من بريخت إلى «الأرانب»
قدم مسرح الجيب مسرحية «الاستثناء والقاعدة» لبرتولد بريخت، وهي مسرحية قد لا تكون من أشهر مسرحيات بريخت وأكثرها استكمالًا للخصائص المميزة للمسرح الملحمي، كما استقر عليه هذا الكاتب العالمي في الفترة الأخيرة من حياته، ولكنها مع ذلك مسرحية رائعة؛ إذ كانت تُخَاطب العقل كما عهدنا من بريخت، وتستخدم الرواية والكورس والموسيقى التصويرية وتتخذ من الجمهور هيئةَ مُحَكِّمين، تُريدُ أن تستصدر منه حُكمًا في قضية من القضايا.
ولكنها لا تعتمد في أدائها التمثيلي اعتمادًا كليًّا على التغريب، أي: اعتبار الممثلين أنفسهم غرباء عن الأدوار التي يقدمونها كالمحامي الذي يقدم وقائع وعناصر القضية؛ وذلك لأنها تَقِفُ موقفًا وسطًا بين الأداء التقليدي الذي يتقمص الممثل فيه دوره، وبين التغريب الذي يلتزم به في مسرحيات بريخت الملحمية الخالصة، وكان في هذا الموقف الوسط ما مكَّن المخرج المستنير فاروق الدمرداش ومصمم الديكور الماهر أحمد إبراهيم والنُّخبة الممتازة من الممثلين الذين قدموا هذه المسرحية من إتقان أدوارهم.
وبريخت ينظر إلى الجمهور في هذه المسرحية كهيئة تحكيم أو قضاة يريد أن يستأنف أمامها حكمًا أصدرته محكمة في القضية التي مثلها الممثلون، وهي قضية تاجر رأسمالي أَرْهَقَ أجيرًا في عبور صحراء مترامية للوصول إلى مقر شركة بترول يريد الرأسمالي أن يسبق إلى الحصول منها على امتياز، بل ويستأثر دونه بما يحمل من ماء للشرب، ويشعر الرأسمالي بالإنهاك ويتداعى، ويهم الأجير بأن يحمل إليه زمزمية الماء، ولكن التاجر القاسي النَّفس الشرير يُطلق الرصاص على الأجير وهو متجه نحوه زاعمًا أو مُدعيًا أن الأجير كان يحمل حجرًا يريد أن يقتله به انتقامًا منه، ولما كانت القاعدة المنطقية العامة تقول إنه من الطبيعي أن يحاول المظلومُ المستغَلُّ رَدَّ الظلم والاستغلال بأية وسيلة ممكنة، فقد حكمت المحكمة ببراءة التاجر القاتل مُعتبِرة إياه في حالة دفاع عن النفس، غير مُقَدِّرة أنَّ القاعدة العامة التي استنَدَتْ إليها في ترجيح البراءة قد يكون لها استثناء نتيجة لتفاوت النفوس، فالأجير نُحِسُّ أنه لم يكن شريرًا ولم يحاول قَتْل التاجر بحجر، بل كان يحمل إليه — فعلًا في عتمة الظلام — زمزمية الماء، ولكن التاجر يقتله نتيجة لإحساس بالذنب يدفعه إلى إساءة الظن بهذا الأجير المسكين، وهذا هو الحكم الذي يستأنفه بريخت أمام الجمهور على لسان الراوية والكورس، راجيًا أن يقضي الجمهور بأن التاجر الشرير مذنب ويستحق الإدانة.
ولما كان الممثلون قد مثلوا فعلًا هذه الحادثة، فقد اصطدموا هم والمخرج ومصمم الديكور بصعوبات كبيرة في الأداء كصعوبة تمثيل عبور الصحراء الممتدة مئات الأميال على خشبة المسرح، فمثل هذا المشهد لا تستطيعه إلا السينما أو المسرح الدائري، ومع ذلك استطاعت هذه المجموعة من الفنانين الممتازين أن تعرض بنجاح هذا المشهد عن طريق الإيحاء بطريقة تحريك الأرجل وإظهار علامات التعب المرهِق، ولقد أدهشني الفنان جلال الشرقاوي بقدرته على التمثيل في دور التاجر أكثر مما أدهشني في إخراج ما أخرج من مسرحيات.
وبعد بريخت شهدت مسرحية «الأرانب» للطفي الخولي في مسرح الحكيم، وهي المسرحية التي تجهم لها النُّقاد، ولكنني أود أن أكون أكثر دقة وعدلًا، ففكرة المسرحية تقدمية حقًّا، بل وجديدة؛ وذلك لأنها لا تُدافع عن حق المرأة في السفور وفي العمل كضرورة اجتماعية أو اقتصادية كما جرت العادة في المسرحيات الكثيرة السابقة، التي أيَّدَتْ أو عارَضَتْ هذا الحق، منذ مسرحية «المرأة الجديدة» لتوفيق الحكيم حتى مسرحية «ماهية مراتي» لأنور قزمان، بل تُعَالج هذه القضية على أساس جديد هو الأساس النفسي ومدى ما يؤدي إليه العمل بالنسبة للمرأة من صحة النفس، بينما القبوع في البيت والانهماك في تفاصيله الصغيرة يُضْنِي نفسية المرأة المتعلمة المؤهلة، كالزَّوجة المحامية التي رأيناها في هذه المسرحية، وعلى هذا الأساس قلتُ إن الفكرة تقدمية وجديدة.
ولكن عرض القضية وعناصرها هو الذي أثار النقاد فيما يبدو، فالمرأة المتعلمة تستطيع أن تجد في البيت وسائلَ أرْفَع وأمتع من تخييط الأزرار ورَتْق الجوارب؛ لأنَّها تستطيع القراءة، كما تستطيع مشاركة زوجها في اهتماماته المهنية والثقافية العامة، وبخاصة وأنه محامٍ مثلها، وعلى هذا الأساس كنَّا نرجو من المؤلف أن يبرز لنا عدم إمكان الزوجة الحصول على هذه المتع الرفيعة التي تضمن لها سلامة النفس وصحة الوجدان.
ولكن المؤلف لم يفعل ذلك، وكل ما فعله هو أن تخيل باسم العلم حيلة مسرحية هي قلب الرجل، أي: الزوج، إلى أنثى، وقلب المرأة، أي: الزوجة، إلى رجل بواسطة حقن، زعم أحد الأطباء الباحثين أن تجربتها قد نجحت في الأرانب، وعندئذٍ تنقلب المسرحية إلى «البرلسك» الذي تحدث عنه الدكتور لويس عوض، ولا ترتاح النفس ولا يمكن أن ترتاح لمحاولات التخنث الفاقعة التي اضطر إليها الممثل المسكين الذي نهض بهذا الدور الفظيع، وكل ذلك لكي يبلو الزوج حياة القبوع في البيت ويقتنع في النهاية بقسوتها وضررها بصحة النفس والوجدان.
ولقد يكون من الصحيح أنَّ المعاناة الفعلية هي خير وسيلة لإقناع ذوي النفوس المتحجرة والخيال الفقير، ولكن السبيل إلى هذه المعاناة الفعلية قد سلك إليه في هذه المسرحية بحيلة مفتعلة لا ترضاها نفس مهذبة، وذلك رغم ما أحسست به من أنَّ المخرج الشرقاوي والممثل عادل بدر الدين في دور الزوج، وزهرة العلا في دور الزوجة، قد حرصوا جميعًا على عدم الإسراف في أداء المشاهد التي انقلب فيها الرجل إلى امرأة والزوجة إلى رجل، وإن تكن تلك المشاهد قد ظلت بحكم طبيعتها منفرة، كل ذلك فضلًا عن ازدواج في القضية الأساسية لا أرى له مبررًا كافيًا، وذلك في أشخاص عائلة المأذون ومعارضته في سفر ابنته الممتازة في بعثة دراسية إلى الخارج.