«الدخان» في الميزان
أسفتُ لأنَّ الظروف لم تُمَكِّنِّي من الكتابة عن مسرحية «الدخان» للأستاذ ميخائيل رُومان بالرغم من أنَّني شاهدتها منذ وقت طويل، وبخاصة وأنه ليس هناك أي مبرر لأن أعدل عن الخطة التي اتبعتها منذ سنوات طويلة بتقديم المسرحية الأولى لكل كاتب جديد إلى جمهورنا المثقف، مُحَاوِلًا أن أُبرز مظاهر الموهبة الواعية في كل منها دون إغفالِ نواحي الضعف، ومحاولة توجيه النظر نحو طُرُق علاجها والتغلب عليها، وذلك على نحوِ ما فعلتُ مع الأساتذة نعمان عاشور ويوسف إدريس ولطفي الخولي وأنور قزمان وحافظ أمين.
فمسرحية «الدخان» ليست أسوأ ما عَرَضَ مسرحُنا القومي من مسرحيات، كما أنها ليست مجرد «شيء» كما قال صديقنا الدكتور لويس عوض، بل إنها ليست في حاجة إلى الرحمة كما طلب صديقنا محمد عودة، ويُخَيَّل إليَّ أنَّ مُعظم مَنْ كتبوا عن هذه المسرحية لم يَفْطنوا إلى فكرتها الأساسية وعِلَّتها الغائية، التي ليس لأي مبدأ فَنِّيٍّ قيمةٌ إلا في حدود خدمتها وتحقيقها.
فمسرحية الدخان ليست فِكْرَتُها الأساسية، وليست عِلَّتُها الغائية تصويرَ مأساة المخدرات كما فَعَلَ مِنْ قبل أحَدُ رواد المسرحية العربية محمد تيمور في مسرحيته «الهاوية»، أو كما فعلتْ بعض الأفلام الأجنبية مثل «الرجل ذو الذراع الذهبية»، بل فِكْرَتُها وعِلَّتُها موجودة في عبارة «لن أركع» التي رَدَّدَها حمدي بطل المسرحية أكثر من مرة حتى وهو مسطول، وأبرز التناقض الواضح بين شخصية حمدي والشخصيات المنهارة اجتماعيًّا وأخلاقيًّا وإنسانيًّا، كشخصية تاجر المخدرات المعلم رمضان، وشخصية المرأة التي تَزَوَّجَها المعلم رمضان ثم طلقها، ولكنه لا يزال في حاجة إلى استخدامها في بيع المخدر، ويُريد حمايتها من رجال الأمن بتزويجها من حمدي، ولكن حمدي حَصَّنَتْه الثقافة والتماسك الاجتماعي وشعوره بكرامته الإنسانية، حتى وهو «مسطول» من أن يَرْكَع لرغبة المعلم رمضان وقسوته وتعذيبه، بالرغم من أنه كان قد فُصِل من عمله واستبَدَّتْ به الحاجَة وأصبح المخدر بالنسبة له ضرورةً لا يستطيع بحالٍ أن يستغني عنها، ومع كل ذلك يظل يرفض حتى النهاية أن يَنْحَطَّ إلى مستوى بيع المخدرات كصبيٍّ لرمضان، والزواج من المرأة التي أراد رمضان إرغامَهُ على الزواج منها ليُبْعِدَ عنها شبهات البوليس، وأحضر فعلًا المأذون في ظلام الليل في أحد كهوف المقطم، وحَرَّرَ المأذون عقد الزواج، ومع ذلك ظل حمدي حتى النهاية يرفض الركوع.
وقد كان من الممكن أن تكتفي المسرحية بتجسيد وإبراز هذه الفكرة الأساسية، ولكن المؤلف — فيما يبدو — قد حرص على أن ينقذ حمدي إنقاذًا كاملًا من محنته، ولكن لسوء الحظ لم ينجح في إقناعنا بالطريقة التي اختارها لإنقاذه؛ لأنَّ حضور خطيبته المحبة إلى منزله وتقديمها له خمسة جنيهات وحَمْلها معها عدة مفارش، وتصميمها على أن تقضي الليل معه، لم يكن موقفًا جديدًا في المسرحية؛ إذ سَبَقَ أن رأينا نفس الموقف في مشهد سابق، ورأينا فشل المحاولة وعَجْز حمدي عن التخلص من محنته، ثم إنَّ نجاح هذه المحاولة الأخيرة كان معناه أنَّ حمدي قد عاد ثانية إلى بر السلامة والاستقرار، بحيثُ لم يكن هناك مبرر لأن يُصبح حمدي في نفس اللحظة في مواجهة جمهور الصالة بحاجة إلى هدف، فالسَّلامة والاستقرار هما في مثل حالته الهدف الأول والأساسي للانطلاق بعد ذلك في الحياة.
واللَّبس الذي أصاب النقاد في فهم الفكرة الأساسية للمسرحية وعلتها الغائية على أساسِ أنها تصوير لمأساة المخدرات، ربما كان له أثره في الحملة التي شنوها ضد المسرحية؛ وذلك لأنَّ مثل هذا الفهم يسوق بالضرورة إلى البحث عن نجاح المؤلف أو عدم نجاحه في تبرير وقوع حمدي في محنة المخدرات.
والواقع أنَّ المؤلف قد عثر على عدة خيوط لتفسير وقوع البطل في هذه المحنة، ولكنه لم يركز على أي منها ولم يُعَمِّقه ولم يتابعه، بحيثُ يبدو أن كلًّا من هذه الخيوط كان ينقطع بين يدي المؤلف فيعود إلى التقاط خيط جديد ينقطع منه هو الآخر؛ فيبحث عن جديد.
ونحن منذ مطلع المسرحية نجد أن حمدي قد ضاق ذَرْعًا بعمله الآلي المضني في الشركة التي التحق بالعمل فيها، وهو الدق على الآلة الكاتبة، ووجد في المخدر نسيانًا لهذا الملل، بعد أن عَرَفَهُ عن طريق زميل جديد في الشركة، وبعد ذلك بقليل نعلم من حمدي أن التجاءه إلى المخدرات كان نتيجة لتمرده الاجتماعي عندما دخل على مدير الشركة فوجده محاطًا بعدد كبير من الموظفين المرتَدِين الحلل الحريرية، بينما يعاني هو شظفَ العيش بمُرَتَّبه الحقير.
وينقطع هذا الخيط الثاني أيضًا ليبدأ المؤلف خيطًا جديدًا، هو ما يخبرنا به حمدي من أنه قد وَقَعَ في كتابٍ قرأه فزَلْزَلَ إيمانه وساقه إلى الكفر الذي فَتَحَ أمامه باب الهاوية. وهذه الخيوط الثلاثة التي تقطعت بين يدي المؤلف لا يوجد بينها مع ذلك تناقُض ولا تشتُّت، بل من الممكن الاستفادة منها جميعًا في تفسير محنة البطل، والشيء الوحيد الذي نأخذه على المؤلف هو عدم محاولته الربطَ، ولربما استطاع المؤلف أن يُدَافع عن حمدي نفسه في هذا الصدد بأن كل هذه التبريرات إنما صَدَرَتْ عن حمدي نفسه وهو مسطول، وليس باستطاعةِ مسطول أن يقوم بهذا الربط، فالمسطول شخص تفككَتْ صواميل عقله الواعي، وإن كنَّا نُفَضِّل أنْ لو حاوَل المؤلف مثل هذا الربط ولو على لسان حمدي، على نحوِ ما تجري الحكمة أحيانًا كثيرة على ألسنة المجانين أنفسهم.
وفي رأيِنا أن كل هذه الملاحظات الفنية والنفسية لا تَكْتَسِب أهميتها الخطيرة إلا في حالة فَهْم هذه المسرحية على أنها تصوير لمحنة المخدرات وأسبابها، ووسيلة الخروج منها وهي الحب، وأمَّا إذا فَهِمْنا هذه المسرحية على أنها تصوير لِرَفْض الانهيار التام حتى في وسط المحنة، فإنَّ كل تلك الملاحظات تصبح ثانويةً، ومما يزيد من إيماننا بسلامة الفهم الذي نقترحه ما هو واضح في المسرحية من أنَّ الإباء النفسي لم يظل صامدًا في نفس حمدي فحسب، بل وكان له سِحْره الإنساني الرائع في نفس المعلم رمضان ذاته عندما رأيناه يَقُصُّ على حمدي في كهف المقطم ما رآه في أحد السجون مِنْ رَفْض سجين سياسي الركوع رَغْم إصابته بالسل، ومما لا شك فيه أنَّ محنة المخدرات ليست أقل هولًا من محنة السل والسجن، وكان لهذه القصة أَثَرُها البالغ على موقف حمدي في رفض الركوع والتدلي إلى الهاوية السحيقة، مما يقطع بأن هذه الفكرة الأساسية هي العمود الفقري للمسرحية كلها، وأنَّ هذا الفهم هو الأقرب للعلة الغائية التي اختارها المؤلف.
وعلى هذا الأساس كله اغتبطتُ عندما علمتُ أن ميخائيل رومان لم يُصِبْه هو الآخر الانهيار لحملة النقاد على مسرحيته، وأنه لا صحة لما نَشَرَتْه إحدى المجلات من أن هذا المؤلف المسرحي الواعي حاوَلَ التخلص من مسئولية مسرحيته، بزعم أنَّه لم يكتبها للمسرح، بل كتبها أصلًا للإذاعة؛ إذ علمتُ أنَّ ميخائيل قد كَذَّبَ تكذيبًا قاطعًا فِرْيَةَ هذا التصريح الذي نُسِبَ إليه ظلمًا.