«الباروكة» والأوبرابوف
شهدتُ في مسرحنا الغنائي بشارع الجمهورية بعابدين «الباروكة»، التي لحن لها فناننا الكبير سيد درويش ثلاثة عشر لحنًا غنائيًّا يتخلل أداءها الحوار التمثيلي عند المواقف التي تهيئ الجو للغناء والموسيقى، وقد وَضَعَ سيد درويش هذه الألحان على ترجمة لكتيِّب فرنسي الأصل من تأليف «شيفوديريه».
وبالرَّغم من أنَّ النص الذي أعاد تنقيحه الأستاذ يوسف حلمي قد احتفظ بالجو الأوروبي وبأسماء الشخصيات والديكورات الأوروبية إلا أنَّ فناننا الكبير سيد درويش قد دَخَلَ في منافَسَة قوية مع الموسيقي الفرنسي أدمون أودران، الذي كان قد وَضَعَ واحدًا وعشرين لحنًا للأوبريت الفرنسية لاقت بإيقاعها الخفيف وتوزيعها الموسيقي وانسجامها المرهف نجاحًا واسعًا في أوروبا كلها، منذ أن عُرِضَتْ هذه الأوبريت لأول مرة سنة ١٨٨٥م بمسرح يُعْرَف في باريس باسم مسرح «البون باريسيان»، الذي أنشأه الموسيقار أوفنباخ لأول مرة في الشانزليزيه سنة ١٨٥٠م، ثم انتقل بعد ذلك إلى ممر شوازيه بباريس منذ سنة ١٨٦٤م على نطاق واسع وبتطور كبير، وقد تَخَصَّصَ هذا المسرح في نَوْع بذاته من الأوبريت الفكاهية الخفيفة، حتى ظهر في عالَم الفن اسم خاص بهذا النوع وهو الأوبرابوف، وإن لم يكن أوبرا، بل أوبريت تتكون من أجزاء حوارية تمثيلية وبعض الأغاني والألحان التي تتخللها، وليست ملحنة ولا مغناه كلها على نحو ما هو معروف في فن الأوبرا.
ولفظة بوف نفسها من ألفاظ الأصوات الفكهة، ومعناها يقرب من معنى لفظة «الرَّغوة» في لغتنا العربية، والمقصود بالرغوة في هذا الفن هو خفته ورشاقته وشفافيته ومُدَاعبته للحواس وتطريبه للخيال، وكل هذا واضح في هذه الأوبرا التي تمثل في رأينا خَيْر ما وَصَلَ إليه فن سيد درويش، وتأثره تأثرًا لم يَمْحُ قط أصالَتَه الشرقية بموسيقى أودران ملحنها الفرنسي الأصيل.
ومن المؤكد أن إيقاعات الفالس التي سمعناها في بعض ألحان سيد درويش خلال هذه الأوبريت مُتأثرة بإيقاعات أودران رغم ما احتفظ لها به سيد درويش من نغمة التطريب الشرقية الروح، ومما زاد هذه الألحان روعة وجمالًا إخضاعُ موسيقارنا الناجح الأستاذ عبد الحليم نويرة هذه الألحان لفن الهارموني الحديث، أي فن توزيع الأنغام بين آلات الأوركسترا المختلفة، وفي رأينا أنَّ التجويد الذي أدخله عبد الحليم على ألحان سيد درويش بتوزيعها لا يقل عن التجويد الرَّائع، الذي أحْسَسْنا به عندما وَزَّع أخوان رحباني ألحان سيد درويش في أغنيته الشعبية الخالدة «زوروني كل سنة مرة».
وأخرج فناننا الواسع الخبرة والثقافة زكي طليمات هذه الأوبريت إخراجًا أنيقًا بديعًا، رغم بساطة الإمكانيات المادية التي وُضِعَتْ تحت تَصَرُّفه، مما جعل مِنْ إعادة عَرْض هذه الأوبريت عملًا تطرب له كل نفس مرهفة الإحساس، كما يعتز به كل عربي يحرص على تخليد أمجاد الموهوبين من أبناء وطنه أمثال سيد درويش، وكان الغناء والأداء التمثيلي في مستوًى طيِّبٍ بوجه عامٍّ.