أوبرات أبو شادي بين التمثيل والتلحين
كان البحث الثالث الذي قُدِّمَ لدبلوم النقد والأبحاث الفنية في معهد التمثيل العالي هذا العام عن «فن الأوبرا ومحاولة الدكتور أحمد زكي أبو شادي»، وكان صاحب البحث هو الطالب إبراهيم حمادة، وقد خصَّصْته بهذا الموضوع؛ لأنني علمتُ أنه شاعر هو الآخر، وقد صَدَّقَ علمي فلم يَنْتَهِ العام الدراسي قبل أن يكون إبراهيم حمادة قد نشر ديوانًا صغيرًا بعنوان «الآلهة والبشر»، والديوان لا يتضمن غير قصيدتين طويلتين بعنوان «أتعرف أنت أمريكا؟» والثانية بعنوان «السلام لبورسعيد»، وهما من الشعر السياسي الجديد في روحه وأسلوبه وموسيقاه، ويُبَشِّر بأمل كبير لهذا الشاعر الشاب الذي نحسُّ بروح الشاعرية نابضةً في شِعْره.
اخترنا إذن شاعرنا الشاب؛ ليَدْرُس محاولات الدكتور أحمد زكي أبو شادي في فن الأوبرا، وهي محاولات شعرية بالبداهة؛ لأنه ليست هناك أوبرا نثرية، والنثر لا يصلح بطبيعته للتلحين ولا للغناء.
وإذا كنا نحن الممتحِنين قد شكَوْنا في أحد البحثين السابقين من عدم صدوره عن منهج علمي محدَّد فإننا في هذا البحث قد شكونا — بالعكس — من الإسراف في الخضوع للمنهج.
فصاحب البحث قد أحسَّ أنه يتناول موضوعًا قد يكون جديدًا على معهد التمثيل، وهو موضوع الأوبرات التي تدخل عادة في منهج الدِّراسة بمعاهد الموسيقى لا معاهد التمثيل؛ ولذلك رأيناه يُقَدِّم لبحثه بفصلين تمهيديين مسرفَي الطُّول، أولهما عن تاريخ فن الأوبرا في العالم، وكيف أن الغناء والموسيقى والرقص قد صاحبت التمثيليات المسرحية منذ نشأتها الأولى عند اليونان، ثم استقل فن التمثيل بذاته عن غيره من الفنون في عصر النهضة الأوروبية، وعندئذٍ أخذ يظهر في إيطاليا أولًا، ثم فرنسا وألمانيا وغيرها من دول أوروبا بعد ذلك، فنٌّ مسرحي غنائي يقوم على الموسيقى قبل كل شيء، ويدخل في تاريخها، وهو فن الأوبرا، وهذا تمهيد مفيد ولكن الطالب استطرد فيه إلى معلومات عامَّة عن فن الأوبرا عند كل شعب من شعوب أوروبا وأعلامه وخصائصه المميزة.
وانتقل الطالب إلى بحثٍ آخر تمهيدي عن نشأة المسرح الغنائي في مصر والعالم العربي، وقد صاحَبَ الغناءُ والموسيقى — في عالمنا العربي — فنَّ التمثيل عند نشأته، كما صاحباه عندما نشأ عند اليونانيين القدماء، ثم انتهى المسرح إلى أن استقل بذاته — وإن لم ينشأ لدينا حتى الآن فن الأوبرا كما نشأ عند الأوروبيين — بعد استقلال الفنين أحدهما عن الآخر، وفي هذا الفصل استطرد الطالب أيضًا إلى حدِّ تلخيص ومناقشة ثلاث أوبرات للمرحوم سيد درويش هي «شهر زاد» و«العشرة الطيبة» و«الباروكة».
ولم يكن للطالب مفرٌّ من أن يعقد بعد ذلك فصلًا ثالثًا عن الدكتور أبو شادي وحياته والعصر الذي عاش فيه وخصائص شعره، ورأيه في الأوبرا ليصل أخيرًا إلى الرابع، الذي لخَّص فيه ودَرَسَ ونَقدَ أربع أوبرات لأحمد زكي أبو شادي هي: «إحسان» و«أردشير» و«الآلهة» و«الزباء».
وكل هذه الفصول التمهيدية قد تكون داخلة في المنهج العلمي السليم، منهج الأرشيف الذي طَالَبَ به منذ أيام أديبُنا توفيق الحكيم في حديثٍ له بإحدى المجلات، ووَدَّ لو أنَّ كل ناقد احتفظ به؛ حتى يستطيع أن يحدد للأديب الذي ينقده مكانه في الحركة الأدبية العامة؛ حتى يربط العمل الأدبي الذي ينقده بغيره من الأعمال السابقة والمعاصرة له، فضلًا عن ربطه ببقية مؤلَّفات الأديب صاحب العمل المنقود، ولكن الإسهاب في هذه الفصول التمهيدية قد ذكَّرنا نحن الممتحِنين بموقفٍ شهيرٍ في مسرحية الشاعر الفرنسي «راسين»، وهي مسرحية «المتقاضون»؛ حيث نرى أحد المحامين يُسْهِب في التمهيدات ويُزِيد ويُعِيد حتى ملَّ القاضي هذا الإسهاب فصاح بالمحامي قائلًا: «ألا تستطيع يا سيدي الأستاذ أن تَمُرَّ بنا إلى الطوفان»؟
وكأنَّ المحامي قد أخذ يَقُصُّ قصة الخليقة منذ آدم عليه السلام، فأراد القاضي منه أن يُسرع في هذا القصص وأن ينتقل من الخطوات الطويلة الأولى في تاريخ البشر إلى عصر الطوفان، أي عصر نوح عليه السلام!
والتمهيدات العامَّة فوق ذلك قَلَّمَا تأتي بجديد، بل قلما تخلو من أخطاء لا بدَّ أن تَنْتج عن التعميمات المسرفة، وهي على أية حال قليلة الغناء، ومن المؤكد أنها لم تكن خير ما جاء في بحث إبراهيم حمادة، وإنما كان الفصل الرابع الذي وَفَّرَ فيه جهده على تحليل ونقد أوبرات أحمد زكي أبو شادي هو خير ما كَتَبَ في هذا البحث، ولو أنه استطاع أن يجعل الفصول التمهيدية في صفحات قليلة، وأن يقتصر فيها على إبراز الحقائق العامة التي تُمَهِّد لبحثه التفصيلي، وترتبط به ارتباطًا وثيقًا لازداد بحثُه قيمةً وقوة تركيز.
وهنا يظهر الخطر المضاد الذي قد ينجم عن الإسراف في استخدام المناهج والتقيد بها.
ولما كان أحمد زكي أبو شادي قد كتب أوبراته على أنها مسرحيات غنائية، وحرص على أن يُقدمها كأعمال أدبية موسيقية، وزعم أنَّ فن الأوبرا يمكن أن يكون فنًّا أدبيًّا، وأن يكون النص الأدبي فيه هو الأصلَ، والموسيقى مجردَ تزكية لهذا النص، فقد تناوَلَ صاحبُ البحث هذه الأوبرات كمسرحيات، وأخذ يناقش بناءها المسرحي وما اختاره لها مؤلفها من أحداث، وكيفية تصويره للشخصيات وإدارته للحوار.
وقد اختلف معه الأساتذة الممتحِنون؛ فالمسرحيات هي التي تقوم على الأحداث والشخصيات، وأمَّا الأوبرات فإنها تقوم على المواقف قبل أن تقوم على الأحداث، والمهم فيها هو أن يظهر المغنون في مواقف تُحَدِّد العلاقات القائمة بينهم وتبرر الأغاني التي يتبادلونها والموسيقى التي تصور الانفعالات المصاحبة لتلك المواقف أو تعبر عنها، وأمَّا البناء المسرحي وتصوير الشخصيات فليس له في الأوبرا من الأهمية ما له في المسرحيات، وليست الشخصيات في الأوبرا إلا رموزًا أو أبواقًا أو أوتارًا صوتية تشدو، ومن الممكن أن يطرب الناس بهذا الشدو حتى ولو كانوا لا يفهمونها؛ لأنه نوع من الموسيقى وحُكْمُهُ حُكْمُها، وإن اختلفت الآلات وأصبحت في حالة الغناء أحبالَ البشر الصوتية.
وأمَّا ما سُرَّتْ به لجنة الامتحان وأَقَرَّتْ عليه إبراهيم حمادة، بل وهنأَتْه به، فهو تحليله ونقده للكثير من أبيات أبو شادي الشعرية، وقد استطاع أن يُدَلِّل على ما في الكثير من هذه الأبيات من نثرية أو عَجْز عن الإبانة الواضحة، مما اضطر الطالب إلى أن يُسمي كثيرًا من معاني أبو شادي بأنصاف معانٍ، ولعل السبب في ذلك قد كان سرعة أبو شادي في قَرْض الشعر وإكثاره في ذلك، وعدم صَبْره على نضوج المعنى في نفسه وتحايله عليه حتى يسكن إلى اللفظ الواضح المعبِّر.
وأمَّا عن الموضوعات التي اختارها؛ فقد نادى في غير موضع بأنه قد تتلمذ في الشعر على الشاعر الكبير خليل مطران، فمن المؤكد أنه لم يتتلمذ عليه في الصبر على إنضاج التجربة الشعرية، ثم في الصبر على تثقيف شعره، ومن المعلوم أنَّ خليل مطران قد أعطانا سرَّ نبوغه الشعري عندما قال إن المعاودة ومحاسبة النفس هي التي كوَّنت شاعريته. وهذا حق؛ فالنبوغ — كما قال الحكماء — ما هو إلا صبر طويل.
وأمَّا عن الموضوعات التي اختارها أبو شادي لأوبراته فقد استمد اثنين من التاريخ الحقيقي أو الأسطوري، وهما «أردشير» و«الزباء»، بينما استمد «الآلهة» من الأساطير المجردة، وتعتبر «إحسان» من واقع حياتنا المعاصرة وإن بَدَتْ أحداثُها شاذَّةً غير معقولة؛ فبطلها يوصي حبيبته بأن تتزوج من أخيه إذا قُتل في الحرب، وتلك وصية غريبة؛ لأننا لا نظن محبًّا يَسْهُل عليه هذا التفكير في مصير حبيبته من بعده ويوصيها بمثل هذه الوصية الشاذة.
وبالرغم من كل هذه الانتقادات التي وُجِّهَتْ إلى أوبرات أبو شادي؛ فإننا كنَّا نود ألا يقتصر صاحب البحث على نقدها بمعايير الأدب التمثيلي، وأن يعرض لها أيضًا كأوبرات، وأن يستقصي الجهود اليائسة التي بَذَلَها هذا الرائد الكبير أحمد زكي أبو شادي في محاولة البحث عن ملحنين لأوبراته وتقديمها إلى الجمهور كمسرحيات غنائية، وقد حدَّثَنا هو نفسه في مقدمات بعض هذه الأوبرات عما بَذَلَ من محاولات مع السيدة منيرة المهدية، ومع الأستاذ كامل الخلعي وغيرهما من رجال الموسيقى، دون أن يصل إلى هدفه المنشود في تلحين هذه الأوبرات وتقديمها غناء وموسيقى إلى الجمهور.
وبالرَّغم من أنَّ هذه المحاولات الخيِّرة قد بُذِلَتْ منذ سنة ١٩٢٧م فإننا حتى الآن لم نَصِلْ إلى خَلْق هذا الفن الجميل في بلادنا، وقد طوى الزمنُ هذه المحاولات ولم يُتْبِعْها غيرها، مع أننا لو واصلناها لكنا — بلا ريب — قد تقدمنا خطوات على هذا الدرب الذي وإن يكن شاقًّا، إلا أننا لا نراه مُسْتحيلًا إذا صَدَقَت العزائمُ ونَشَطَت الهِمَمُ.