فِرقة دمياط «وغرام المهكعين»
ابتدأت فرقة دمياط المسرحية نشاطها التمثيلي في رأس البر هذا الشهر بمسرحيتين قصيرتين: إحداهما قديمة هي «ملك القطن» للدكتور يوسف إدريس. والثانية جديدة وهي «غرام المهكعين» من تأليف وإخراج الأستاذ نبيل الألفي. ومنَ المتوقَّع أن تُقَدِّم الفرقة هذا الشهر أيضًا برأس البر مسرحية أخرى كبيرة هي مسرحية «ست البنات» تأليف الأستاذ يوسف غراب، التي يقوم الآن بتدريب الممثلين عليها الأستاذ نور الدمرداش.
وقبل الحديث عن العرض الذي شاهَدْتُه أحبُّ أن أُلْفِتَ نَظَرَ المشرفين على هذه الفِرقة إلى أنَّ اختيارها لمسرحيات قديمة سَبَقَ أنْ قَدَّمَتْهَا مرارًا فرقة عاتية كفرقة المسرح القومي لم يكن في صالحها، وبخاصة في مصيف رأس البر الذي يتكون معظم رواد المسرح فيه من سكان القاهرة الذين سَبَقَ لهم قطعًا مُشاهدة «ملك القطن» و«ست البنات» في المسرح القومي بالقاهرة أو برأس البر، فضلًا عن الاستعانة بنفس المخرج، فالأستاذ نبيل الألفي هو نفسه الذي أخرج للمسرح القومي مثلًا «ملك القطن».
وأنا طبعًا أهنئ الفِرقة على حُسْن اختيارها لمثل هذا المخرج الممتاز، وإن يكن أسلوبه في الإخراج بالضرورة لم يتغير؛ لأنَّ المسرحية نفسها لا تحتمل أكثر من فَهْمٍ أو تفسير واحد، بحكم واقعيتها البالغة الوضوح، لست أعرف — على وجه التحديد — سَبَبَ اختيار فِرق المحافظات للمسرحيات التي سَبَقَ للمسرح القومي تقديمها، ويُخَيَّل إليَّ أن السبب الوحيد هو أن المسرح القومي يقدم لِفرق المحافظات هذه النصوص مجانًا، والظَّاهر أنَّ المحافظات لم تَفْطِن حتى الآن إلى أن الأساس الأول لقيام فن التمثيل هو تشجيع التأليف بسخاء، فنحنُ لا نريد تمثيلًا فحسب، بل نريد أيضًا أدبًا دراميًّا، كل ذلك فضلًا عن أن نجاح التمثيل نفسه وضمان إقبال الجمهور عليه يتطلب تقديم مسرحيات محلية جديدة أو مسرحيات عالمية بأسلوب وتفكير وفَهْم وأداء وإخراج جديد، وأمَّا مجرد تقديم مسرحيات عادية قديمة بواسطة فرق مبتدئة، بعد أن قَدَّمَتْها فرقة محترمة عاتية كفرقة المسرح القومي، فإنَّ في ذلك إرهاق للفرق الجديدة فضلًا عن عدم ضمان إقبال الجماهير.
والواقع أنَّ مُشكلة النهضة المسرحية الواسعة المزدهرة الآن في بلادنا هي مشكلة النصوص وحُسن اختيارها، ولستُ أدري متى سنفطن إلى أنَّ إنشاء فرقة مسرحية يعادل في أهميته فتح جامعة أو معهد عالٍ للثقافة والفن، وأنَّ هذه الفرق لن تنجح في أداء رسالتها ما لم تكن مسئولية اختيار النصوص مُركزة في مرحلتها النهائية في أحد كبار أساتذة الثقافة والأدب والفن بصفته مُستشارًا فنيًّا لها، على أن تقوم لجنة أو لجان من الشباب الأَكْفاء المؤهَّلين بعملية الغربلة الأولى للمسرحيات التي تُقَدَّم لكل فِرقة.
وأما تشتيت المسئولية بين لجان تضم أشتاتًا من الثقافات والأذواق أو اللاثقافات واللاأذواق فليست في رأيي الخطة المثلى، بل ومن الواجب أن يكون المشرفون من أساتذة الأدب والفن لا من المخرجين والممثلين، حتى لا تطغى على تقديرهم النَّاحية الحِرفية الخاصة في الموازنة بين النصوص واختيار الأصلح منها، وما يصدق على فِرَق القاهرة يصدق على فِرق المحافظات.
أعودُ إلى فِرقة دمياط فأُلاحظ أنَّ أداءها لمسرحية «ملك القطن» لم يكن مُوَحَّد المستوى، فمن المؤكد أن الأستاذ «الحسيني عقيل» قد أدى دور «قمحاوي» مستأجر الأرض وزارع القطن على نحو كاد يوهمني بأنني أشاهد ممثلنا القدير «شفيق نور الدين» في نفس هذا الدور، بينما لاحظتُ مثلًا أنَّ الأستاذ «محمد عثمان» في دور «السنباطي» مالك الأرض ومالك القُطن المزوِّر المستَغِل قد أخرج — بمبالغته في الحركة والصوت — الشخصيةَ عن واقعها، فأنا أعلم أن مُلَّاك الأرض يتَّسمون بالرزانة والبرود، بل ويصطنعونها، ولا مَحَلَّ لاهتياجهم؛ لأنَّهم الناهبون المتغطرسون، وإنما يُفْهَم ويُقْبَل الهياج والعصبية من «قمحاوي» المغتال مثلًا، وكذلك الأمر في دور الحاج «شوادفي» الذي يتظاهر بالتقوى ويتقدم للوساطة بين «قمحاوي» و«السنباطي»، فقد أخرجه الأستاذ «طلعت رشوان» إلى شخصية مُهَرِّجة.
ومن الغريب أو من السار أنني لاحظتُ أنَّ الأدوار النِّسائية قد أُدِّيَتْ بوجه عامٍّ في إيقاعٍ سليم دقيق ناجح، رغم أنها أدوار ثانوية، وكذلك أدى الطفلان «نبيل عمر» و«محمد محمد عتيم» دَوْرَيْهما بنجاح وخفة وتأثير.
وسرَّتْني مسرحية «غرام المهكعين» نصًّا وإخراجًا وأداء، رغم أنها — فيما أعلم — أول محاوّلة للتأليف يقوم بها الأستاذ نبيل الألفي، بل رغم أن فكرتها «مولييرية» مطروقة، وهي فكرةُ مَنْ يفوتهم قطار الزَّواج، حتى إذا أصابَتْهم الشيخوخة بالهكعنة رأيناهم يتطلعون إلى الشابات الصغيرات، ولكنهم لا يلبثون أن يصطدموا بالواقع فيثوبوا إلى رُشْدهم، فنحن نشاهد في هذه المسرحية أخَوَين جاوَزَا الستين من عمرهما تَحُثُّهما أختهما العانس على الزواج، وتأتيهما بأرملة نصف فيُعْرضان عنها ويتعففان عن الزواج، في حين تَكْتَشف أن لعابهما يسيل على الفتاة الشابة آمال، ويتنازعان الزواج منها، وآمال لا تقر لهما بذلك؛ لأنها مشغولة عنهما بحبِّ قريبٍ لها يعمل معها، هو الشاب سعيد الذي تنتهي بزواجها منه وعودة المهكعين عن غيهما، والمسرحية على بَسَاطتها خفيفة الدم، وقد أَدَّتْها مجموعة متجانسة متقارِبة المستوى فنجحت فيما أحسست.
وعلى أية حال فأنا حريص على أن أُحَيِّي هذه الفرقة، وأن أُقِرَّ بنجاحها في حدود الإمكانيات المتاحة لها، وإذا كان لي رجاء فهو أن ترعى المحافَظَةُ فِرْقَتَها النَّاشئة، وأن توفر لها الميزانية اللازمة والإدارة المنظِّمة المسئولة؛ لأنَّ اتصالي السريع بأعضائها قد أحسَسْتُ منه نقصًا في هاتين الناحيتين بالذات، ومن طلب الحسناء لم يُغْلِهِ المهر ولم يُغْلِهِ التنظيم الدقيق الحاسم.