«طيور الحب» في حديقة الصحافة والأدب
قدَّم لنا الأستاذ عبد الله الطوخي في المسرح القومي دراسةً صادقةً لبيئة الصحافة والأدب في الوقت الحاضر، وذلك في مسرحيته طيور الحب التي أخرجها الأستاذ محمد عبد العزيز، واشترك في تمثيلها نخبة ممتازة من فرقتنا الدِّرامية العريقة أمثال: سناء جميل، ومحسنة توفيق، وعبد المنعم إبراهيم، وحسن عبد الحميد.
وقد صَوَّرَ المؤلف في هذه المسرحية نوعين بالذات من رجال الصحافة والأدب، جسَّد أحدَهما في شخصية حَسَن الأديب أصلًا، والصحفي لضرورة العيش في بلادنا، التي لا يستطيع حتى اليوم إلا في النادر أن ينقطع فيها كاتب لفنه، وأن يكسب منه ما يقوم بأود حياته وحياة أسرته.
وحسَن أديب وفنان منتمٍ ساهَمَ في معركة شعبه ضد الاستعمار الإنجليزي — وضد الإقطاعيين والرأسماليين المُسْتَغِلِّين — مساهَمَةً إيجابية عنيدة أثارت فَزَعَهُم، ووجد في مرحلة كفاحه ضدهم مادةً خصبة غَذَّت قَلَمه، الذي وَضَعَه في خدمة الدفاع عن المقهورين والمظلومين والمستغلين، كما وَجَدَ فيه هدفًا لحياته شارَكَتْه فيه زوجته فاطمة مشارَكَةً كَفَتْهُما شر الملل والإحساس بالركود أو الضياع، فاستقامت حياتهما معًا، ولم ينحرف أيٌّ منهما عن الاستقامة الأخلاقية على نحوِ ما حدث لشخصية أخرى تُمَثِّل النوع الآخر من رجال القلم، وهو الصحفي عبد السلام عزَّت اللامُنْتَمي، على نحوٍ جعله يَتَوَهَّم أن في جَرْيه وراء النساء والخمر ما قد يملأ فراغ حياته.
وبالرغم من أن زوجته هدى الجميلة الوفية تُخْلِص له الحب وتحاوِل جاهدةً أن تُغْضِي عن انحرافاته، فإنه يتمادى في الفساد والانحلال، ولا يتعفف حتى عن محاولة الفتك بزميلة صغيرة ناشئة الْتَحَقَتْ حديثًا بالجريدة التي يعمل بها، فاستدرجها إلى بيت زميله حسن منتهزًا خُلُوَّ بيته في إحدى الليالي، وذلك بالرغم من إحساسه وعِلْمه بنمو عاطفة عفيفة وليدة بينها وبين زميلٍ آخر جادٍّ منتمٍ يفكر جديًّا في الزواج منها، بل ونراه يحاول عبثًا أن يغري زميله حسن بالفساد والانحلال، ويُسَفِّه إخلاصَه الأمين لزوجته وأَخْذَه الحياة مأخذ الجد والاستقامة.
ونعلم من الحوار أنه بعد قيام الثورة سنة ١٩٥٢ اعْتُقل حسن؛ لأنه لم يستطع أن يدرك حقيقة هذه الثورة الوطنية التقدمية في بدء قيامها، وخشي أن تكون مُجَرَّد انقلاب في الحكم، وقضى في السجن سنتين ظَلَّتْ خلالهما زوجته الوفية المناضلة تُشْعِره بوقوفها إلى جواره، واستعدادها للتضحية في سبيله وسبيل القضية التي اتخذا منها هدفًا لحياتهما، حتى إذا خرج حسن من السجن رأى نفسه واقفًا على شَطِّ حياتنا الجديدة مشدوهًا، فالثورة قد طردَت الإنجليز المحتلين وأخَذَتْ تقلم أظافر المستغلين، وتحقق ما كان يحلم به من قبل، فانضم إليها بعقله وقلبه، ولكنَّه أخذ يُحِسُّ بأنَّ هذه الفلسفة الثورية الإيجابية التي تجمع بين الخط الوطني القومي والخط الاجتماعي التقدمي قد أغفلت أمام قلمه المَنْجَمَ الذي كان يستمد منه مادة ثرية لأدبه وفنه، وهو دفاعه عن الطبقات المستغَلة في المجتمع، حتى رأى النُّقَّادَ يطالبونه بالتجديد، ذلك بينما يرى المجتمع في مرحلة انتقال لم يتم ويتبلور بَعْدُ وضْعُه الجديد على نحو تنبثق منه قيم وروابط اجتماعية وأخلاقية جديدة، بحيث تفتح له منجمًا آخر يستمد منه.
ولسوء الحظ يُصِيبه هذا الإحساس بالخلخلة والاهتزاز والقلق الشديد، فيصطدم مع مدير الجريدة الذي وَجَّهَ له نقدًا، ويُقَدِّم استقالته ويقرر في لحظةِ تأزُّم أن ينقطع للأدب والفن، وليكن ما يكون في حياته المعيشية هو وأسرته، التي أصبحت تتكون من طفلين فضلًا عن زوجته، ولا تقره الزَّوجة على هذا التصرف الطائش، وترى أنه قد كان من واجبه أن يتريث قليلًا حتى ينضج قريبًا وَضْع حياتنا الجديدة.
ويتشاجر الزوجان وتغادر الزوجة البيت مع طفليها إلى بيت أبيها بضعة أيام، وبعد أن تعود يتصادف أن يأتي لزيارته الشريف طاهر، فلا يجده في البيت، بل يجد زوجته فقط، فيُحَدِّثها عن مأساة نادية، ويعلن عودته إلى مشروع الزواج منها بعد الموقف الصارم الذي وَقَفَتْه من محاولة المنحل عبد السلام عزت الاعتداء على شرفها، وعند خروجه يَلْمَحه حسن وهو قادم من الباب الآخر، فيُخَيِّل إليه وَهْمُه وقلقه أنَّ زوجته كانت في خلوة مريبة مع طاهر الذي تحيَّن فرصة غيابه، وبخاصة وأنَّ المؤلف قد أضاف إلى عوامل الاضطراب في حياة حَسَن عنصرًا آخر في شخصية «رمزة» التي نعلم أنها قد فشلت في حياتها عندما تزوَّجَتْ من شخص اسمه محمود لم يظهر في المسرحية، ولم نعلم عنه شيئًا غير ما قالته رمزة من أنها لا تحبه ولا يحبها، وليس بينهما أي التقاء فكري أو عاطفي، بينما تحمل لحسن إعجابًا وارتياحًا نشعر في التعبير عنهما بحرارة الحب الدفين.
بل ونرى رمزة وقد انفصلت عن زوجها وأتت إلى حسن تُحَدِّثه عن بلواها وتنهار، فتُلْقِي بنفسها على صدره، وبذلك يكون عبد الله الطوخي قد أَكْمَل لنا أبعاد مأساة حسن التي شَكَّلَتْها الحياة برضاه حينًا، ورَغْمَ أنفه حينًا آخر، وهذه هي الشخصية الرئيسية الناجحة في هذه المسرحية الهادفة.
وأقل من ذلك نجاحًا شخصية عبد السلام عزت اللامنتمي المنحل، ولا غرابة في ذلك فالانحلال عدم، وفقر الشخصية لا يسمح بالتلوين الكامل للأبعاد، وإن يكن الممثل القدير عبد المنعم إبراهيم قد جَسَّدَه على خير وَجْه وأكمله حياة، وكل ذلك فضلًا عن الشخصيات التي سمعنا عنها ولكننا لم نرها على نحو ما يحدث في الفن القصصي، وذلك مثل شخصية محمود زوج رمزة وشخصية الفتاة نادية.
والواقع أن الأسلوب القصصي الذي عرفنا به عبد الله الطوخي قد نَضِجَ في مسرحيته هذه التي تُعْتَبَر — فيما نعلم — أوَّل إنتاج له في هذا الفن؛ وذلك لأننا أحسسنا بوضوح أنَّ المؤلف قد كان موجودًا دائمًا في مسرحيته، وأنَّه قد استخدم الحوار لتحليل شخصياته تحليلًا مُباشرًا، أكثر من استخدامه لهذا الحوار — كما جرى العرف الدرامي — في توليد الحركة المسرحية، وتَرْكه المواقف والأحداث توحي للمشاهدين بأبعاد شخصياته، فعبد الله الطوخي هو الذي رسم بيده شخصياته، بدلًا من أن يترك المواقف والأحداث تتولى عنه رَسْمها وتحديدها.
ومن هنا رأيناه يحاول رسم صور حتى للشخصيات التي لم تَظْهَر على خشبة المسرح، مثل شخصية محمود زوج رمزة، والفتاة نادية الصحفية الشابة، بينما الشخصيات في الفن المسرحي هي التي تحدد أبعادها بنفسها وبحضورها الفعلي في المواقف والأحداث، ولكن حوار عبد الله الطوخي الذكي اللماح قد أنسانا الطابع القصصي وجذبنا إلى هذه المسرحية الصادقة الواضحة التعبير والتصوير.
وإذا كنت من قبل قد أخذت على المخرج القدير محمد عبد العزيز بعضَ المآخذ في إخراجه لبعض المسرحيات، وبخاصة مسرحية «الطعام لكل فم» للأستاذ توفيق الحكيم، فإنني سعيد بأن أُعْلِنَ اليوم أنه قد استطاع أن يَسْتَرِدَّ ثقتي بإخراجه لهذه المسرحية، وبخاصة في الفصل الأخير منها، حيث انهار حسن نتيجة للقلق والاضطراب، وغفا فيما يُشبه الحلم الذي نجح محمد عبد العزيز نجاحًا كبيرًا في الإيحاء به، عن طريق ذلك المشهد الخلفي الرائع الذي رأينا فيه طيوف الماضي تتابع في مؤخرة المسرح فيما يُشبه الشريط السينمائي الغارق في ظلام الحلم.
وعندما وَصَلَت الأزمة بحسن مداها رأينا المخرج القدير ينقل خاتمة هذا الحلم من الخلف إلى مقدمة المسرح، حيث رأينا نعشًا محمولًا على أكتاف الرجال وأمامَه وخلْفَه موكب الجنازة الذي يوحي بانتهاء حسن، لولا أن رأيناه ينتفض من سباته الحالم على وقع أقدام زوجته الوفية فاطمة التي دَخَلَتْ عندئذٍ؛ ليرمي بنفسه بين أحضانها رمزًا لبعثه وتجديد شوط الحياة مع شريكته المكافِحة المخلصة، وبذلك أنهى عبد الله الطوخي مسرحيته بنغمة تفاؤل وأمل أرجو أن تَغْمُر قلوبنا جميعًا، وبخاصَّة وقد جسَّد لنا هذه اللحظة الآملة المتفائلة ممثلون أفذاذ يستحقون إعجابنا الكامل.