كتاب «فن المسرحية»
لَا شَكَّ أنَّ الدكتور علي الرَّاعي قد أسدى يدًا طيبة لأدبنا المعاصر؛ بنشر كتابه الأخير عن فن المسرحية، وعلي الرَّاعي رجل دقيقٌ يُحِبُّ دائمًا أن يتثبت من كل ما يقول أو يفعل، ومع ذلك أخشى بعض الشيء على أدبائنا النَّاشئين من أن يُكَبِّلهم هذا الكتاب بقيود التأليف المسرحي التي أُحِسُّ من خبرتي الطويلة بهذا الفن أنَّ عمالقته أنفسهم قد تحللوا من كثير منها، أو على الأقل طَوَّرُوها، بحيثُ تصبح عَوْنًا للمواهب لا قيودًا تُحِدُّ من انطلاقها المثمر المستنير، وإن كنتُ أَحْمَدُ لِعَلِيٍّ الرَّاعي ما قَرَّرَهُ في إحدى صفحات هذا الكتاب؛ من أنَّ الأصول التي قَرَّرَها ليست مُقَدَّسة، ومِنْ حَقِّ الأدباء أن يخرجوا — إذا أرادوا — على ما يشاءون منها، بشرط أن يكون خروجهم عن وعْيٍ وعلم.
وفي ندوةِ «مع النقاد» التي عُقِدَتْ لمناقشة هذا الكتاب، حاوَلْتُ أن أوضح أنَّ أصول الأدب المسرحي قد تطورت منذ أرسطو حتى اليوم، بل أبديتُ دهشتي مِنْ أن يُتَّخَذَ حتى عصرنا الحاضر ما قرره أرسطو من أصول للمسرحية أساسًا لكل نقد ودراسة، وأَمَّا ما كتبه أرسطو عن فن الكوميديا؛ فقد سقط من كتاب «الشِعر» وضاع، ومن المؤكد أنه لو وصل إلينا ما كَتَبَهُ أرسطو عن فن الكوميديا لتَغَيَّر تاريخ النقد المسرحي كله؛ لأننا كنا سنَجِدُ عندئذٍ أصولًا خاصة بالكوميديا تختلف — فيما أحسبُ — اختلافًا كبيرًا عن الأصول التي قَرَّرَها للتراجيديا فيما يختص بالموضوع ووحدته، والصيغة الدرامية وطريقة بنائها، والشخصيات وتصويرها، والحوار ومنهجه الدرامي، ولكنَّ النقاد الذين سَيْطَرَ عليهم أرسطو قرونًا طويلة عندما لم يجدوا في كتابه عن الشعر الأصولَ الخاصةَ بالكوميديا عمَّمُوا أصول التراجيديا التي ذَكَرَها على كافة أنواع المسرحيات، وظلَّ هذا التعميم مُسْتَمِرًّا بالرَّغم من تحليلنا للكوميديات التي وَجَدَها أرسطو في متناوَله عندما كتب كتابه، وبخاصة كوميديات أرستوفانيس، من السهل أن يوحي إلينا بمبادئَ وأصولٍ تختلف — كما قلتُ — عن المبادئ والأصول التي استنبَطها أرسطو من تحليله لتراجيديات عمالقة هذا الفن من الإغريق مثل أيسكيلوس وسوفوكليس ويوربيدس.
وعندما أبديت للدكتور علي الراعي هذا الرأيَ أصرَّ على أنَّ الأصول التي صاغها أرسطُو يَصِحُّ، ولا يزالُ يصح تطبيقها على كافة أنواع المسرحيات؛ من تراجيديا إلى كوميديا إلى دراما حديثة بكافة أنواعها، وخرجنا من النَّدوة وكلٌّ منا عند رأيه، تاركين هذه المشكلة الكبيرة رهْن مناقشةٍ أطول وأعمق.
نماذج كلها غربية
وأَثَرْنا في الندوة مُشكلةً أُخرى بالغةَ الأهمية، وقد ساقنا إليها ما لاحظناه من أنَّ الدكتور علي الرَّاعي عند تقريره لأصول الفن المسرحي قد اعتمد على نماذج كلها غربية، من إبسن، وشو، وسترندبرج، وتشيكوف، وسنج، ولم يعرض لأي مسرحية عربية، وقد اختلفنا بصدد هذا المنهج، فرأى الرَّاعي أنَّه من الخير عند تقرير الأصول أن يُعْتَمَد على النماذج العالمية، بينما رأيتُ أنه رُبَّما كان من الأفيد أن يُقَرِّر نقادنا ودارسونا الأصول كما استخلصوها واستخلصها غيرهم من النماذج العالمية، ثم يطبقوها بعد ذلك على ما أَلَّفَه أدباؤنا العرب المعاصرون من مسرحيات يعرفها القراء، ولكن لا يتبينون مدى استقامة الأصول الفنية فيها، وبذلك نَجْمَع بين الأمرين؛ فنُقرر الأصول، ونَنْقُد — في ضوئها — إنتاجَنا العربي.
مَشاهد منتزَعة
وآثرنا في الندوة أيضًا منهج التأليف في هذه الكتب الفنية البالغة الأهمية؛ وذلك لأننا لاحظنا أنَّ الدكتور علي الراعي قد سار على منهج إيراد مَشاهد كاملة من بعض المسرحيات العالمية التي أشار إليها كتأييد للأصول التي قَرَّرَها، وكُنَّا نُفَضِّل أنْ لو أخذ بنفسه الحديثَ فحَلَّل تلك المسرحيات تحليلًا كاملًا، وأَبْرَزَ وسط هذا التحليلِ المَشاهِدَ التي يُريد التركيز عليها، وبذلك لا تبدو المَشاهد الواردة في الكتاب مُنتزَعةً من مسرحياتها انتزاعًا، مع أنَّ دلالتها قد تكون مُرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالمشاهد الأُخرى في المسرحية وبِنَسَقِها العامِّ، ولكنَّ الدُّكتور الراعي أكد مع ذلك أنَّ المنهج الذي اختاره يرى — ويرى معه عدد من الزملاء — أنَّه أجدى على قرائنا؛ إذ يضع أمامهم النصوص الأصلية.
الشخصيات الروائية
وأخيرًا اختلفنا في النظر إلى الشخصيات الرِّوائية وطبيعتها في المسرح الذهني، وبخاصة مسرح برنارد شو، فالدكتور علي الراعي يرى أنها شخصيات فعلية، بينما أرى أنها مجرد أبواق للمؤلف، وقد ضربتُ مثلًا بشخصية «كانديدا» عند شو، فهي سيدة ينتهي بها الأمر في مسرحية شو، إلى أن تُجْلِس زوجها في ناحية وعاشقها في ناحية أخرى ليُدلي كل منهما بالأسباب التي يمكن أن تَحْمِلَها على تفضيل أحدهما على الآخر، وما أظنُّ أن هذه شخصية إنسانية يمكن أن توجد فعلًا، وإنما هي شيء اصطنعه شو كتأكيد لإجراء مناقشة ذهنية خالصة بين هؤلاء الأشخاص.
وهكذا خرجتُ من كتاب «فن المسرحية» للدكتور الراعي وفي نفسي عِدَّةُ قضايا أرى أنَّها لا تزال في حاجة إلى مزيد من المناقشة، وإن يكن كلُّ هذا لم يمنعني من أن أَخْرُج من الكتاب بمتعة ذهنية عميقة منبعثة عن فهم سليم للفن المسرحي كله.