مسرح الإسكندرية الوليد
وأخيرًا وبعد مجهودات مخلصة بذلتها مؤسسة المسرح مع محافظة الإسكندرية في الإعداد؛ لتكوين وتثقيف وتدريب فرقة مسرحية خاصة بثغرنا الحبيب، ابتدأت هذه الفرقة منذ أيام عروضها الأولى في مسرح سيد دوريش، ودعت المحافظة الكثير من أساتذة الأدب والنقاد والفنانين لمشاهدة مَوْلد هذه الفرقة وثمرة الجهود المشتركة التي بُذِلَت في إنشائها، ولست أدري أهي المصادفة البحتة التي دفعت هذه الفرقة الوليدة إلى اختيار مسرحيتين بالغتي الصعوبة في الإخراج والتمثيل، وهما مسرحيتي «حياة تحطمت» التي سموها «القطر فات» للأستاذ توفيق الحكيم، ومسرحية «الحضيض» لمكسيم جوركي، وإن تكن الصعوبة في إحداهما مختلفةً عنها في الأخرى.
القطر فات
فمسرحية «القطر فات» أو «حياة تحطمت»، إذا صح أن مؤلفها قد كتبها حوالي سنة ١٩٣٠، فإنَّ معنى ذلك هو أنه قد كتبها في الفترة التي كان لا يزال يبحث فيها عن الصورة الدرامية الجديدة التي برع فيها بعد ذلك بفضل سلسلة مسرحياته الذهنية التي ابتدأها بعد ذلك بأعوام قليلة بمسرحية «أهل الكهف».
وإذا كان توفيق الحكيم قد جَدَّد شيئًا في مسرحيته التي عرضتها فِرقة الإسكندرية، فقد كان هذا التجديد في أضيق الحدود وأكثرها افتعالًا؛ لأنَّه لم يفعل سوى تغيير مُقدمة المسرحية، وهي عبارة عن دخول شخص منها على طبيب نفساني ومحاولة هذا الطبيب حل عقدته النفسانية بالإيحاء له بضرورة الثقة في نفسه؛ باعتبار أنَّ انهيار هذه الثقة هو الذي حطمه عندما هَجَرَتْه خطيبته لتتزوج من آخر.
ويلوح أنَّ الأستاذ توفيق الحكيم أراد أن يُجَاري العصر، فعقد مُقارنة مفتعلة بين الأفراد والشعوب التي لا يتمكن منها الاستعمار إلا عندما تفقد الثقة في نفسها، مثلما ينهار الفرد عندما يفقد هو الآخر الثقة في نفسه، ولكي يُقْنِع الطبيب مريضه أَخَذَ يَقُصُّ عليه تفاصيل حالة مشابهة مرَّت عليه منذ عشرين عامًا.
وهنا يُسْدَل الستار لنعود إلى الماضي لنشهد تلك الحالة المشابهة التي يستمر عرضها حتى نهاية المسرحية دون عودة إلى المقدمة وإلى الحالة الأولى، على نحو ما يحدث عادة في أسلوب العودة إلى الماضي الذي تمارسه السينما في أغلب الأمر.
فالمسرحية إذن عبارة عن الحالة القديمة التي مرَّت بالطبيب، وهي حالة لسوء الحظ جامدة رَاكدة لا يتطور الوضع فيها، ولا الشخصيات أيَّ نوع من التطور، كما أَنَّنا لا نقتنع لا بتصرفات المريض ولا بتصرفات الطبيب، فمنذ اللحظة الأولى يَدْخل رجل مُنْهَار كان محاميًا نابهًا ثم انهار؛ لأنَّ زوجته هجرته وطُلِّقَتْ منه لتتزوج رجلًا آخر ثريًّا ذا نفوذ اجتماعي كبير، ويظل هذا المحامي منهارًا حتى النهاية، وإلى أن يضع حدًّا لحياته بالانتحار، وذلك دون أن نشهد انهيار هذا المحامي ولا أن نحسَّ بمعركة نفسية خاضها وانهزم فيها، ولا أن نحسَّ بأي مدًى وَصَلَ إليه الطبيب في حل عقدته، ولا إلى أي مدًى وَصَلَ إليه فشله في هذه المحاوَلة، بحيثُ نندهش كيف أراد هذا الطبيب أن يتخذ من هذه الحالة مثلًا يضربه للمريض الذي رأيناه في مُقَدِّمة هذه المسرحية مصابًا بمثل هذه الحالة.
وكان ركود الموقف في هذه المسرحية عبئًا ثقيلًا على ممثلينا المبتدئين وعلى المخرج المستنير الذي قام بإخراج المسرحية، وهو الأستاذ محمد عبد العزيز، وذلك بالرَّغم مما أحسسنا به من طاقات حقيقية قادرة عند هؤلاء الممثلين الذين نهضوا بهذا العبء الثقيل المرهِق، كما أنَّ الديكور الواقعي الذي أحاط بهذه المسرحية قد عزانا عما فيها من ركود.
الحضيض
وأما صعوبة مسرحية الحضيض لمكسيم جوركي فلم يكن لركود الحركة الدرامية فيها، وإنَّما كان لأن هذه المسرحية لا تقوم على موضوع موحد وعلى عقدة مسرحية، بحكم أنها من النَّوع الذي ابتدأه تشيكوف ونمَّاه مكسيم جوركي.
فهذه المسرحية تُعتبر استطلاعًا دراميًّا لمآسي عدد كبير من الشخصيات في المجتمع الفاسد الذي كان قائمًا في روسيا في العهد القيصري الرأسمالي الإقطاعي، فهذا ممثل موهوب حطَّمَتْه الخمر، وذاك شخص اشتهر في بيئته أنَّه لص، ورغم رغبته الصادقة في أنْ يتخلص من هذه الوصمة، فالمجتمع لا يعفو عنه، ولا يمهد له سبيل العودة إلى الحياة الشريفة، وذاك حَدَّاد تقتله البَطَالة والعوز، وهؤلاء أناس يتخبطون في مشاكلهم الاجتماعية وروابطهم العاطفية والإنسانية، دون أن يَجِدُوا من مشاكلهم مَخْرجًا.
وإذا كان هناك ناسِكٌ مُتجول يلعب دور رسول المحبة والسلام والإصلاح في هذه البيئة الفاسدة التي وصلَتْ إلى الحضيض؛ فإن هذا المُصلح الاجتماعي يفشل هو الآخر ويولي الأدبار عندما يرى بعض هؤلاء الأشخاص يقْتُل بعضهم البعض الآخر، مما يقطع بأنَّ سياسة الإصلاح ومحاولة الترقيع في مثل هذا المجتمع لا جدوى منها، وإنما العلاج هو اقتلاع الفساد من جذوره بالثورة العارمة التي اشتعلت فعلًا في روسيا القيصرية بعد ذلك.
فالمسرح دراسة دقيقة رائعة للمُجتمع الروسي بفئاته المختلفة من البارون المفلس إلى الحَدَّاد المتعطل، وبالرغم من خروجها على الأصول التقليدية للدراما إِلَّا أنها مسرحية قوية رائعة عامرة بالحياة والحركة، مما أسعف الممثلين والمخرج — المبشر بمستقبل رائع «كمال عيد» — بنص يفتح المجال أمام الممثلين الشباب والمخرج المستنير، وراسمة الديكور البارعة، بتقديم عمل فني استحوذ على إعجابي، حتى رأيتُني أنسى ما في المسرحية من بعض الهنَّات مثل تحول الحوار أحيانًا — وبخاصة في الجزء الأخير من المسرحية — إلى ما يُشبه الخُطَب المنبرية الطويلة، وكم وددت أن لو اختصر المخرج بعض هذه الفقرات، بما لا يطمس ما فيها من أفكار إنسانية حية قوية.
ومع كلِّ هذا؛ فإنني قد سُرِرتُ بمشاهدة هذين العرضين على السواء، وحَمَدْتُ لمؤسستنا الكبيرة ولمحافظة الإسكندرية ولمُحافظها النشط حمدي عاشور، ما بذلوا من جهد صادق مخلص لإنشاء هذه الفرقة الناجحة في ثغرنا الحبيب.
وأرجو أن يشاهد جمهور القاهرة هذين العرضين قريبًا كما شَهِدْتُهما أنا ورفاق الرحلة الجميلة.