المسرحية بين الترجمة والاقتباس والإعداد
لقد كان شعبنا يعرف ويُزاول فنين قريبي الشَّبه بالفن المسرحي، وهما خيال الظل والأراجوز، قبل أن يَخْرُج من القمقم التركي ويأخذ في الاتصال بأوروبا ابتداء من أوَّل القرن التاسع عشر، ومن المؤكد تاريخيًّا أنَّ فن المسرح — كما يَعْرِفه عالَمُنا العربي اليوم — لم يكن تطورًا للفنين الشعبيين السابقين، بل أخذناه رأسًا عن أوروبا، وكان أول من كتب المسرحيات العربية ومثَّلها — فيما نعلم — التاجر اللبناني مارون نقاش، الذي شاهد هذا الفن وأُعْجِب به في إيطاليا أثناء رحلاته التجارية إليها.
ولدينا اليوم كتاب بالغ الأهمية التاريخية؛ لأنَّه يضم نصوص المسرحيات التي كتبها ذلك الرَّائد، وهو كتاب «أرزة لبنان»، وبه مسرحيات: «البخيل» و«هارون الرشيد» و«أبو الحسن المغفل» و«الحسود السليط». وهي المسرحيات الثلاث التي أَلَّفَها مارون، كما أنَّ به الخطبة المسهبة التي ألقاها مارون في أصدقائه الذين اجتمعوا أوَّلَ مرة في بيته ليُشاهِدوا أول مسرحية قام هو ونفرٌ من أصدقائه بعَرْضِهَا، ومن هذه الخطبة نعلم أنَّ مارون قد شاهد في إيطاليا نوعين من المسرحيات؛ يُسَمَّى أحدهما بالمسرحيات الغنائية ويُسَمَّى الآخر «البروزا»، ويعني بها المسرحيات النثرية أي: المسرحيات التمثيلية، كما نعلمُ أنَّه قد فَضَّل النوع الأول ورأى أنه أقرب إلى نفوس إخوانه العرب المُولَعين بالطرب؛ ولذلك نراه يكتُبُ مسرحياته الثلاثة شِعرًا، ويُلَحِّن بعضها تلحينًا كاملًا بحيثُ تُصبح من النوع المعروف اليوم باسم «الأوبرا»، بينما يكتفي بتلحين بعض أجزاء من المسرحيات الأُخرى بحيثُ يمكن اليوم تسميتها «أوبريت»، وكل تلحينه من النَّوع الشرقي؛ إذ نراه يُثْبِت في آخر كتابه المقامات الشرقية التي لَحَّنَ بها كل فقرة من فقرات مسرحياته.
هذه الحقائق كلها تثبت أنَّ عالِمَنا العربي قد أخذ فن المسرح عن أوروبا ابتداء من سنة ١٨٤٨م، وهي السنة التي ابتدأ فيها مارون نقاش يؤلف ويمثل مسرحياته العربية في بيته أولًا، ثم في مسرح صغير أقامه إلى جوار بيته بعد ذلك، وإذا كان الموتُ لم يمهله طويلًا لكي يُواصِلَ تقديم هذا الفن إلى مُواطنيه، فإنَّه قد غرس — في الفترة القصيرة التي عاشها بعد معرفته لهذا الفن — بُذُورَه في العالم العربي كله، حيثُ خَلَفَهُ فنانون آخرون عَمِلُوا في لبنان وفي سوريا قبل أن ينتقلوا إلى مصر فرارًا من رجعية الأتراك الحاكمين وتَعَصُّبِهم الأعمى ضد هذا الفن، والتماسًا لِجَوٍّ أصلح، وإمكانيات مادية وبشرية أكثر رحابةً في بلادنا، التي قد أخذت تَعْرِف هي الأخرى فن التمثيل العربي بواسطة رائده الأوَّل في بلادنا، وهو يعقوب صنُّوع اليهودي الأصل الذي اشتهر باسم «أبو نضارة»، فقد أخذ هذا الرَّائد يُقَدِّم مسرحياته التمثيلية لجمهور القاهرة ويَلْقَى منه إقبالًا، حتى غَضِبَ عليه الخديوي إسماعيل؛ لظنه أنه قد عَرَّضَ لاستبداده وتبذيره في إحدى مسرحياته، فأَمَرَ بنفيه إلى الخارج، حيث استقرَّ بباريس وظل بها حتى مات في أوائل القرن العشرين.
وبالرَّغم من أنَّ أول معرفة اللبنانيين والسوريين بالفن المسرحي كانت بالفن الغنائي، إلا أنَّهم لم يُفكروا في ترجمة نصوص أوبرات أو أوبريتات أوروبية؛ وذلك لأنَّ تلك النُّصوص كانت وثيقة الارتباط بألحانها الغربية، وكان الجمهور العربي لم يَأْلَفْ بَعْدُ تلك الموسيقى الغربية، وبالتالي لم يكن يستطيع استساغتها والإقبال عليها، وكان لا يطرب إلا للألحان الشرقية القائمة على نصف النَّغمة الرَّاقص المطرب طربًا جسديًّا عنيفًا، ومع ذلك فإن المتتبع لتاريخ تطور الفن المسرحي في عالمنا العربي وبخاصة في مصر التي استقر فيها ونما وازدهر، بينما تدهوَر وخبا حتى اختفى من لبنان وسوريا، نلاحظ أنَّ فن التمثيل قد أخذ يتخلص شيئًا فشيئًا من طابعه الغنائي؛ ليُصبح فنًّا تمثيليًّا خالصًا قائمًا على النَّص التمثيلي وحده، حتى إذا عاد الممثل الكبير جورج أبيض من بعثته الدِّرَاسية في فرنسا سنة ١٩١٠ نَرَاه يُحَاول أن يستقل بفن التمثيل عن غيره من الفنون، فيُقَدِّم «عطيل لشكسبير» و«ولويس الحادي عشر» لكازينير دي لافن إلى جوار «أوديب ملكًا» لسوفوكليس التي تتضمن بعض الأغاني الجماعية، وإذا كان هذا الممثل الكبير قد اضطر بعد ذلك إلى أن يخضع لذوق الجمهور المتعلق بالغناء الشرقي؛ فيتفق مع المطرب سلامة حجازي على تكوين فرقة موحدة، فإننا نَرَى أغاني الشيخ سلامة تتطور شيئًا فشيئًا؛ حتى تُصبح مُنفصلة عن نص التمثيلية، بل انتهى بها الأمرُ إلى أن تُلْقى في الاستراحة بين فصل وآخر من فصول المسرحية.
وهكذا أَخَذَ فن المسرح يَسْتَكْمِل — شيئًا فشيئًا في النصف الأول من هذا القرن — استقلالَه الذاتي، وبمعنًى آخر أَصْبَحَ يعتمد على النص الأدبي مِمَّا أفسح المجال لحركة الترجمة والتعريب والتمصير والاقتباس عن الآداب الغربية؛ وذلك لأنَّه وإن يكن قد ظهر في تلك الفترة عدد من المؤلفين المسرحيين مثل: فرح أنطون، وإبراهيم رمزي، ومحمد تيمور، ثم عباس علام، وأمين صدقي، ويوسف وهبي، وبديع خيري، ومحمد لطفي جمعة، ومحمود كامل، وأحمد شوقي، وتوفيق الحكيم، ومحمود تيمور. إلا أنَّ فن التأليف المسرحي كان لا يزال غريبًا على أدبائنا لِخُلُوِّ تُرَاثنا العربي منه، مما حدا بعددٍ من هؤلاء الأدباء إلى الترجمة حينًا والتعريب أو التمصير أو الاقتباس الظَّاهر المعتَرَف به حينًا، والخفي المنتكر حينًا آخر.
وقد نشأت عن هذه الفوضى والاختلاط وتَحَسُّس الطريق خَبْط عشواء ظاهرةٌ فريدة، هي أنَّ عالَمنا العربي قد عَرَفَ فن التمثيل منذ أكثر من قرن، ومع ذلك لم يأخذ في تكوين تراث في الأدب المسرحي إلا منذ ثلث قرن، أي: منذ أن أخذ شاعرنا الكبير أحمد شوقي يكتب مسرحياته الكبيرة ابتداء من سنة ١٩٢٧، وأخذ كاتبنا المسرحي الكبير توفيق الحكيم يكتب مسرحياته الكبيرة ابتداء من سنة ١٩٣٥، وهو تاريخ تقديم مسرحية أهل الكهف، وإذا بنا نرى لأول مرَّة مسرحيات شعرية ونثرية تؤلف لتُطْبَع وتُنْشَر وتُدَرَّس بالمدارس والمعاهد والجامعات، وتنضم إلى تراثنا العربي الباقي، بينما كانت المسرحيات من قبل تؤلَّف أو تُتَرْجَم أو تُقْتَبَسُ لتقدَّم مخطوطة للفرق المسرحية، ولا تُطْبَع وتُنْشَر وتُقْرَأ ككتب إلا في النادر، وإلا فأين مئات المسرحيات التي ترجمتها فرق: جورج أبيض، والريحاني، والكسار، ورمسيس. فضلًا عن الفِرق اللبنانية والسُّورية القديمة مثل فِرق: سليم النَّقاش والقِرْدَاحي وأحمد أبو خليل القباني وغيرها، وهي المسرحيات التي نبحث عنها اليوم في أدراج الفرق، أو عند من لا يزال حيًّا من المخرجين والممثلين والملقنين، أو في إدارة المطبوعات أو رقابة المسرح لتنشرها كوثائق تاريخية، أو كنصوص أدبية قد يكون لبعضها بعض القيمة الفنية والإنسانية الباقية …
والآن فلنُحاول وسط هذا السديم أن نُوضِّح معالم الطريق الذي سَلَكَتْه حركة التَّرجمة وحركة التَّعريف أو التمصير وحركة الاقتباس.
فأوَّل ما نُلاحِظُه هو أنَّ فن المسرح كان يُفَضِّل منذ نشأته اللغةَ العامِّية كأداة للتعبير، وفي مثل ذلك الجو كان من الطبيعي أن نبدأ في الأخذ عن الآداب الأوروبية بطريقة التعريب أو التمصير، والمقصود بالتعريب هو نقل المسرحية الأدبية إلى البيئة العربية، وذلك بتغييرِ أي تعريبِ أماكن أحداثها ومناظرها وأسماء شخصياتها، مع نقل حوارها إلى اللغة العربية، ولعل أهم عملية تمصير قد تَمَّت بنجاح ضَمِنَ لها الخلود هي العملية التي قام بها أديبنا المصري الكبير محمد عثمان جلال في أواخر القرن الماضي، الذي خَلَّف لنا مجموعتين رائعتين من المسرحيات الأوروبية التي مَصَّرها زَجَلًا عاميًّا، وقد سمى المجموعة الأولى «الأربع روايات مِنْ نُخَب التيارات»، وقد نشرها لأول مرة سنة ١٨٨٨ والرِّوايات الأربع التي تَضَمَّنَتْها من كوميديا الشاعر الفرنسي الكلاسيكي عملاق الكوميديا «موليير»، وهي «الشيخ متلوف» و«النِّساء العالمات» و«مدرسة الأزواج» و«مدرسة النِّساء».
وهو في مُقَدِّمة هذه المجموعة يُدَافع عن فن الكوميديا، أي: المسرحية الفُكَاهِيَّة بقوله: «ليَكُنْ في علم العامَّة، وليَخْلُدْ في أذهان تلك الأُمَّة، أَنَّ التياترات موضوعة للتعليم والتأديب، والتربية والتهذيب، وأنَّ أوروبا ما اتخذَتْها عن قريب، بل رَوَتْها عن الرُّومانيين، وتَلَقَّتْها عن قدماء اليونان والمصريين، وذلك لما فيها من تعليم الصبيان وتدريب الشبان، وأنَّها تُورِث الجرأة عند المكالَمة، وتُلْهِم الحُجَّة لدى المخاصَمة، وهي على أقسام، منها: المُطْرِب، والمُعْجِب، والمُبْدِع، والمُغْرِب، والمُوجِع، والمُشْكِي، والمُضْحِك، والمبكي. ما الضحك إلا من باب الهزل المقصود به الجد، واللعب الذي باطنه الكد، فهي أَوْلَى بأن نُحَلِّي لها طرسًا، ونُكْثِر منها غَرْسًا، ونجعل لها في المكاتب درسًا، وأن نُتَرْجِم منها الكتب العديدة، بعد أن ننتخب القطع المفيدة، لتكون للمدارس روضة، وللمنتزهات غَيْضة، فإنا في عصر بالتقدم مُزْهِر، وزمن بالتمدن مُثْمِر …»
وأمَّا المجموعة الثانية فسَمَّاهَا «الرِّوايات المفيدة في علم التراجيدة»، وهي تضم ثَلَاثَ مآسٍ للشاعر الفرنسي الكلاسيكي الكبير «راسين»، وهي «أستير» و«إيفجينيا» و«الإسكندر»، ويُبَرِّر استخدامَه لِلُّغة المصرية الدارجة في نَقْلها إلى جمهورنا بقوله: «واتَّبَعْتُ أصْلَها المنظوم، وَجَعَلْت نَظْمَها يفهمه العموم، فإن اللغة الدارجة أنسب لهذا المقام، وأوقع في النفس عند الخواص والعوام.»
وأما منهجه العام في التمصير أو التعريب؛ فقد أفصح عنه في المقدمة التي كتبها لتعريبه لقصة «بول وفرجيني» الشهيرة التي أعاد كتابتها بعد ذلك السيد «مصطفى لطفي المنفلوطي»، ونشرها بعنوان «الفضيلة»، فإننا نرى محمد عثمان جلال يُعَرِّبها وينشرها تحت عنوان «قبول ووَرْد جنة»، وقد مصَّر اسم «بول» ﺑ «قبول» واسم «فرجيني» ﺑ «ورْد جنة»، ويقول في مقدمة الكتاب: «أَخْرَجْتُه من الطباع الإفرنجية، وجعلته على عوائد الأمة العربية، فمن تصفحه بعين النقد رأى القد على القد.»
ونستطيع أن نستوضح في جلاءٍ هذا المنهجَ بالنظر في مسرحية «الشيخ متلوف»، التي لا تزال فرقتنا القومية تقدمها بزجلها العامي الذي كتبه «محمد عثمان جلال» لجمهورنا حتى اليوم، فهذه المسرحية اسمها بالفرنسية «طرطوف»، وطرطوف هو اسم بطلها القسيس المنافق الذي استطاع أن يستغلَّ سذاجة أحد المؤمنين لكي يتسلل تحت ثياب التقوى والورع إلى بيته، حيثُ حاول الزواج من ابنته الصغيرة ومغازلة امرأته، بل ويصل إلى حد انتزاع تنازل من رب الأسرة الساذج له عن كل أمواله، وأوشك أن يفتك بالأسرة كلها لولا أن انكشف نفاقه في النهاية، وقَبَضَتْ عليه سلطات الحكومة؛ لتُنْقِذ من شَرِّه الأسرةَ كلها، وجاء محمد عثمان جلال فغَيَّر اسم طرطوف إلى اسم «الشيخ متلوف»، كما غَيَّر أسماء جميع الشخصيات الأُخرى؛ لينقل أحداث المسرحية كلها ومضمونها برمته إلى بيئتنا المصرية، حيثُ لم يكن من الصعب عندئذٍ أن نَعْثُر فيها على مثل هذا المنافق الذي يُسَخِّر الدين والشرف لأغراضه الدَّنيئة، وإن كنَّا نلاحظ بعد ذلك أنه قد احتفظ بجميع المعاني التي وَرَدَتْ في النص الفرنسي، بل والتزم الدقة المطلقة في نقلها إلى زَجَلِه العامي حتى لَيُمْكِن القول بأنه قد قام بترجمةٍ دقيقة للنص رغم تمصيره للمسرحية في زمانها وشخصياتها ولغتها.
وأمَّا ما يصح أن نُسَمِّيه تعريبًا فذلك ما فعله السيد مصطفى لطفي المنفلوطي في القصص والمسرحيات التي كان يُترجمها له عن الفرنسية بعضُ العارفين بتلك اللغة ترجمةً حرفية، يقرؤها المنفلوطي ويستوعب أحداثها وشخصياتها، ثم يُعيد كتابتها بأسلوبه العربي العاطفي المشهور في صورة قصص، ولو كانت في أصلها الفرنسي مسرحيات، مثلما فعل في مسرحية «سيرانودي برجراك» و«في سبيل التاج» اللتين كتبهما أو أعاد كتابتهما في صورة قصة، وسمى الأولى «الشاعر» واحتفظ للثانية باسمها، وذلك إلى جوار القصص التي أعاد كتابتها وأضاف إليها الكثير من ذات نفسه الرومانسية العاطفية المسرفة في الليونة مثل: «الفضيلة» و«مجدولين» و«غادة الكاميليا».
وأمَّا الاقتباس — وبخاصة الخفي المتنكر منه على مذهب «حسن أبو علي اقتبس المعزة» — فقد استشرى بنوع خاص خلال الحرب العالمية الأولى وفي أعقابها مباشرة، وكان هذا الاقتباس يسطو بالبداهة على المسرحيات الأجنبية وبخاصة الفرنسية غير المشهورة، وبالتالي الرديئة؛ حتى لا يَفْتَضِح أَمْر المقتبس.
وللأستاذ يحيى حقي بحث هام عن مسرح الريحاني نَشَرَه في كتابه الأخير: «خطوات في النقد»، أوضَحَ فيه كيف أنَّ مَن كانوا يؤلفون لمسرح الريحاني كأمين صدقي وبديع خيري والريحاني نفسه كانوا يَسْطُون على أَرْدَأ المسرحيات الفرنسية الفكاهية من النوع المعروف باسم «الفودفيل»، ويدَّعون أنهم قد اقتصروا على الاقتباس حينًا، بينما يدَّعون أحيانًا أُخرى أنهم قد خَلَقُوا تلك المسرحيات المسروقة وأنشئوها إنشاء، بل لقد ثبت أنَّ كاتبًا مُثَقَّفًا كبيرًا مثل محمد تيمور كان هو الآخر يقتبس بعض مسرحياته من الأدب الفرنسي، مثل مسرحية أو أوبريت «العشرة الطيبة» التي وَضَعَ ألحانها سيد درويش، فإنها مُقتبسة من مسرحية «ذو اللحية الزرقاء» الشهيرة، وكذلك مسرحية «عبد الستار أفندي» وربما أيضًا مسرحية «عصفور في القفص».
وأخيرًا تظهر حركة الترجمة الأدبية الأمينة في أوائل هذا القرن، وكان رائدها في عالم المسرح الشاعر الكبير خليل مطران، وإن يكن قد أَدْخَلَ بعض التعديلات التي رأى في إدخالها ما يَتَّفِق مع إمكانيات مسرحنا العربي، وتَبِعَه أو شَارَكه في هذه الحركة إبراهيم رمزي، وطه حسين؛ وغيرهم من كبار أدبائنا، وكانت أول مجموعة أدبية في هذه الحركة هي المجموعة التي أشرفت على ترجمتها وزارة المعارف العمومية عندئذٍ، وهي تضم عشر مسرحيات من الروائع مثل: مكبث، والملك لير، وترويض النمرة، وتاجر البندقية لشكسبير، وأندروماك لراسين، وعدو الشعب لإبسن، وهوراس لكورني، وسناله أيضًا، وطرطوف لموليير، وهرناني لهوجو وغيرها.
ثم تتابعت حركة الترجمة حتى كانت ثورتنا الأخيرة التي دَفَعَت الدولة إلى الاهتمام بحركة الترجمة وتشجيعها والإنفاق عليها، إلى جوار الجهود الفردية وجهود دُور النَّشر الأهلية التي تواصل العمل في هذا الاتجاه، فتَبَنَّت الثورة مشروع الألف كتاب، كما أنشأت وزارة الثقافة والإرشاد القومي سلسلة «روائع المسرح العالمي» التي ظهر منها حتى اليوم ثماني عشرة مسرحية مختارة من روائع الآداب العالمية المختلفة، وهي ترجمات يقومُ بها مُتَخَصِّصون يجيدون اللغة المترجم عنها، كما يُحْسِنون لغتهم العربية الفصيحة ويُراجعها متخصصون أيضًا، كما يقدم لكل مسرحية أحد الأساتذة المتخصصين في أدب تلك المسرحية عامَّة، وفي الأدب المسرحي وتاريخه ونقده خاصة.
ولم تقتصر حركة الترجمة التي نشهدها اليوم على ترجمة النصوص المسرحية، بل امتدت إلى ترجمة أُمَّهات الكتب العالمية التي كُتِبَت في تاريخ الأدب المسرحي، مثل كتاب الأستاذ ألاريدس نيكول عن تاريخ الأدب المسرحي في أوروبا كلها، واسمه «المسرحية العالمية» الذي ظَهَرَ منه الجزء الأول على أن تليه قريبًا الأجزاء الأربعة الأُخرى التي انتهت ترجمتها ومُراجعتها، كما تَرْجَم لنفس المؤلف كتابه الشهير: «علم المسرحية» وكتاب اسمه: «الدراما» لأشلي ديوكس و«في الفن المسرحي» لإدوارد كريج، وكل ذلك فضلًا عما أشرفتْ على ترجَمَتِه ونَشْره المؤسساتُ غير الحكومية من مراجع هامة تتعلق بفن التمثيل، أو فن كتابة المسرحية، أو علم المسرحية، أو فن الإخراج، أو السلاسل الأهلية لروائع المسرحيات أيضًا مثل سلسلة «المكتبة الدرامية».
هذا هو — في إيجاز — تاريخ وتطور حركة التمصير والتعريب والاقتباس والترجمة، وبقي أن ننظر في جدوى كل ذلك على فنِّ التمثيل والأدب المسرحي في بلادنا، وفي السياسة التي يَحْسُن اتباعها أمام كل من هذه التيارات.
ونُحِبُّ أن نبدأ بالتنبيه على خطورة ما يُسَمَّى بالاقتباس وبخاصة الخفي منه، فهو لا يَخْرُج عن كَوْنه سرقة لا يمكن أن يُبِيحها مجتمع يَحْتَرِم نفسه، وبخاصَّة إذا ذَكَرْنا أنَّ الاقتباس المستَتِر لا يعمد إلا إلى الرديء الخامل غير المشهور من المسرحيات الأجنبية.
ونحن إذا كنَّا نحرصُ على أن نستفيد من خبرات الغير؛ فيجب أن تكون استفادتنا من روائع ذلك الغير لا من إنتاجه المُنْحَطِّ الذي كان يسطو عليه رجال المسرح السابقون في بلادنا، وإذا لم يكن بُدٌّ من الاقتباس أو لم تكن هناك ضرورة مُلِحَّة لحظره ومُطَاردته في عنف، فليكن الاقتباس مُعْتَرَفًا به من صاحبه، وليكن بالتالي من روائع الآداب العالمية التي قد يرى المقتَبِس أنه من الخير والحكمة أن يأخذ الفكرة أو هيكل المسرحية؛ ليُعيد كتابتها على نحوٍ يَتَّفِق مع بيئتنا الخاصة ومشاكلها المحلية أو الإنسانية العامَّة أو مع معتقداتنا وأُسُس حياتنا، على نحوِ ما فَعَلَ أخيرًا الأستاذ فتوح نشاطي عندما اقتبس — وأعلن أنه اقتبس — مسرحية «بيت من زجاج» من الكاتب الفرنسي السريالي الشهير جان كوكتو، وقدَّم مَسرحيته المقتَبَسَة لفرقتنا القومية التي مَثَّلَتْها في الموسم الأسبق، فهذه المسرحية مقتبسة من مسرحية «الأهل المفزعون»، وقد رَأى فتوح نشاطي أنَّ فيها بعض أحداث لا تتفق مع واقع حياتنا، فاكتفى بأن اقتبس فكرة المسرحية وبعض أحداثها الأساسية عن المؤلف الفرنسي، على أنْ يُعيد صياغة المسرحية من جديد، فكان له من ذلك مسرحية «بيت من زجاج» التي تُعالج غيرة الأم من خطيبة ابنها الذي تحبه حبًّا مُسْرِفًا.
وأمَّا عن حركة التعريب على النحو الذي كان يقوم به السيد مصطفى المنفلوطي عندما كان يحتفظ للقصة أو المسرحية بِجَوِّها الأجنبي وأسماء شخصياتها الأجنبية، ثم يضيف إليها الكثير من ذات نفسه ومن جوِّه وبيئته الشرقية، فمن الواضح أنَّ هذا المنهج قد اختفى تمامًا من بلادنا، وإنَّما الذي بقي أو يُمكن أن يَبْقى فهو تيار التمصير الذي بَرَع فيه محمد عثمان جلال، وهو تيار لا نَرَى منه ضيرًا، بل نرى فيه فائدة كبيرة إذا التزم مَن يقومون به في دقةٍ منهجَ محمد عثمان جلال من حيث الدقة والمهارة في نقل مضمون المسرحية وكافة معانيها لنُثْرِي بذلك حياتنا الإنسانية والفنية، والتزموا البناء الفني للمسرحية، كما خَرَجَتْ من بين يدي كاتبها الأصلي، ونحن نعتقد أنَّ الكوميديا هي المجال الخصيب لهذا التمصير؛ لأنَّ اللغة العامية هي الأكثر صلاحيةً لهذا الفن، وأمَّا الدراما أو المأساة فلربما كانت الفصحى أصْلَحَ لترجمتها أو تعريبها من العامية، باعتبار أنَّ الدراما قد يكون فيها من المعاني والأحاسيس ما هو أعمق من أن تستطيع العامية التعبير عنها؛ لأنَّ شعبنا لم يستخدمها في مثل تلك الأغراض بحكم فَقْر حياته الثقافية والفكرية، بل وسطحية حياته العاطفية في الغالب طوال قرون الجهل والظلام الطويلة التي مَرَّتْ به.
ولا يبقى بعد ذلك غير الترجمة، وهذا عمل نافع، بل وضروري لا غنى عنه لكي نُضِيفَ إلى حياتنا الثقافية والفكرية والفنية كل يوم جديدًا، وبخاصة في مجال الأدب المسرحي الذي ليس لنا فيه تراث قديم، وتراثنا الحديث منه لا يزالُ محدودًا، وفي الغالب الأعم دون المستوى العالمي الذي يجبُ أن نُسرع إلى بلوغه.
ولما كانت حركة الترجمة إلى العربية تُشاركنا فيها جميع الشعوب العربية الأُخرى، مما قد يُؤدي إلى تكرار ترجمة النص الواحد في أكثر من بلد عربي، بل وكثيرًا ما يَحْدث أن تُعاد ترجمة النص الواحد في نفس البلد العربي الذي كان قد سبق أن تُرْجِم فيها، فضلًا عن تعدد الجهات الحكومية والأهلية التي تُشْرف على الترجمات وتقوم بنشرها وإذاعتها بين الجماهير؛ فإننا نعتقد أن حركة الترجمة في العالم العربي كله تحتاج إلى تنسيقٍ ادخارًا للجهد والمال، ولعل الإدارة الثقافية لجامعة الدول العربية تستطيع أن تقوم بتنسيق هذه العملية بين الدول العربية المختلفة، وبخاصة بعد أن تُوصي الجامعة العربية دُوَلَها بأن تُنَسِّق وتُنَظِّم كلُّ دولة من دولها عمليةَ الترجمة في داخلها، ويا حبذا لو أنشأت كل حكومة في بلادها وزارة خاصَّة للترجمة تتوحد فيها إدارات الترجمة الحكومية، كإدارة الألْف كتاب، وإدارة الترجمة في وزارة التربية والتعليم، وإدارة الترجمة في وزارة الثقافة والإرشاد في بلادنا، ثم تُنَسِّق عَمَلَ كل هذه الإدارات مع الجهود الفردية وجهود المؤسسات الأهلية أو الأجنبية التي تعمل في بلادنا، وتَرْسُم لعملية الترجمة خُطَّة مدروسة مُسْتَمِرَّة لمواصَلة اللحاق بالركب العالمي.
وفيما يختص بترجمة المسرحيات بالذات نُلاحظ أنَّ الجامعة العربية تقوم الآن بالإشراف على ترجمة مسرحيات شكسبير كلها، كما أنها تُفكر في ترجمة مسرحيات غيره من العمالقة ترجمةً كاملة، وبالفعل تَحَدَّثَت الصحفُ عن مشروعٍ تُفَكِّر إدارتها الثقافية في النهوض به بعد مشروع شكسبير، وهو مشروع ترجمة مسرحيات الشاعر الفرنسي الكلاسيكي راسين، وإن كنَّا نودُّ أن لو روجعت الترجمات السابقة لبعض تلك المسرحيات للانتفاع بها أو الاستغناء بها عن ترجمة جديدة، فترجمة الدكتور طه حسين مثلًا لمسرحية أندروماك لراسين لا نظن أنها تُفْسِح المجال لترجمة جديدة لنفس المسرحية.
وسِلْسِلة الرَّوائع التي تقوم إدارة الثقافة في وزارة الثقافة والإرشاد القومي بالإشراف عليها وتمويلها ونَشْرها تستهدف غرضين: أَوَّلهما: وَضْع هذه الروائع العالمية بين أيدي قراء العربية، وبخاصة الأدباء الذين يُريدون أن يكتبوا للمسرح ويحتاجون بالضَّرورة إلى نماذج جيدة تُبَصِّرهم بأصول هذا الفن. وثانيهما: تغذية فِرَقِنا المسرحية بالنصوص الجيدة من الأدب العالمي لتقديمها إلى الجمهور، وقد تَشَكَّلَتْ أخيرًا في هذه الإدارة لجنة فنية؛ لتختار من الآداب العالمية المسرحيات التي تُلائم جمهورنا وتصْلُح لأن تُمَثِّلها فِرَقُنا التمثيلية المختلفة، وذلك لكي يزداد توجيه هذا المشروع نحو توفير المسرحيات التي تحتاجها فِرَقُنا التمثيلية لكي تنهض بعملها على مستوًى رفيع، وبخاصَّة وأنَّ إنتاجنا المحلي الجيد في الأدب المسرحي لا يزال قاصرًا على أن يغذي فرقنا التمثيلية الآخذة في الازدياد، والتي ستتضاعف في السنوات المقبلة، وبخاصة بعد أن يَعُمَّ فنُّ التمثيل كافةَ محافظاتنا بفضل دُور التمثيل التي ستُنْشَأ في قصور الثقافة بعواصم جميع المحافظات، وسيتم إنشاؤها بتمام مشروع الخمس سنوات الجاري تنفيذه الآن.