عنصر التشويق في المسرح العالمي
لاحظت أثناء قراءتي لعدد من المسرحيات، التي قُدِّمَتْ للَجْنة القراءة في الفرقة القومية، أنَّ عددًا من كُتَّابنا الشبان لا يتبيَّنون في وضوحٍ مَعْنى عنصر التشويق ووسائله في التأليف المسرحي، فساقني ذلك إلى مُعالَجة هذا الموضوع الْهامِّ في هذه العجالة.
يتحدث النقاد في مجال التأليف المسرحي عن عنصر هامٍّ يجبُ أن يحرص عليه المؤلفون، وهو عنصر التشويق، وهم يقصدون به ألا تكون حوادث الرواية مما يَسْهُل تَوَقُّعه أو استنتاجه أو التكهن به، وذلك حتى يظل المشاهدون في تَشَوُّق لمعرفتها.
منطق التأليف
ومع ذلك؛ فيجب أن يكون مفهومًا أنَّ عنصر التشويق — بل والمفاجأة — لا ينبغي أن يكون خارجًا على حدود العقل، ولا على منطق التأليف بين الحوادث.
وإذا كان من الواجب أَلَّا تكون الحوادث قريبةَ المنال سهلةَ الاستنتاج؛ فإنه من الواجب أيضًا ألا تكون مستحيلةَ الوقوع، وألا تكون الصلةُ المنطقية الدفينة بينها وبين الحوادث السابقة مفصُومة العُرى، وبالجملة يجبُ أن تكون مما يُؤمن عليه الاستنتاج إن لم يُدركه في يُسر مُبتذل، أي: مما يُقِرُّه العقل والإحساس وإن لم يَلْمَحاه من قبل.
وعاء التشويق
ومنَ الواجب — عند البحث عن عنصر التشويق في الرِّواية المسرحية — أن نبحث عن وعائه؛ لأنَّه قد يكون في نفوس المشاهِدين الذين يسبقهم المؤلف في تَمَهُّل بالحوادث، ولا يُطالبهم بها إلا بمقدار، وتبعًا لسَيْر المسرحية؛ بحيث لا تنْكَشِف أسرارها إلا عند الخاتمة.
وقد يكون ذلك الوعاء في نفوس الممثلين: وذلك بأَنْ يُسِرَّ المؤلف بوساطة إحدى شخصياته الروائية إلى المشاهدين بِسِرٍّ من أسرار روايته، ويكتمه عن الشخصيات الروائية الأخرى، فينتقل التشويق إلى معرفة ما ينتهي إليه الأمر في نفوس الممثلين عندما يبحثون عن السر الخفي، وعندما تنكشف لهم حجبه.
الاعتراف المهموس
ولقد عبَّر الفيلسوف المشهور «ديدرو» عن هذا الاختلاف في الوعاء بقوله: «يستطيع المؤلف أن يُهيئ لي لحظةَ انفعال بالمفاجأة، ولكنه يستطيع أن يمنحني لحظات من هذا الانفعال بالاعترافات المهموسة.»
وهو يقصد بالمفاجأة كشْفَ الغطاء عن السر بغتة أمَامَ المُشَاهِدين الذين تركهم المؤلف في جهلٍ بما يجري من حوادث.
وأَمَّا الاعترافات المهموسة؛ فيقصد بها ما سَبَقَ أن أشرنا إليه من إحاطة أحد الممثلين الجمهور عِلْمًا بالسر وكَتْمه عن الممثلين الآخرين، أي: عن شخصيات الرواية الأخرى، وترك تلك الشخصيات تتحرك وتتضارب للوصول إلى ذلك السر، بينما يشهد الجمهور تلك المعركة وينتظر ما تُسفر عنه، ومن البيِّن أن «ديدرو» يُفَضِّل الاعترافات المهموسة على المفاجأة، ويرى أنه إذا كانت الأُخرى تهيئ لنا لحظة انفعال؛ فإن الأولى تهيئ لنا لحظات.
مسرحية «أوديب ملكًا» ضعيفة فاترة
ولقد أثار الناقدان المشهوران «فرنسيس سارسي» و«جيل ليمتر» في أوائل هذا القرن — عندما عادت الكوميدي فرانسيز إلى تمثيل رواية «أوديب ملكًا» — جدلًا قويًّا حول عنصر التشويق في هذه المسرحية الخالدة، وكان وعاء التشويق هو في الواقع ميدان هذا الجدل.
لقد قال فرانسيس سارسي: إنَّ «أوديب ملكًا» مسرحية ضعيفة فاترة؛ لأنَّ عنصر التشويق مفقود منها؛ وذلك لأنَّ محورها رجل شاء القدر أن يقتل أباه وأن يتزوج أمه وهو يجهلهما؛ إذ نشأ بعيدًا عنهما وحَلَّتْ النقمة بمُلْكه، وقال الكهنة: إن هذه النقمة لن ترتفع ما لم يُعْرَف قاتل المَلِك.
ومنذ البدء نرى العراف «تريسياس» يُشير لأوديب إشارات واضحة بأنه هو القاتل، ويُدرك الجمهور معنى هذه الإشارات الواضحة، وبذلك يصل إلى السر، وبوصوله إليه ينعدم عنصر التشويق، ولا يشفع لذلك في شيء أنَّ أُوديب نفسه قد أَبَى أن يُصَدِّق «تريسياس»، بل وثار في وجهه، ثم لا يَقِفُ الأمر عند هذا الحد، بل تتلاحق الأمارات والنُّذُر، ولكنها تكشف لأوديب عن أنَّ القاتل هو أوديب نفسه، فكريون يُشير إلى هذه الحقيقة القاسية، والرَّاعي يكاد يفصح عنها … إلخ، وبذلك ينعدم عنصر التشويق بالنسبة للجمهور — فيما يرى سارسي — مرةً بعد مرة.
إدراك السر
هذا ما رآه سارسي، وأمَّا جول ليمتر؛ فقد انبرى للدفاع عن شاعر اليونان العظيم وعن مسرحيته، واستند في هذا الدفاع إلى الملاحظة النافذة التي كتبها «ديدرو» منذ القرن الثامن عشر، فقال: إنَّ عنصر التشويق غير معدوم في هذه المسرحية الفذة، وإنما تَغَيَّرَ وعاؤه فانتقل من نفس الجمهور إلى نفوس الممثلين، حتى أصبحنا نشهد المعركة حاميةً بين أوديب وبين الحقيقة التي تُريد أن تحرقه بنارها وهو يجاهد — ما استطاع — للإفلات منها، وإذا كان الجمهور قد أدرك السر؛ لأنه لا يضنيه في شيء أن يُسَلِّم به وأن يتقبله لانعدام مصلحته في تكذيبه والاستعصاء عن تصديقه، فإنَّ أُوديب الذي كانت سعادته — بل حياته — ثمنًا لهذا السر كان من الطبيعي أن يأبى التسليمَ به، وهو مُخْلِص في هذا الإباء، بل عنيدٌ لحرصه الغريزي على الإفلات من نار الحقيقة، ويتركز التشويق في معرفة ما سوف تُسْفِر عنه تلك المعركة التي تَشِيب لهولها النواصي.
هذا هو عنصر التشويق في المسرحيات، وهذان هما عنصراه الأساسيان، يقوم أولهما على طبيعة هذا التشويق ونهوضه وسطًا بين الإغراب والابتذال، ويقومُ ثانيهما على وعاء ذلك التشويق واستقراره بنفس الجمهور أو بنَفْس الممثلين.