هل أحببنا كليوباترا؟
شهدتُ «مصرع كليوباترا» دون ضَحِك ولا بكاء، بل ولا تأثُّر، وكل ما أحسست به كان طربًا بشعر شوقي وقوة موسيقاه وروعة تصويره البياني، وكأنني لم أَشْهَد مسرحية، بل اسْتَمَعْتُ إلى ديوان من الشعر كان من الممكن أن تُلْقى بعضُ قصائده خيرًا مما أُلْقِيَتْ لو أنها كانت تُلْقى لذاتها لا كأجزاء من حوار درامي، ولا أظن الحوار الدرامي مجموعة من القصائد التي يلقيها الممثلون.
بل لقد أحسستُ أنَّ الممثلين كانوا يُنْشِدون القصائد للجمهور الجالس في الصالة لا لزملائهم في التمثيل كأجزاء من حوار درامي، ويا ليتهم استقروا على الإنشاد للجمهور بدلًا من حيرتهم وتردُّدهم في هل يخاطبون الجمهور أم يخاطبون زملاءهم في التمثيل، وأنا لا ألوم في ذلك الممثلين والمخرج بقدر ما ألوم المسرحية ذاتها، رغم أنها قد أصبحت من تراثنا الشعري الذي نعتزُّ به، ونحمد لفرقتنا القومية حِرْصها على إنقاذها من النسيان.
ومن تقاليد فن التمثيل الرَّاسخة افتراضُ قيام جدارٍ رابع يُغْلِق خشبة المسرح على الممثلين ليجري التمثيل بينهم لذاته، وفي ذاته، وكأن الجمهور غير موجود، وذلك لكي يجري التمثيل طبيعيًّا مُشاكلًا للحياة الواقعية قَدْر المستطاع، وإذا كان هذا الجدار الرابع يستعاض عنه بالستار الذي يُرْفع ويُسدل فمن واجب المؤلف والمخرج والممثلين جميعًا أن يفترضوا دائمًا قيام هذا الجدار الرابع الذي يُسَمِّيه النُّقَّاد بالجدار الوهمي، ولكنَّ شاعرنا أحمد شوقي كان شاعرَ محافل يحرِصُ على أن يخلب ألباب جمهوره بروعة شعره؛ لذلك نراه يُحِيل حواره الدرامي إلى مجموعة من القصائد المُوَجَّهة إلى جمهور المشاهدين، وهذا ليس من المسرح في شيء باعتبار المسرح محاكاة للحياة، كما قال أرسطو منذ فجر التاريخ الأدبي.
ولقد ساءلت نفسي لماذا لم أَنْفَعِل بهذه المأساة رغم أنها قد انتهت بموت بَطَلَيْها أنطونيو وكليوباترا، فمات الأول بطعنة من خنجره، وانتَحَرَت الثانية بوضع الأفعى في صدرها الجميل؟ ولم أَجِدْ جوابًا على هذا السؤال إلا أن مؤلفها لم ينجح في حملنا على حُبِّ كليوباترا أو أنطونيو، أو العطف عليهما.
ومن الواضح أننا لا نَحْزَن ولا ننفعل إلا بالمأساة التي تنزل بشخص نحبه، أو على الأقل نعطف عليه ونرثي له، ولقد حاول شوقي فعلًا أن يحملنا على الإعجاب بكليوباترا أو التعاطف معها، ولكنه لم ينجح في هذه المحاولة التي لو سار فيها إلى نهاية الشوط لجعل من كليوباترا قديسة كجان دارك، مع أنَّ الحقيقة التاريخية تأبى ذلك، فضلًا عن الحركة الدرامية ذاتها، وهي الحركة المنبعثة عن جمال كليوباترا وفتنتها وإحساسها بهذا الجمال وتلك الفتنة، واستخدامهما في توطيد عرشها واستئناس الطامعين فيه من حكام روما واحدًا بعد الآخر، ولكليوباترا أن تصيح بأنها لا تعمل إلا للمجد والوطن، ولكننا لم نستطع أن نُصَدِّقَها، بل زدنا احتقارًا لها لِكَذِبها، ولكل ذلك لم نَحْزَن لانتحارها ولم ننفعل لمأساتها، وقديمًا عَرَّفَ أرسطو المأساةَ بأنها المسرحية التي تُطَهِّر نفوسنا بإثارة عاطفتي الفزع والشفقة، فإذا لم تُثِرْها لم تَعُدْ مأساة.
وكذا الأمر بالنسبة لأنطونيو الذي لا ننفعل بمأساته حتى في اللحظة التي يتذكر فيها جلال وطنه؛ فيدعو روما كي تحنو عليه وتغفر لفتاها، وذلك بالرَّغم من أنَّ الممثل الذي قام بهذا الدور قد ساقه الشطط إلى أن يبكي، وهو يُلقي هذه المقطوعة الشهيرة، وكيف ننفعل بعد أن أخبرنا شوقي نفسه أن أنطونيو قد شَرِبَ الخمر في تاج المصريين وأحال عَرْشَهم فراش غرام! بل كيف نصدقه في الإخلاص لوطنه والاعتزاز به وهو يسمع بأذنيه تحقير كليوباترا لروما ويُصِمُّ عن كل ذلك أذنيه حرصًا على مشاعر عشيقته!