وظائف المسرح في الشعور واللاشعور
يظهر أنني خُلِقْتُ لأكون مدرسًا، وبالفعل لم أهجر قَطُّ هذه المهنة رغم تقلبات حياتي المتعاقِبة، فقد واصَلْتُ التدريس وأنا أعمل بالصَّحافة أو المحاماة أو البرلمان، ولا أخفي أنَّ هذه المهنة قد كانت دائمًا من مصادر بهجتي وعزائي في الحياة، ولا أظنُّ فرحةً تُعَادِل فرحتي برؤية زهرة من زهرات الشباب تتفتح بين يديَّ أو تَهَشُّ للقائي.
وبحكم هذه المهنة الأدبية أخذتُ أُفكر — أو على الأصح أعيد التفكير — هذه الأيام في وظائف المسرح، وما يمكن أن يكون له من تأثيرٍ شعوريٍّ أو لاشعوري في نفوس الناس، وقد حاولتُ أن أنحِّي عن ذاكرتي النظريات الكثيرة التي سبق أن أَلَمَّتْ بها في هذا المجال؛ حتى لا أسلِّم بنظرية منها، وأَحْمِل طلبتي أو أحاول حَمْلَهم على التسليم بها، إلا عن تجربة واقتناع مستمَدٍّ من واقع الحياة وواقع الناس.
وهذا الاتجاه أو هذا المنهج في البحث مَرَّتْ بي سوابق له، أَذْكُر منها سابقة قام بها أحد كبار أساتذتنا في السربون، وهو المرحوم دانييل مورنيه الذي وَضَعَ كتابًا ضَخمًا سَمَّاه «الأصول الفكرية للثورة الفرنسية»، ولم يتخذ في تأليف هذا الكتاب منهج البحث عن نظريات الفلاسفة والمفكرين والأدباء، الذين سبقوا عصر الثورة؛ ليتخذ من تلك النظريات دليلًا على التمهيد للثورة، بل راح يبحثُ في أضابير الجهات الحكومية ومجالس البلديات ودُور العمد والمحاكم والصحف عن شكاوى الجمهور وعرائضهم وقضاياهم؛ ليستخلص منها مدى تأثُّر الناس بكتابات أولئك الفلاسفة والمفكرين والأدباء، وتسرُّب بعض عباراتهم إلى عامَّة الجمهور مثل ألفاظ الحرية والإخاء والمساواة، أو التمرد على نظام الطبقات وسيطرة الأشراف والكهنوت على حياة عامَّة الناس، وقام بجمع إحصاءات عظيمة الدلالة عن استخدام العامَّة لمثل هذه العبارات التي تكشف عن مدى انتشار الوعي بالقيم الثورية، التي حاوَلَ فلاسفةُ ومُفكرو وأدباءُ القرن الثامن عشر بثَّهَا بين الجماهير، ونجحوا في هذه المحاوَلة التي أنتجت ثورةً تُعتبر من المعالم الأَساسية في تطوُّر الإنسانية وتاريخ كفاحها الطويل.
جاك روسو والمسرح
ولقد لَفَتَ نظري إلى وجوب استخدام مثل هذا المنهج في البحث عن وظائف المسرح، ومسالك تأثيرِه في عامَّة الناس، رسالةٌ كتبها جان جاك روسو في القرن الثامن عشر أيضًا.
ذلك أنَّ روسو عَلِمَ أثناء إقامته في مدينة جنيف مسقط رأسه، أن بلدية هذه المدينة قَرَّرَت أن تنشئ فيها مسرحًا لأول مرة، ورأى بعضَ الكتَّاب والمفكرين يُمَهِّدون لهذا المشروع بعدة نظريات وآراء يُحاولون أن يُثْبِتوا بها أنَّ المسارح دُور تهذيب وتثقيف، ولما كان جان جاك روسو — وبخاصة في شبابه — رجلًا بروتستنتيًّا مُتزمتًا؛ فإن هذه الفكرة لم تَرُقْه، وصمم على أن يُقاومها بعنف، وكتب بالفعل رسالة في مُقَاوَمتها، وبنى هذه المقاوَمة على الحالة النَّفسية التي يتجه بها الجمهور إلى دور المسرح، فقال: إنَّ الناس لا يذهبون إلى المسرح بروح الرَّغبة في التماس الثقافة، أو بروح الاستعداد لتلقِّي دروسٍ أو مواعظَ في الأخلاق والتهذيب، وإنما يذهبون إلى المسرح بحثًا عن التسلية وتزجيةِ الفراغ؛ ولذلك نراهم على استعداد لأن يضحكوا من كل شيء وحتى من الفضائل نفسها.
وضرب جان جاك روسو أمثلة على السخرية من الفضيلة والضحك منها بمسرحية شهيرة لموليير، هي مسرحية «كاره البشر»، التي يسخر فيها المؤلف من بطلها «ألسست» الرَّجل المتزمت الذي يشمئز من الابتذال والنِّفاق، ويكاد يرى في الحياة الاجتماعية — وبخاصة في الأوساط المترفة — نفاقًا وانحلالًا ورذيلة، وذلك بينما يرى روسو في مثل هذا البطل رجلًا فاضلًا مُحبًّا لسلامة الفطرة، واستقامة الفضيلة، ومن ثمَّ كان جديرًا بالتقدير والإعجاب بدلًا من الضحك والسخرية.
والواقع أن كل تفكيرٍ مخْلِص نزيه لا يستطيع إلا أن يُسَلِّم بصحة ما رآه روسو من أنَّ الناس لا يذهبون إلى المسرح التماسًا للثقافة والتهذيب، وإنما يذهبون للتسلية والترويح وتزجية الفراغ، ولكنَّ المشكلة بعد ذلك هي: هل من الممكن أن يساهم المسرح في تثقيف الناس، وتهذيبهم خلال تسليته لهم؟
وهل من الممكن أن يتم هذا التهذيب عن طريقٍ لاشعوريٍّ، فضلًا عن الطريق الشعوري؟ وهل يستطيع أن يُغَلِّف الثقافة والتهذيب بغلاف حلو من الطرب والتسلية على نحو ما يغلف الدواء المر؟
وفي الحق: إنَّ التسلية نفسها قد تكون تهذيبًا، وذلك بشرط أن تنجح في الاستحواذ على تفكير الجمهور وإحساسه، فتَصْرِفه — ولو لفترة قصيرة من الزَّمن — عن مشاغله وهمومه المُلِحَّة، وبذلك تُنَفِّس عنه وتخفف من ضائقته، وقد تفك عن عقله الغِشَاوة التي تعوق رؤيته للحلول الممكِنَة لمشاكله، فيخرج الرَّجل منَّا من المسرح بعد فترة الترويح التي قضاها، وقد أصبح قادرًا على أن يُعاود النَّظر في همومه، وأن يلتمس لها حلولًا، وأن يَنْفُض عنه اليأس؛ ولذلك يقول أحد كبار النقاد: إنه إذا لم يمنحنا المسرح شيئًا، فقد يكفيه أن يسلبنا شيئًا، أي: أن يسلبنا بعضًا من همومنا، أو أن يُخَفِّف مِنْ حَمْلها فنسترد بعض قُوَّتنا على مُجَابهة الحياة وشَقِّ سبيلنا فيها.
التهذيب وفهم الحياة
ونحن، وإن كنَّا لا نستطيعُ أن نطمئنَّ إلى جدوى المسرح الذي ينقلِبُ إلى منبرِ وَعْظٍ وإرشاد، بدليل أنَّ مثل هذه المنابر قليلة الجدوى حتى في دُور العبادة والتبتل ذاتها.
ونحنُ، وإن كنَّا كذلك قليلي الأمل في أن يستفيد النَّاسُ من المغزى التهذيبي للتجارب البَشرية التي يُقَدِّمها المسرح على خشبته، وذلك بحكم أنَّ الناس قَلَّمَا يستفيدون من تجارب الغير، وأنَّ كل فرد منَّا يكادُ يكون مقضيًّا عليه بأن يقوم بتجاربه الخاصَّة، وأن يَدْفَع ثمنها مَهْمَا كان باهظًا، بل وبحكم أننا قَلَّما نستفيد من تجاربنا الخاصة ذاتها بسبب سفسطة العقل الذي يحاول — مدفوعًا بعمل غرائزنا الدفينة — أن يبرر دائمًا أخطاءنا في الحياة، وأن يَلْتَمِسَ لها مُبررات واهمة؛ مما ينتهي بنا إلى نسيان تلك التجارب، وبالتالي عدم الاستفادة منها.
أقول: إنَّه، وإن يكن هذا صحيحًا؛ إلا أنَّ التجارب البَشرية التي يقدمها المسرح على خشبته، إذا كُنَّا لا نستفيد منها عن طريقٍ مباشر في تسديد سلوكنا في الحياة، إلا أنَّنا لا بدَّ أن نَستفيد منها عن طريقٍ غيرِ مباشر، وهو طريق الفهم للحياة ودوافعها الخفية والظاهرة، وحقيقة الخير والشر ونتائجهما القريبة والبعيدة.
وليس من شكٍّ أنَّ الفهم الصحيح للخير وللشر يُعتبر من العوامل الفَعَّالة في تسديد السلوك الفردي والاجتماعي؛ ولهذا رأينا أبا الفَلاسفة «سقراط» يدعو الإنسان منذ فجر التفكير البشري إلى أن يحاول قبْل كل شيء أن يَفْهم نفسه بنفسه، كما يَفْهم حقيقةَ الشر وما فيه من قُبْح، وحقيقةَ الخير وما فيه من جمال، وذلك باعتبار أنَّ الإنسان لا يمكن أن يرتكب الشر وهو عالم أنه شر، ولا أن ينصرف عن الخير وهو عالم أنَّه خير، وأنَّ التخبط في السلوك إنما يأتي غالبًا من الجهل والعجز عن التمييز بين الخير والشر وإدراك نتائجهما القريبة والبعيدة، وبخاصة إذا ذَكَرْنا أنَّ ما في الشر من قُبح وما في الخير من جمال لا بدَّ أن يرتبط بغريزة حاسمة مُسَيطرة على حياتنا، وهي غريزة حب الجمال والنفرة من القبح.
وهكذا نَخْلُص إلى أنَّ المسرح من الممكن أن يُصبح وسيلة لتهذيب البشر عن طريق توسيع فَهْمِهم للحياة ولأنفسهم، ولحقيقة الخير والشر، وما فيهما من جمال أو قُبح، وبذلك يَمْنَحنا شيئًا ولا يقتصر على أن يسلبنا شيئًا.
المسرح واللاشعور
وإلى جوار هذه الوظائف الشعورية التي تتحقق في مجال الوعي، هناك وظائف أخرى للمسرح حاوَلَ المفكرون أن يكشفوا عن عملها فيما يسمونه «اللاوعي» أو «اللاشعور»، وقد كان «أرسطو» أوَّلَ من فطن لهذه الوظيفة اللاشعورية للمسرح عندما تَحَدَّث في كتابه «فن الشعر» عن تأثير «التراجيديا» — أي فن المآسي المسرحية — فيما سماه «تطهير النفوس»، وذلك بإثارتها لعاطفَتَي الخوف والشفقة إثارة تُخَلِّص النفس البشرية عن طريقٍ لاشعوري من نزعات العنف المكبوتة فيها.
وجاء بعد أرسطو فلاسفة ومُفَكِّرون — وبخاصة في العصر الحديث — وسَّعُوا من نظرية أرسطو، ولم يَقْصُروها على «التطهير» الناشئ عن إثارة عاطفَتَي الخوف والشفقة، بل مدوها إلى تطهير النَّفس البشرية من كافة مكبوتاتها ورغباتها المحبوسة، وقالوا: إنَّ هذا الأثر النافع قد يحدث عند المؤلف وعند المشاهدين على السواء، وأبدلوا لفظةَ «التطهير النَّفسي» بلفظةِ أو اصطلاحِ «ادخار الطاقة»، فالمؤلف مثلًا من الممكن أن يعيش — في مسرحية يؤلفها — تجربةً لم تسمح له الظروف بأن يعيشها في واقع حياته، كتجربة غرام مثلًا، وهو بذلك ينَفِّس عن نفسه، ويحررها من رغبة مكبوتة، وكذلك المُشاهد قد يستطيع أن يعيش بالخيال مع الممثلين نفسَ التجربة عن طريق المشارَكة الوجدانية العميقة إذا نجح المؤلف ونجح الممثلون في أن يَحملوه على هذه المشاركة.
المنهج الواقعي
هذه بعض الوظائف المحتمَلة للمسرح، ولكنني مع ذلك ما زلت أُفَكِّر في طريقةٍ عملية يُمكن أن يُطَبَّق بها المنهج الواقعي الذي استخدمه أستاذنا المرحوم «دانييل مورنيه» في البحث عن الأصول العقلية للثورة الفرنسية، وهذا المنهج لا يمكن أن يتحقق إلا بدراسة جمهور المسرح، ومحاوَلة الكشف عن التأثيرات الفعلية التي يتركها المسرح في نفوسهم، ولكن كيف السبيل إلى هذا؟