«غادة الكاميليا» أوبرا عربية
من المعلوم أنَّ كل بلد مُتحضر يَنْعَم اليوم بثلاثة أنواع من الفنون: فن حضاري وفن قومي وفن شعبي.
فالفن الحضاري فن إنساني عامٌّ لم يعد ملكًا لقوم دون قوم، بل هو ملك مشترك للجميع؛ ولذلك يُسَمُّونه فنًّا عالميًّا، ولعلنا نجد خير مثل وأبرزه لهذا الفن في الموسيقى الخالصة أو الغنائية، ومن الواجب أن نُقْلِع عن تسمية هذه الموسيقى بالإفرنجية؛ لأنها في الواقع إنسانية عامة لا ملك للإفرنج، شأنها في ذلك شأن كافة الظواهر الحضارية، وإذا كنَّا لم نعد نسمي «البدلة» زيًّا إفرنجيًّا فإننا لا ندري لماذا نستمر في تسمية السيمفونيات مثلًا أو الأوبرات موسيقى إفرنجية، مع أنها أصبحت موسيقى حضارية إنسانية عامة.
وأمَّا الفن القومي؛ فهو الفن الذي يُنْتِجه فنانو كل أمة، ويمكن أن يختلف من أمَّة إلى أُخرى وفقًا لمزاجها القومي، وتأثير بيئتها البشرية والطبيعية، ولا يجوز أن يُعْتَبر أي فن حضاري عامٍّ متعارضًا مع الفن القومي، وإذا كانت التقاليد وطول الممارسة تَجْعل الفن القومي أكثر قبولًا لدى أمته؛ فإن التربية الفنية والممارسة يمكن أن تُقَرِّب أي فن حضاري من نفوس كل أمة، وتدخله في عداد المتع الرفيعة التي تنعم بها، وضمن وسائل تهذيب نفوسها وصقل أرواحها وإرهاف ذوقها.
وكما أنَّ الشعوب كانت تطرب أولًا وقبل كل شيء لفنونها الشعبية التي ينتجها فنانو الشعب المجهولو الأسماء كالموال وغيره، دون أن يمنعها ذلك من الطرب بالفنون القومية كالقصيدة الشعرية، وبخاصة كُلَّما ارتفع المستوى الثقافي أي: الحضاري لتلك الشعوب، فإننا لا ندري لماذا لا نبذل أكبر الجهد لكي نقرب الفنون الحضارية من شَعْبنا حتى يُقْبِل عليها وينعم بها، كما يُقْبِل ويَنْعَم بفنونه القومية وفنونه الشعبية، وهذا لِحُسْن الحظ هو ما أَخَذَتْ تعمل له دولتنا بكل همة ونشاط، وبخاصة بعد أن تَوَلَّى وزارةَ الثقافة والإرشاد وزيرٌ يتذوق هذه الفنون الحضارية، كما يتذوقها عدد لم يعد قليلًا من مواطنينا الذين أتيحت لهم الفرصة للتمتع بهذه الفنون الحضارية وممارَسة تذوُّقها خارج بلادنا وداخلها.
وإذا كانت دولتنا قد أصبحت تَمْلِك فِرقًا سيمفونية لعزف الموسيقى الحضارية كما تملك كونسرفتوار لتدريس هذا النوع من الموسيقى وتخريج العازفين، ووُجِدَ من مواطنينا العرب الخلَّص من يؤلفون السمفونيات والمتتابعات الموسيقية، فإننا نعتقد أنه قد حان الحين لكي نحاول الأوبرات والأوبريتات العالمية وتقديمها لمواطنينا، ونحن على تمام الثقة من أن جمهور هذا النوع من الموسيقى الحضارية العالمية سيتسع شيئًا فشيئًا حتى يشمل أُمَّتَنا كلها.
ولحسن الحظ لم يَقِف الإحساس بضرورة أقلمة هذا الفن الرَّفيع عند الدولة ورجال الحكم، بل أَخَذْنا نرى عددًا من المواطنين الذين يتذوقون هذا الفن ويؤمنون به يعملون — كُلٌّ مِنْ جانِبِهِ — على تقريب هذا الفن من مواطنينا، فتألفت جمعيات من هُواة هذه الموسيقى، بل وظهرت جهود فردية شجاعة في هذا المجال، وكان من خير هذه الجهود المحاولة النَّاجحة التي قام بها الدكتور إبراهيم رفعت وكيل كلية الهندسة بجامعة الإسكندرية، وزميلته الدكتورة درية فهمي أستاذة الأدب الفرنسي بكلية الآداب بنفس الجامعة، مع عدد من فناني ثغرنا الجميل، ومن بين هؤلاء الفنانين من هو مصري عربي مثل السيدة منار محفوظ، ومن هو من إخواننا المستوطنين في الثغر مثل السيد ستاني بستاثوغلي اليوناني الأصل والسيد إيجون جولدشتين المجري الأصل ومدام بولاندي أسفيري.
لقد قامت هذه الجماعة الصغيرة المخلصة المتحمسة بتحويل الأجزاء الأساسية من أوبرا «لانرافياتا» إلى غناء عربي، وقام بالترجمة الدكتور إبراهيم رفعت حفيد شاعرنا الغنائي العذب إسماعيل باشا صبري، وعاونته الدكتورة درية فهمي في الإعداد لأداء هذه الأجزاء المترجمة في اللغة العربية.
وفي مساء الأحد الماضي بقاعة النِّيل استمعنا إلى هذه المحاوَلة الموفَّقة التي احتضنتها وزارة الثقافة وقدَّمَتْها إلى الجمهور تحت رعايتها، وكنَّا في شوقٍ بالغ لسماعها، حتى نَتَبَيَّنَ كيف استطاع الدكتور رفعت أن ينقل النص إلى غناء عربي يتمشى مع التلحين الموسيقي، رَغْم ما هو معروف من فارقٍ موسيقيٍّ بين لغتنا العربية واللغات الأندوأوروبية، التي يتغلب فيها الانسجام الصوتي أي الميلودي على الإيقاع الذي تتميز به موسيقى لغتنا العربية.
ومن المؤكد أنه لولا أنَّ الدكتور إبراهيم رفعت يعرف الموسيقى الحضارية معرفة فنية كما يعرف موسيقى شعرنا العربي؛ لما استطاع أن يُتَرْجِم هذا النصَّ ترجمة تُمَاشي التلحين والموسيقى، ويتفق فيها، بل ينسجم الغناء العربي مع عزف الأوركسترا، وإذا كان الدكتور إبراهيم رفعت قد اضْطُرَّ إلى أن يتحرر من وحدة الوزن ووحدة القافية في المقطوعة الواحدة، فإنَّه قد استطاع مع ذلك وقبل كل شيء أن يُنْقِذَ الموسيقى اللغوية وأن يحتفظ بها، ولو على حساب شيء من جمال التعبير الشعري.
وعلى أية حال فمن المعلوم أنَّ غناء الأوبرا في أية لغة لا تستمتع به الروح عن طريق التعبير الشعري، بل عن طريق التنغيم الصوتي، وقَلَّما يستطيع أي إنسان أن يتابع جميع المعاني والصور الشعرية في أية لغة تُغَنَّى بها الأوبرات؛ لأنَّ الألفاظ تتحول في هذا النوع من الغناء أو تكاد إلى ألحان صوتية، ومع كل هذا فقد وُفِّقَ الدكتور إبراهيم رفعت في عدد من مقطوعاته إلى التعبير الشعري الرقيق الذي قد يختلف فيه الوزن العروضي من بيت إلى آخر، ولكننا مع ذلك نحسُّ في المقطوعة كلها بموسيقى الشعر مثل قوله على لسان فيوليتا:
وغنت السيدة منار هذه المقطوعة وغيرها بصوتها الجميل فأشجت النفوس، ولا أظنها تَقِلُّ في أدائها روعة وجمالًا عن خير المغنيات اللائي سمعناهن يؤدين هذا الدور الخالد في لغات العالم المختلفة.
وكان زميلها التنور هو الآخر رائع الأداء، ولولا شيء من اللكنة في أدائه لِلُّغة العربية، وبخاصة عند زميله الباريتون، لاكتملت لمن شاهدوا هذه المحاوَلة كافةُ المُتَع الفنية، وبخاصة وأنَّ المايسترو أحمد عبيد قد استطاع أن يقود الأوركسترا — المختار من بين فِرقة القاهرة السيمفونية — خير قيادة.