الأرملة الطروب ومسرحنا الغنائي
شاهدتُ مع جمهور القاهرة أوبريت الأرملة الطروب، التي قدمها مسرحنا الغنائي بدار الأوبرا في أول عرض له، وإذا كنتُ قد فَسَّرْت عدم إقبال الجمهور الإقبال الكافي في العام الماضي على مُشاهدة أوبريت يوم القيامة لملحننا العربي زكريا أحمد، وأوبريت الباروكة لسيد درويش، بأنَّ جمهورنا قد تَطَوَّر ذوقه تطورًا كبيرًا وأصبح عسير الذوق والإرضاء، وإذا كان لا يزال يطرب للتلحين الشرقي للأغاني، فإنه أصبح يُدْرِك أن التلحين العالمي هو الذي يصلح للموسيقى والغناء المسرحيَّيْن.
إذا كنتُ قد قلتُ ذلك عن طريق الحدس؛ فقد تأكَّدَ لي صحة هذا التفسير في مساء الأحد الماضي، عندما أحسسْتُ بالجمهور يستجيب استجابة عميقة لألحان الموسيقي المَجَري العالمي فرانز ليهار في أوبريت «الأرملة الطروب»، ولأصوات رتيبة الحفني وأميرة كامل ويوسف عزت في المقطوعة الغنائية التي ترجمها إلى العربية الشاعر عبد الرحمن الخميسي بأسلوب دارج بسيط، ولكنه مرهف الشاعرية.
ولم تكن أوبريت «الأرملة الطروب» متعة للآذان فحسب، بل كانت متعة لكافة الحواس؛ فالإخراج والديكور والبلاتوهات الدائرة والملابس والألوان والأضواء كانت تكوِّن سيمفونية بصرية رائعة الجمال، ورقص الباليه — وبخاصة الرقص الثنائي — لم يكن يَقِلُّ في شيء عن أرقى المستويات العالمية.
ولقد كان من حُسن التوفيق اختيار أوبريت «الأرملة الطروب» التي أَلَّفَها «ليهار» في سنة ١٩٠٥م وهو في الخامسة والثلاثين من عمره، أي في عنفوان الشباب ومرحه المتوثب، وخير ألحانها من نوع رقص الفالس التي ذاعت ألحانها في العالم كله، وعَشِقَها شباب ورجال ونساء العالم كله، وما كنتُ أسمع النغمات الأولى لتلك الفلسات حتى تجري بقية الأنغام في وجداني بعد أن كانت استقرت به منذ أيام الشباب السعيدة المرحة في باريس، عندما لم نكن نعرفها فحسب، بل كنا نحفظها، ونغمات الفالس بوجه عامٍّ من النغمات السهلة التركيب الموسيقيِّ، الواضحة الإيقاع على نحوٍ يدنيها أقرب الدنوِّ من مزاجنا الشرقي، بل ومن الموسيقى الشرقية.
وأوبريت الأرملة الطروب بالغة الخفة والرهافة في موضوعها وألحانها الغنائية، وفِكْرتها الأساسية تقوم على حبٍّ عميق بين الشاب الأرستقراطي المولد دانيليو والأرملة «هنا» التي وَرِثَتْ عن زوجها عشرين مليونًا من الجنيهات، ظَنَّتْ أنها قد ارتفعت إلى المستوى الاجتماعي الذي يجعلها كفئًا لأن تتزوج من دانيليو الأزرق الدم، وأن تتغلب على معارضة عمه للزواج، ولكن فتانا تأخذه العزة بالإثم ويأبى كبرياؤه أن يُفْصِح لها عن حبه أو أن يَقْبَل الزواج منها بسبب المال.
ويدور الصراع بين الطرفين حول الحب والكبرياء، وتتعاقب المواقف الغنائية التي تشجينا فيها رتيبة الحفني بأعذب النغمات الصادحة في دور الأرملة.
وإذا كان زميلها في هذا الصراع كنعان وصفي في دور دانيليو ليس مغنيًا مدرَّبًا — وهذا موضع ضعف — إلا أنه قد عَوَّضَنا عن ذلك بعض التعويض بإتقان تمثيل دَوْره وخفة حركته، ويا حبذا لو كان أيضًا ذا صوت غنائي مدَرَّب، وأمَّا رتيبة فما من شك في أن هذه الأوبريت ستكشف للجمهور الواسع عن موهبتها الأكيدة في الغناء النابع عن حساسية مُرهفة، والصادر عن ثقافة موسيقية عميقة، فضلًا عن معدن صوتها النادر الجمال والتأثير، وإذا كانت حدة صوتها السوبرانو، وارتفاع طبقة التلحين في كثير من المقطوعات التي غنتها لم تمكِّن السامعين من متابعة الألفاظ، فليس ذلك بعيب فيها ولا بعيب في التلحين، بل هو من طبيعة هذا الفن الذي كثيرًا ما تتحول فيه أصوات الغناء إلى مجرد أنغام موسيقية مُشْجِية، وكأنها إحدى الآلات العازفة، وبخاصة عندما يكون الصوت من نوع السوبرانو الليريك مثل صوت رتيبة الحفني، والمهم في مثل هذه الحالات هو أن يدرك المشاهد الموقف الذي تدور حوله الأغنية بمساعَدة الحوار السابق، كما أنه من الممكن الاستعانة بالنصوص الواردة في الليبرتو، أي: في كتيب الأوبريت الذي يوَزَّع دائمًا قبل ابتداء الحفلة.
وإذا كان الجمهور قد استطاع أن يتبين بعض عبارات الأغاني التي غنتها أميرة كامل، بسبب صوتها الذي يُسَمَّى سوبرانو دراماتيك، فإن ذلك لم يمنع من أن صوتها هو الآخر كان كآلة أخرى عازفة مُشْجِية من آلات الأوركسترا، وكذلك الأمر في صوت التينور يوسف عزت الذي نعتقد أنه من الممكن أن يصل بصوته إلى خير مستوًى بمزيد من العناية والتدريب.
وبالرغم من أن الموسيقى تطغى دائمًا على الغناء المسرحي، بعكس ما يحدث في الأغنية؛ حيث يظل للنص الشعري مكانُه ورونقه وجماله، إلا أننا مع ذلك قد طربنا أجْمَلَ الطرب ونحن نتابع النص الذي نجح عبد الرحمن الخميسي في أن يوائم بينه وبين الأنغام في يُسْر وروح حضرية مرهفة، رغم صعوبة ترجمة نصٍّ أجنبي إلى لغتنا العربية على نحوٍ يتمشى مع اللحن والنغم، وهي صعوبة لا توجد في ترجمة نص أوروبي من لغة أوروبية إلى أخرى، لانفراد لغتنا العربية بأنواع من الأصوات والنبرات الإيقاعية التي لا توجد في اللغات الأندوأوروبية؛ لأنَّ لغتنا ساميَّة، وأي حلاوة في قول الخميسي على لسان الأرملة الطروب:
بل لقد استطاع عبد الرحمن الخميسي بشاعريته الحضرية المرهفة أن حوَّل القصص إلى غناء عندما أخذت الأرملة الطروب تقصُّ على حبيبها قصة الجنيَّة التي عشقت صيادًا؛ حيث تقول:
لقد أَسْدَت إليَّ وزارة الإرشاد القومي معروفًا؛ إذ أَنْعَشَتْ روحي بعملٍ فني رفيعِ المستوى جَيِّد الإعداد، وكم أود ألا تفوت أحدًا من مواطنينا هذه المتعة الجميلة.