«أيوب المصري» والرقص الدرامي
لقد كنَّا منذ سنوات طويلة نتطلع إلى اليوم الذي تُصبح فيه آدابنا وفنوننا الشعبية مصدرًا للإلهام في نشاطنا الفني الحضاري الجديد، وذلك على أساس استخدامنا لقوالب الفن الحضاري العامِّ في التعبير عن روحنا القومية المنعكسة في فنوننا الشعبية التلقائية، وظلت هذه الفكرة مُجَرَّدَ أمنية، حتى رأيناها تتحقق بفضل فرقة رضا التي لم تَكَدْ تَسْلُك هذا السبيل حتى لَقِيَتْ من جمهورنا ومن السلطات المشرفة على حياتنا الفنية والأدبية الترحيب والتشجيع، وإذا بنجاحها الباهر يتخطى حدود الوطن العربي فتنتقل هذه الفرقة إلى عدد كبير من دول العالم، وتصيب فيها نجاحًا مشرِّفًا.
وفي العام الماضي بدأت فِرقة جديدة تُوَاجِه الجمهور الواسع بفنها القائم على التعبير عن حياتنا الشعبية، بفن الرقص الحضاري وأسلوبه العالمي، حتى رأيْتُني في العام الماضي ألفْتُ النظر إلى هذه الفِرقة الجديدة القائمة على المجهود الفردي لفنانة شجاعة هي نيللي مظلوم، وأُحاول أن أُميز الطابع الذي يبدو أنها تتميز به عن طابع فرقة رضا، وأقصد به الطابع التعبيري بينما يغلب الطابع الجمالي على فِرقة رضا.
وإذا كانت فرقة الفنانة نيللي مظلوم قد أَوْحَتْ لي في أول موسمٍ عامٍّ لها في العام الماضي بطابعها التعبيري الذي تتميز به، فإنني قد أحسست هذا عندما شاهدت العرض الجديد لهذه الفرقة مع أعضاء المؤتمر الثاني لكتَّاب آسيا وأفريقيا المنعقد الآن في القاهرة؛ لأنَّ فرقة نيللي مظلوم قد تطورت بفضل البحث عن فنوننا وآدابنا الشعبية الأصيلة ودراستها واستلهامها، من مجرد التعبير الموحي إلى التأثير الدرامي القوي، حتى رأيتُني ألمح الدموع وعيون عدد من الحاضرين تغرورق بها وهم يُشاهدون عَرْض هذه الفرقة للقصة الشعبية الجميلة الإنسانية المؤثرة قصة «أيوب المصري»، التي يَلُوح أنَّ فناني الشعب قد تأثروا في صياغتها بقصة النبي أيوب كما وَرَدَتْ في التوراة، وهو الذي ابتلي بمرض عنيف، ومع ذلك ظل صابرًا راسِخَ الإيمان في عدالة السماء ورحمتها، حتى تَفَجَّرَ تحت قدميه نَبْع طاهر من الماء اغتسل به فشفي من مرضه.
وجاء فناننا الشعبي فنسج حول مَرَض أيوب قصة عاطفية بالغة الإنسانية والجمال؛ إذ جَعَلَ أيوب المصري يحظى بيد الفتاة الجميلة السامية الإحساس ناعسة ويتزوجها، بعد أن فَضَّلَتْه على شابين ثريين متعجرفين، ولكنَّ سعادته لم تَطُلْ؛ إذ انتابه مَرَض عنيف، ولكن نُبْل ناعسة أبى عليها أن تتخلى عنه وهو في مرضه، في حين يتخلى عنه أهله أنفسهم، فظَلَّتْ ناعسة مُحِبَّة وفية، بل وأخذت تتسول لتنهض بأعباء زوجها المريض، ولكن أيوب يَعْثُر في النهاية على نبات سحري أَلْهَمَهُ الله بوجوده على حافة النيل في حلم ارتآه، وقد أسمى فنانُنا الشعبي هذا النبات باسم عرار أيوب.
والتطور الجديد الرائع في فِرقة نيللي مظلوم أنها قد جمعت في تعبيرها الدرامي عن هذه القصة الإنسانية المؤثرة بين ثلاث مسائل فنية كبيرة هي: الموسيقى، والشعر الشعبي، والرقص الذي لم يعد — كما قلنا — هَدَفُه التعبيرَ فحسب، بل أصبح أيضًا التأثير الدرامي الذي يبلغ فنه من القوة ما يتجاوز قُدْرَة فنٍّ درامي عتيد صامد مثله، وهو فن البانتوميم.
فرقص نيللي مظلوم قد أصبح يجمع بين جمال الحركة والتعبير الإيحائي والتأثير الدرامي على نحو رائع، واستخْدَمَت الفرقة مُنْشِدَة تَشَرَّبَتْ روح الإنشاد الشعبي لهذه القصة، فكانت تُنْشِد بين مشاهد الرقص مقطوعات شعرية جميلة من هذه القصة الشعبية، وبنفس اللحن والإيقاع الشعبيين، مما يُشِيع في الجو وفي داخل النفوس العطر الشعبي المثمل.
وكذلك وُفِّقَ مُلَحِّن الفرقة محمد عمر في وَضْع الألحان التصويرية التي تَجْمع بين الروح الشعبية والقدرة على التعبير عن مواقف القصة، وبخاصة المواقف الدرامية فيها، وبذلك أضاف محمد عمر — كما أضافت المنشدة فاطمة علي — عنصرين هامين في نجاح هذه الفرقة يُضافان إلى تكنيك نيللي مظلوم القائم على عُمْق الدراسة الفنية مع استلهام الروح الشعبية والاحتفاظ بها في مثل رقصة التحطيب، ورقصات نيللي نفسها البالغة الرهافة وقوة التأثير، كما أنَّ هذه الفنانة العظيمة قد استطاعت — رغم إمكانياتها المحدودة — أن تُخْرِج هذه القصة في إطار جميل ومناظر موحية وملابس جميلة ملائمة للقصة، وبخاصة ملابس الفتاتين اللتين مَثَّلَتا النَّبات السحري المنقذ وخضرته النَّضرة الموحية بالأمل والاستبشار.
وإذا كانت ملابس نيللي مظلوم قد بَدَتْ لنا في المشهد الأول أكثر فخامة مما يُنَاسب ملابس ناعسة الشعبية، وكانت قدرة نيللي الفنية الشخصية لا تزال مُتَفوقة تفوقًا واضحًا على قدرة الكثير من أفراد بقية الفرقة، فإنني على ثقة من أنَّ هذه الفنانة الكبيرة ستستطيع عما قريب — بفضل إخلاصها لهذا الفن وتفانيها فيه — من أن ترفع المستوى الفني لجميع الراقصين والراقصات في فرقتها، وبخاصة إذا أَوْلَتْها سلطات الدولة المختصة من المساعدة والاهتمام ما تستحقه، وبخاصة إذا لاحظنا أنها بمجهودها الفردي قد استطاعت أن تُكَوِّن هذه الفرقة التي يتوارى ما قد يبدو في بعض أفرادها من ضعف فني عندما يعرضون الرقصات الجماعية، حيث يغلب العنصر أو العناصر التي لا تزال في حاجة إلى مزيد من هذا التدريب.
لقد سُمِّيَتْ في العام الماضي فرقة نيللي مظلوم بفرقة «الرقص التعبيري»، وإنه لَيَسُرُّني أن أرتفع بها هذا العام درجة أخرى في سلم الفن فأسميها بفرقة «الرقص الدرامي».