«محدث نعمة» في محمد فريد
يعرض مسرح العروبة الآن على مسرح «محمد فريد» «كوميديا» البرجوازي النبيل لشاعر الكوميديا الأكبر موليير، بعد أن مصَّرها الأستاذ فتوح نشاطي وسماها «محدث نعمة»، وهي تُعتبر من مسرحيات موليير الكبيرة الخالدة في الحياة؛ لأنها تعالج مشكلة مستمرة الظهور في جميع المجتمعات الطبقية، وكانت هذه الظاهرة سائدة في عصر الملكية الأرستقراطية في فرنسا عندما قدمها موليير عام ١٦٧٠ بباريس، ولحن بعض مشاهدها الرَّاقصة المؤلف الموسيقي المشهور لوللي.
فلقد كانت طبقة النبلاء عندئذٍ مرتبطة بالدم، أي محصورة في ذوي الدماء الزرقاء الذين سُمُّوا بهذا الاسم؛ لأنَّ جلودهم رَقَّتْ من البطالة والنعمة والرَّفاهية حتى شفَّتْ عن شرايينهم الزرقاء تحت جلودهم، وكانت لتلك الطبقة في عصر لويس الرابع عشر تقاليد وعادات عريقة وآداب اجتماعية هي التي كوَّنَتْ ما عُرِف في أوروبا كلها بعْدَ ذلك باسم الإيتيكيت الفرنسي، ولم يكن الثراء وَحْده يكفي عندئذٍ للدخول في تلك الطبقة المحددة، بالدم أي: بالسلالة، وذلك بالرَّغم من أنَّه كانت قد أَخَذَتْ تتكون في المدن عندئذٍ طبقة جديدة من التجار وأصحاب المهن سُمِّيت بالطبقة البرجوازية أي: طبقة سُكَّان المدن، ولكنها رغم ثرائها لم تستطع أن تندمج في الطبقة العليا — طبقة نبلاء الدم — بل اعتُبِرَت طبقة وسطى، وظلَّت تُعْتَبَر كذلك حتى استطاعت هي نفسها أن تقضي على طبقة النبلاء بالثورة الفرنسية الكبيرة في سنة ١٧٨٩، وهي الثورة التي تُعتبر ثورة البرجوازية من سكان الحضر، وإن تكن هذه الطبقة البرجوازية قد أصبحت بعد تلك الثورة الطبقة العليا في المجتمع، وبخاصة بعد أن ازدادت ثراءً في القرن التاسع عشر نتيجةً لازدهار الصناعة والتجارة، بحيث أصبحت لفظة البرجوازية تعني في التاريخ الحديث الطبقة الرأسمالية التي حَلَّتْ محل النبلاء القدماء على قمة المجتمع وفوق رأسه، وكان لا بدَّ من ثورة جديدة تقوم بها هذه المرة جمهرة الشعب من العمال والفلاحين، أي: الطبقة الثالثة، للتخلص من سيطرة البرجوازية، وتلك كانت الثورة الاشتراكية التي أخذ القرن التاسع عشر يُعِدُّ لها، وانفجرت أول ما انفجرت في روسيا في أكتوبر سنة ١٩١٧.
وبالرغم من وجود برزخ لا يمكن عبوره بين طبقة النبلاء والبرجوازية — في عصر ازدهار الملكية في فرنسا في القرن السابع عشر — إلا أنَّ البرجوازيين الأثرياء لم يكونوا يَخْلون من تطلُّع طبقي نحو التشبه بالنُّبلاء في عاداتهم وأسلوب حياتهم وآدابهم الاجتماعية المتكلفة.
وبالرَّغم من أن موليير لم يكن ثائرًا بطبعه، بل كان في نشأته الأولى ممثلًا فكاهيًّا يحرص على رضا الطبقات الحاكمة وذوي الثراء، إلا أنه استطاع بروح الفكاهة — التي تبدو هينة في ظاهرها، ولكنها عنيفة قاسية في جوهرها — أن ينتقد مجتمعه كله بطبقاته المختلفة، وبخاصة الطبقة العليا والبرجوازية أعْنَفَ النقد، حتى ليرى بعض النقاد أنَّ موليير كان ممن مهَّدوا للثورة الفرنسية الكبرى وعملوا على تقويض أُسُس المجتمع الطبقي، والنظام الملكي الأرستقراطي كله.
وموليير في مسرحية «البرجوازي النبيل» أو على الأصح البرجوازي المتنبل، أي: المتطلع إلى النبلاء والمتمحك بهم، كان ينقد في الواقع مرضًا دائمًا مستقرًا في تلك البيئة هو داء التطلع الطبقي التافه، ولم يكن قط ينقد حالات فردية عرضية كحالات أثرياء الحرب أو محدثي النعمة.
والسيد جوردان بطل مسرحيته لم يكن حديث نعمة، بل كان ذا ثراء عتيد؛ ولذلك كان تحويله إلى محدث نعمة في المسرحية الممصرة لا بدَّ أن يستتْبِع تصرفات غليظة محمومة حمقاء، باعتبار أنَّه لم يألَف النعمة التي طرأت عليه، فالمعلم «شنطح» الجزار الذي أصاب ثروة من جزارته في الخرنفش أو قلعة الكبش لم يلبث أن انتقل هو وزوجته «كيداهم» وابنته «فتنة» إلى فيلا فاخرة بالزمالك، مع أنَّ ثراءهم كان نتيجة لظروف الحرب؛ ولذلك نرى سعيه إلى التشبه بالنبلاء يُشبه التخبط الأبله والمبالغات الصارخة، في حين أنَّ المسرحية الفرنسية كانت تصور عادات وتقاليد مُسْتَقرة في البيئة الفرنسية عندئذٍ ولم يكن من السهل العثور عليها في بيئتنا المصرية البائدة.
فطبقة الهايلايف في القاهرة لا نظن أنه كان من تقاليدها تعلُّم لعبة الشيش أو دراسة الفلسفة والموسيقى، على نحو ما كان يفعل ذوو الدماء الزرقاء في عصر لويس الرابع عشر، حيث كانت لتلك الطبقة العتيدة عاداتها وتقاليدها المحددة، بينما كان «الهايلايف» في القاهرة يتخبطون في محاكاة أنواع مختلفة من التقاليع التي يحاكون فيها مختلف البيئات الأوروبية والتركية، كما تحاكي القرود في غير فهم ولا ذوق ولا رهافة حس، ولكل هذا لم تكن عملية التمصير سهلة؛ لأنها تتطلب تغييرًا كليًّا في العادات والتقاليد نتيجة للاختلاف الكبير بين البيئتين وأسلوب الحياة في كلٍّ منهما.
وبالرغم من كل هذه الصعوبات إلا أنَّ الأستاذ فتوح نشاطي بحسه المسرحي الراسخ قد استطاع أن ينقل إلينا الفكرة الأساسية في هذه الكوميديا الكبيرة العميقة، وهي فكرة السخرية من التطلع الطبقي الأبله، واحتفظ للمسرحية ببنائها الفني الأصلي، وختمها بنفس الخاتمة، وهي نجاح فتنة بنت المعلم شنطح في الزواج من الشاب الذي اختارته، وهو جلال ابن أحد تجار التربيعة، بعد أن نجحت مؤامرة مضحكة ضد شنطح بتنكر جلال في زي أحد أحفاد سلاطين الأتراك، ويضحك الجمهور ملئ رئته من المغفل شنطح، بعد أن يتبين هو نفسه خديعته وعبث أحد النصَّابين به عندما أخذ يبتز ماله بدعوى اتصاله بالسراي، وقدرته على أن يأتيه برتبة البيه، ثم رتبة الباشا.
ومن الواضح أن التمصير في هذا الموضع قد أصاب نجاحًا كبيرًا، والتقى بظاهرة مضحكة كانت متفشية فعلًا في بيئتنا المصرية في عهد الملكية البائدة، عندما كان سماسرة الرتب يعيثون في الأرض فسادًا ويستغلون سذاجة البله من الأثرياء وأغنياء الحرب أقبح استغلال وأشد إثارة للضحك والسخرية.
وأما من حيث الإخراج والأداء التمثيلي: فقد نجحت المسرحية مع مراعاة ما ساقت إليه عملية التمصير بالضرورة من شيء من التضحية، ومن المبالغة الكاريكاتيرية، باعتبار أنَّ هذا التمصير قد نقل المسرحية من أرضٍ صلبة إلى أرضٍ رخوة موارة، أي: من أرضِ النبالة الفرنسية المرهفة إلى أرضِ الهايلايف أغنياء الحرب أو محدثي النعمة في القاهرة أيام عصر القرود من أمثال المعلم شنطح، وإن يكن الكاريكاتير في المسرحية الممصرة قد أسبغ عليها روحًا محلية قاهرية لطيفة لقيت من الجمهور تجاوبًا.