«المحروسة» والنقد الاجتماعي
تقدم سعد الدين وهبة إلى الفرقة القومية بمسرحيته الأولى «المحروسة»، وهي من نوع كوميديا النَّقد الاجتماعي، وأجازَتْها لجنة القراءة التي لم توافق على مسرحيات أُخرى مكتوبة بالفصحى أو بالشعر، ولكن إجازَتَها لها ورفضها لغيرها لم يكن أساسه قط أداة التعبير اللغوي، وتفضيلها العامية على الفصحى أو على الشعر، بل بَنَتْ موافقتها على معالجة هذه المسرحية لواقع حياة جمهورنا في ظل العهد الملكي البائد، حيث كان الفساد قد استشرى وأُهْدِرَتْ كرامة القانون وهيبته إرضاءً لحاشية الملك وخدمه، وأصبح ممثلو السلطة في مراكز الأرياف التي تقع بها تفاتيش ملكية لا همَّ لهم إلا إرضاء «جلالته» وأتباعه، أو على الأصح زبانيته، واعتبار الشعب مجرد بقرة حلوب لا يصح لها أن تشكو أو تتبرم.
وقد جسَّد المؤلف هذه السلطة الفاسدة في شخص مأمور المركز الجعجاع التافه الذي لا همَّ له إلا إرضاء ناظر الخاصة وتلفيق التهم لصغار الملاك الذين لا يتنازلون عن أرضهم لتضم للتفتيش، أو عمال الزراعة المساكين الذين لا ينالون أجرهم من التفتيش، وإذا طالبوا به ساقهم العمدة بالاتفاق مع حضرة المأمور إلى المركز مقيَّدين بالحبال مَسُوقِين سَوْق الأغنام.
وإذا كان في المركز بعض الموظفين الذين يحترمون القانون ويرعون ضميرهم البشري في تطبيقه على الجميع بالعدل، فلقد كانت تصيبهم العداوة من حضرة المأمور المستبد إلى ناظر التفتيش الملكي.
وهذا هو ما يحدث في هذه المسرحية لوكيل النَّائب العام الذي لا يقبل تلفيق التهم للأبرياء، ثم للضابط الشاب سعيد الذي لا يقبل الزج بالعمال الزراعيين في السجن لا لشيء إلا لأنهم يطالبون بأجرهم المستحق من التفتيش الملكي، ولكنه يُغْضِب بذلك حضرة المأمور الذي ينقله من البندر إلى نقطة بوليس بأعماق الريف، وأما الصراع بين حضرة المأمور ووكيل النائب العام؛ فقد كان أكثر ضراوة وقوة وتشعبًا لتمثيل كُلٍّ من الطرفين إحدى سلطات الدولة الكبرى التنفيذية والقضائية، وبخاصَّة وأنَّ المؤلف قد زاد الأمور تعقيدًا ودرامية ساخرة، بأن أشرك في الصراع زوجة المأمور التافهة الفارغة العقل، التي تناصب زوجة وكيل النيابة العداء لأتفه الأسباب، كزيارة سيدات الأعيان لصالونها، أو مرور زفة المولد النبوي على بيتها قبل مرورها على بيت حضرة المأمور وزوجته، وما يزال يشتد بين الطرفين حتى ينجح المأمور في النِّهاية — وبفضل أتباع الملك — في نقل وكيل النيابة الشريف إلى أقصى الصعيد.
وهنا كنت أفضل أن لو وقف المؤلف عند هذا الحد واعتبره خاتمة لمسرحيته الجيدة البناء والتصوير، ولكننا مع ذلك عَلِمْنا في النهاية أنَّ المأمور هو الآخر قد نُقل إلى مركز آخر بمديرية البحيرة، حيث يوجد تفتيش آخر «لجلالة» الملك، دون أن نتبين في وضوح هل الصراع بين المأمور ووكيل النيابة دخل في هذا النقل أم لا؟ ولكننا على أية حال أحسسنا أنَّ المأمور كان يود أن يبقى في مركزه ولو بعض الوقت ليتمتع بانتصاره، ويا حبذا لو كان المؤلف قد حقق رغبته ليتركه مُترديًا في حمأة انتصاره المزعوم المخزي، بدلًا من نقله الذي ظلت أسبابه غيرَ واضحة تمامًا، وأخشى أن يكون قد تطرق إلى بعض الأذهان ظنٌّ بأنَّ لعداوته لوكيل النِّيابة دخلًا في نقله، مما قد يوهم بوجود شيء من العدل أو المساواة في ظل ذلك العهد البغيض الذي لا نزال نذكر جميعًا إلى أي حدٍّ كان الفساد قد استشرى فيه، وإلى أي حدٍّ بَلَغَ ظلم الإقطاع مَلَكيًّا كان أم أهليًّا.
ولقد كان من حسنات هذه المسرحية الحرص على تجسيد بريق من الأمل في شخص الضابط سعيد رغم انتمائه إلى الطائفة التي كان الملك وأتباعه يُسَلِّطونها على الشعب، ويتخذون منها سوط عذابٍ لإلهاب ظهره، وهم طائفة رجال البوليس المغلوبين على أمْرِهم عندئذٍ.
وأمَّا عن إخراج وتمثيل هذه المسرحية؛ فقد رأيت تلاميذي في معهد الفنون المسرحية العليا يخفون إليَّ أثناء الاستراحة؛ ليسألوني كيف لم يغير المخرج ستائر المنظر الخلفية في المشاهد الثلاثة التي يتضمنها الفصل الأول بالرَّغم من انتقال الأحداث فيها من بيت المأمور إلى حانة القمار ثم إلى بيت العمدة؟
والسبب في تساؤلهم هو جدة الإخراج وحِرْص مخرجنا الشاب كمال يس على الخروج على الواقعية المسرحية، فهو قد احتفظ بتلك الستائر رغم تغير مكان الأحداث لقيمتها التعبيرية التي تنم عن تفكُّك المجتمع عندئذٍ وتفسخه وتحطُّم قيمه، فإخراجه لهذه المسرحية يقوم على الأسلوب التعبيري، كما رأيناه يلجأ في إخراجه لمسرحية «قصر الشوق» إلى أسلوب جديد أيضًا، وهو الأسلوب البانورامي أو السينمائي، على نحو ما أوضحنا في مقالنا بالجمهورية عن تلك المسرحية، ولا غرابة في ذلك، فكمال يس عائد لتوه من باريس، حيث لا يني فن الإخراج عن التجديد وتنويع الأساليب.
وإذا كان جمهورنا لم يألف بعدُ هذه الأساليب الجديدة وبخاصة الأسلوب التعبيري، فإنَّ ذلك لا يمنع من أن يُقَدِّم له مخرجونا الأَكْفاء كافة الأساليب، ويعودوه على كل منهج، حتى تكتمل ثقافته الفنية ويستطيع أن يميز أسلوبًا عن آخر ويعرف لكلٍّ مزاياه، وبخاصة بعد أن أصبح من المفهوم أنَّ المسرحية لم تعد نصًّا أدبيًّا فحسب، بل عدة وسائل تعبيرية تتضافر وتتساند في تجسيدات إبراز هدف المؤلف عن طريق البصر والفكر والإحساس معًا، وإلا فأين الأسلوب الذي يُسْتخدم في إخراج مسرحيات برتولد برخت الملحمية مثلًا من أساليب الإخراج التقليدية بكافة مذاهبها، وهو أسلوب يجب أن يُعْرَض هو الآخر إلى جمهورنا ليعرفه ويدرك حقيقته وأهدافه.
وكم نود لو أرسلنا أحد مخرجينا المثقفين إلى حيثُ يدرس أسلوب المسرحية الملحمية، ثم يعود ليخرج لنا إحدى مسرحيات برخت الفريدة في نوعها.
ومن الحسنات الطيبة التي نذكرها لكمال يس حُسْن اختياره للممثلين على نحوٍ مكَّن كلًّا منهم من أداء دوره على خير وجه، فتوفيق الدقن كان رائعًا في دور المأمور الجعجاع الذي تستأنسه زوجته التافهة المغرورة الشديدة الشبه ببنات الأعيان الرِّيفيين، وهذا هو الدور الذي عهد به المخرج إلى الممثلة القديرة فردوس حسن، التي لها من مظهرها الجسمي وطريقة حديثها وحركاتها ما يؤهلها تمامًا لهذا الدور.
وبودي أن لو توقفْتُ عند كل ممثل اشترك في هذه المسرحية لأطري مهارته وحُسن تفهمه لدوره على نحوٍ جَعَل من هذه المسرحية نجاحًا لا شك فيه، اشترك في تحقيقه المؤلف بحُسْن بنائه لمسرحيته، وتحديده لأبعاد شخصياته، وإتقانه للحوار الدرامي المتوثب الطبيعي، ثم المخرج بجودة فهمه للمسرحية وهدفها وحُسْن إخراجه لها، وتوزيع أدوارها على الممثلين، ثم مهارة هؤلاء في تقمُّص كل منهم لدوره وأدائه له في غير شطط ولا مبالَغة في لفظ أو حركة.