتاة المصرية فيلا مينا التي أحبت الجندي الروماني أرمان، وبالرَّغم من أنَّ الكثير من الرومانيين المقيمين في مصر بما فيهم الحاكم الروماني المعروف باسم أخيل قد انضموا إلى المصريين في ثورتهم على الإمبراطور، إلا أنَّ أبا نوفر لم يغتفر لفيلا مينا هذا الحب، ثم زاد الأمور تعقيدًا بأن جَعَل أرمان يعتنق المسيحية ليتحد في الدين مع حبيبته.
ومع ذلك يُصِرُّ أبا نوفر على مُحاكمة فيلا مينا أمام محكمة الشعب، ولا تشفع لها ضراعتها ولا ضراعة غيرها، وينتهي الأمر بالحكم بإعدامها.
وأنا لا أريد أن أقول كما قال المفكر باسكال «إنَّ للقلب دوافعه التي لا يُدركها العقل»، بل كنتُ أتمنى في مثل هذه الحالة أن يأخذ أبا نوفر نفسه بمثل هذه الصرامة، فلا يقع — وهو الراهب — في حب غانية راقصة وهي مارتا لأوَّل نظرة، ولقد أقرني الصديق لويس على هذه الملاحظة، ولكنه برَّرها برأي فني نقدي أبداه، وهو أنَّ البطل المأسوي لا بدَّ أن تكون فيه بذرة شر، وهو رأي لا أراه، فالشر الذي نُلاحظه في أبطال المأساة يملي عليهم أو تضْطَرُّهم إليه الظروف القاسية أو القدر المحتوم؛ حتى لا يضعف تعاطفنا معهم وشفقتنا بهم، كنت أفضل ألا تقع هذه البقعة على صورة أبا نوفر.
هذا، ولقد قرأت عن تشبيه موقف الراهب من مارتا بموقف القديس الذي وَقَعَ في غرام الغانية تاييس في قصة أناتول فرانس الشهيرة، ولكنني أحسُّ بالفَارق الكبير بين الموقفين، فقديس تاييس لم يقع في حبها لأوَّل نظرة كما فعل أبا نوفر مع مارتا، بل أحبها أثناء محاولته ردها إلى الصلاح، ولعله تبين عندئذٍ نقاء جوهرها.
وأنا لا أنكر إمكان الحب المفاجئ، ولكنني أنكره على راهب صارم مثل أبا نوفر، أو على الأقل أطالبه بأن يكون متسقًا مع نفسه، فلا يغلو كل هذا الغلو في القسوة على فيلا مينا.
وفي أثناء المناقشة رأى صديقنا الدكتور صقر خفاجة المشترك فيها أنَّ بطل المسرحية الذي يستحوذ على إعجابنا وتعاطُفنا ليس أبا نوفر، بل الرَّاقصة مارتا، التي تابت وأنابت واشتركت في الثورة، وأعدت نفسها لحياة الدير بعد نجاح تلك الثورة، بل وتكاد تبدو في المسرحية رمزًا لروح مصر، ولكنني أُلاحظ أنَّ أبا نوفر هو الشخصية المحورية المحركة للأحداث في المسرحية كلها، كما أحسُّ أن المسرحية — كما قال المؤلف نفسه — مأساة، والذي نُكِبَ في خاتمة المسرحية هو أبا نوفر لا مارتا، واعتبار مارتا بطلتها يؤدي إلى تغيير الطبيعة الفنية للمسرحية كلها، ولستُ أرى وجهًا لأنْ يرمز المؤلف لمصر بغانية تابت، فضلًا عن أن هذا الرمز — بفرض وجوده — أخشى أن يكون قد خرج من مجال الرمز إلى مجال اللغز؛ لأنني لم أحس في المسرحية بما يوحي من قريب أو بعيد بقصد المؤلف إلى هذا الرمز.
والواقع أنَّ مسرحية الراهب تنم — في وضوح — عن جهد الأستاذ الباحث المنقب المستقر كناقد على أصول درامية محددة، ولكنني أخشى أن يكون هذا الجهد وتلك الثقافة قد أصابا المسرحية بالتعقيد، وبحشد من الأحداث والشخصيات أَرْهَقَت الموضوع وضيقَتْ أمام المؤلف مجال التحليل النفسي والغوص وراء الدوافع، وإحكام رسم الشخصيات على النحو الذي ينجح في إبراز القيم التي قصد إلى إبرازها، والتأثير في النفوس على النَّحو الذي ابتغاه، وإن يكن حوار المسرحية ينم طبعًا عن الثراء الفكري والروح الشاعرية التي عرفناها عند الصديق لويس منذ أن كتب في شبابه ديوان «بلوتولاند»، فضلًا عن أستاذيته المعروفة في أصول الأدب بفنونه المختلفة، فهي مسرحية جادة تنمُّ عن دراسة مستفيضة لموضوعها، ووعْي فني في صياغتها قد نختلف في بعض تفاصيله، ولكنا نسلم مغتبطين بأصالته.