خطب الرئيس
وقع في يدي منذ أيام، كتاب «خطب الرئيس». عفوًا، أنا أوقعته في يدي، فالأقرب إلى الصدق أن أقول هبشت منذ أيام كتاب خطب الرئيس، وما عليَّ إن استعملت لفظة لا يؤدي غيرها معناي كاملًا، غير منقوص. إنها لفظة عربية منسوبة العم والخال لا يتنكر لها لسان العرب ولا تاج العروس.
ولما صارت تلك الخطب في حوزتي وقفت عند عنوانها وقفة ليست بالطويلة ولا بالقصيرة. قلت في قلبي: لقد أحسن من انتقى لها هذا العنوان، وحذف كل ما تواضع عليه الناس من ألقاب جرارة تمشي في موكب الاسم راقصة خلفه وقدامه، أثقال لا معنى لها إلا أنها أثقال. فقولنا الشيخ الرئيس يذكرنا بذاك الفيلسوف العظيم ابن سينا طبيب الروح والجسد، والشيخ الرئيس، اليوم، هو طبيب كذاك، طبيب أرواح وأجساد جمهوريته.
إن من لم يحوط اسم الشيخ الرئيس بالفخامة والرئاسة أحسنَ إلى الأدب، فأجاز لنا درس خطب رجل الساعة والغد كأديب أو خطيب مفوه. وكما يضرع رئيسنا المفدى في أكثر خطبه إلى ربه ليصون لبنان، فإنني أنا بدوري أحمد الله، ولو مرة؛ لأنه أسمعنا صوتًا غير أعجم طمطم، أسمعنا صوت رئيس لا يلوك لسانه، بل يقول فيعرب، فلا نغالي إذا سميناه أديب الرؤساء ورئيس الأدباء.
الرئيس الشيخ حفيد فقيه زمانه الشيخ بشارة الخوري، وابن خليل بك الخوري رئيس القلم العربي الذي صحت معه لغة الديوان في عهد المتصرفية. وخطبه التي نتحدث عنها الآن ليست أول أثر عربي للشيخ الرئيس، فلابسو الروب — وهم كثر في لبنان، وابني منهم والحمد لله — يرجعون إلى تآليفه الاشتراعية الناصعة اللغة، البليغة العبارة؛ فالشيخ يضرب في كل مقام عربي بسهم، بل قل بسهم مراش ولا تخف، ولا يرمي إلا صائبًا، ناهيك أن بلاغته في لسان القوم لا تَقلُّ عنها في لساننا العربي المبين. فإذا رأيته في هذه الخطب يغرف من بحر وينحت من صخر، فاعلم أنه — أيده الله — عميق الثقافة، واسع المعرفة، حفظ أفصح الشعر، وأبلغ النثر، فأطاعه الكلام. وهو اختصاصي في تاريخنا، تلقن تاريخ لبنان في المهد صبيًّا، تعلمه في المحادثة حول الموقد شتاء، وفي الهواء الطلق صيفًا، حين كان يُصغي إلى أبيه وسماره، وكلهم شيوخٌ أكابر عركوا السياسة اللبنانية وعجنوها وخبزوها.
إن هذه الخطب تنم عن حنكةٍ، وصبر، وحكمة، ودهاء. وهي مع هذا واضحة صريحة، لا فِخاخ فيها ولا مطامير، قوامها الإيمان والرجاء والمحبة، فهو المؤمن بحق بلاده، المُترجي فلاحها ونجاحها، والمُحب حتى خصومه فيها. فكل ما يَبُوح به لسان الشيخ الرئيس منبعه قلبه المشرق الأعماق. ليس في خُطبه ذرة من المطاط السياسي، فما هنالك غير الماس يتلألأ، يفتنك بريقه، ويُغريك لمعانه. ليس شيخنا بشارة الخوري طلسمًا سياسيًّا ولا أبا هول. اسمع هذه الصراحة وهي من خطبته في طرابلس، قال أيده الله: منذ عامين رفعنا هذا الشعب بدافع حزبي أو شخصي، أو بنزعة استقلالية إلى الآرائك النيابية. إلى أن يقول: عطفًا على هذا فيما بعد: وإذا كنت أنا وليد الحزبية في الانتخابات، فقد انتخبني المجلس رئيسًا للجمهورية بإجماع الأصوات. وهب أنه بالأكثرية، فإن رئيس الجمهورية يترفع عن الحزبية، ويكون للجميع على السواء. ثم يلجأ إلى ربه قائلًا: فأطلب منه تعالى أن يغل نفسي وعقلي ويدي عن النعرات. ويختم هذه الخطبة بقوله: عاش لبنان مستقلًّا حرًّا ديمقراطيًّا عربيًّا.
إن الآداب العربية تأمرنا برد التحية على الأقل، فلنقل إذن: عاش بطل الاستقلال الحكيم، والربان العليم.
ومن خطب الرئيس تشع أنوار المحبة الصادقة لمن يوجه إليهم الكلام، فتنير أمامه أشد الطرق ظلامًا. إنه لمحبٌ مخلص لا تغره الفخفخة، رئيس ديمقراطي، تشعر إذ تقابله أنك حر طليق من كل ما تخيلته من قيود (رسميات). فلا تكاد تطل عليه حتى يحلَّك وجهه الطلق من أغلالك وتنبري ابتسامته الرصينة لفك أنشوطة البروتوكولات والتشريفات، فتنحل جملةً ويستقيم الخيط المعقد أمام عينيك.
بهذا الخلق السامي استطاع الربان أن يبلغَ بالسفينة الشاطئ الأمين، وأن يُدركَ لبنانُ على يده ما لم يُدركه من استقلال في جميع أطواره.
استوحى فخامة الرئيس هذه الخطب الرائعة من وقفاته المشرفة في مراحل الجهاد والاستقلال. وهذا المجلد لا يضم خطب الرئيس جميعها، ولكنه افتتح بخطبة «عهد الرئيس للأمة»، وختم بخطبة «الجلاء»، المعركة الفاصلة في تاريخ النضال. قال الرئيس في خطبة العهد: «فأسأل الله أن يعيننا على خدمة هذا الوطن اللبناني المستقل، المتمتع بسيادته كاملة غير منقوصة، مهما تكن التضحية في سبيل هذه الخدمة الكبيرة، هذا الوطن اللبناني الذي نضع حبه فوق كل شيء، والذي يحب أن يظل للبلدن العربية المحيطة به جارًا أمينًا، وأخًا صادقًا، تربطه بها روابط تعاون يسوده الود والإخلاص.»
التضحية الكبرى هي أول ما تمثل للرئيس منذ انبلاج فجر عهده، فكان له ما تخيل. راز، حفظه الله، أثقال أعباء الرئاسة فأعرب فورًا عن اقتبالها. فما مر خمسون يومًا حتى ظهرت أشباح التضحية وكان الاعتقال، فضج الشرق والغرب، وعاد الرئيس جانيًا ثمار النصر من شجرة التضحية الكبرى، وها هو يُسمع شعبه صوته ذاكرًا حاصبيا التي شهرها اعتقاله كما تشهر الوقائع الكبرى قطعة من الأرض، فيلقي خطبة عنوانها «الاعتقال ثبت إيماننا في الاستقلال»، فيقول: «إذا عدنا بالذكرى يمكن أن يساورنا بعض الألم، أما إذا نظرنا إلى النتائج، فلا يمكن إلا أن يفعم نفسنا الفخر والغبطة؛ لأن هذا الاعتقال ثبت قدمنا في الاستقلال، وحرر دستور البلاد، وعزز سيادتها الوطنية. وكما أن حبة الحنطة لا تثمر إلا إذا دفنت في الأرض، كذلك الاستقلال فهو لم يثمر إلا بعد أن دفن في راشيا.»
لقد حارب الرئيس على جبهتين، وكأني أتصوره يقول إذ كان يجابه مشاكل الجمهورية خارجية وداخلية: ودخلت في ليلين فرعك والدجى … ولكن الليل لم يتطاول، وآب راعي النجوم … فكان مساء وكان صباح …
فإذا قرأت هذه الخطب، على تنوع أغراضها، ترى الشيخ الرئيس لا يفارق عمود أسلوبه الرفيع، تتمتع أفكاره العميقة بصفاء البحر ساعة هدوئه. إنك ترى قاعه الجميل ولكنك تخطئ جدًّا في تقدير المسافة التي تفصلك عن الأعماق. فالشيخ الرئيس يضم إلى أناقة التعبير عمق التفكير فلا نقع في خطبه على فكرة معادة مكرورة، مع تشابه المواقف. فبينا أنت تسمعه في خطبة العهد يرسم خطوط وجه لبنان الجديد، إذا به يحدثك في خطبة أخرى عن «الاقتصاد» كأحد علمائه، والخطبة بارعة كأختها تلك، ثم يتحدث عن الغرسة الصغيرة في تراب لبنان فيناجيها بأسلوب شعري يفيض حبًّا وحنانًا: «لبنان والشجرة رفيقا صبا وشريكا جهاد. الشجرة جمال خالد، وثروة فياضة، ورمز مفدى، ما برحت الشجرة كذلك في لبنان الذي يحرص على تقاليده ويتمسك بماضيه، ويثق بحاضره ويؤمن بعده إيمانه بالله، وبالعدالة والحق والحرية.»
ثم يدع الأسلوب الشعري لينطلق في أسلوبه التقريري الرائع، حتى إذا بلغ ما يروم لجأ إلى الأسلوب الخطابي الصارخ: أيها اللبنانيون واللبنانيات الأعزاء، ازرعوا الأشجار واعتنوا بها، فالشجرة رفيقة لبنان في صباه، وشريكته في جهاده، عاشت أشجارنا، وعاش لبنان!
وهكذا ينتقل الشيخ الرئيس في أبراج البلاغة، ينتقل من جو الحقوق ليتغلغل في أجواء الصلات الدولية، فينبري الشيخ السياسي العارف تاريخ بلاده منذ عصر الصوان والظران إلى عصر الراديو والذرة.
وكما يتحدث ليلة «الميلاد» تظلله روعة الإيمان كذلك يتحدث ليلة «المولد» بيقين عميق، وهو في المقامين مخلص صادق. فهو، وإن دان بدينه تدين ممارس، يرى أن غاية الأديان كلها تأييد الحق والخير، وأنها على اختلافها كوى يطل منها الإنسان ليرى وجه ربه.
وإذا تعمقت في خطب الرئيس دلتك على أن صاحبها رجل لا يحمل الحقد، ويصح فيه قول الشاعر:
وقبل أن أفلت خيط هذه الفكرة يطيب لي القول: إنه ليحق لهذا المفكر الكبير أن يقول مع المتصوف الأعظم: وأصبح قلبي قابلًا كل صورة.
•••
والآن فلنعد إلى عملنا، إلى مجهرنا — ميكروسكوبنا — فنقول: إن العنصر الأدبي يسود هذه الخطب جميعها، يرصِّعها الشيخ أحيانًا بالشعر النفيس، فتدلك على أن قائلها هو من الأدب العالي في صميم قلبه، وحسبك أن تقرأ خطبته في بعبدا لتعلم أن الشيخ الرئيس يترك إذا شاء الموسيقى النحاسية المهيجة ليأخذ الناي الحنون، فيشجيك حين يشاء ويهيجك متى شاء. فحديثه عن ذكريات صباه في بعبدا قطعة أدبية رائعة يتجلى فيها الشيخ الأديب الأصيل.
أما النبع الذي يمد شيخنا في هذه المواقف فهو ما تدخره ذاكرته من روائع الشعر. أشهد أنني أعييت في مساجلته في بتدين حتى قلت لفخامته: ما كفاك ما صرت حتى تطمع بالرئاستين وتقطع لقمتنا؟ فقال: هذا حق الغداء.
وبعدُ، فإن «خطب الرئيس» تربطها وحدة جهاده الذي ربط لبنان بإخوته الأقطار العربية، فهي تستحق بحق أن تسمى كتاب الجهاد اللبناني. وهو كتاب ذو وحدة، يفتتح بعهد الرئاسة، ويختم بخطبة الجلاء. وفي كل موقف نشعر أن الشيخ الأب يتحدث إلى أبنائه وإخوانه، يبتعد عن الأنانية ويعزو إلى لبنان، حكومة وشعبًا، كل ما كان وحصل، تارة يخاطب العقول، وطورًا يناجي القلوب، ولم يحرم أحدًا حتى الأطفال من أحاديثه العذبة لعلمه أنهم مشتل الرجال.
وفي خطبة الجلاء وقف الشيخ الرئيس، فكان أقل منه كلامًا في كل مقام. ولا عجب؛ فذاك موقف تتعطل فيه لغة الكلام، ويمتزج الدمع بالابتسام. هناك في المعبر الذي مر به جميع الفاتحين وقف الشيخ العظيم، ووقف يمهر صك الاستقلال في المضيق الذي كنت أسميه سجل التشريفات كلما مررت به. وشاء الجهاد أن يكون ختام هذا السجل الدهري موقعًا بلغة الضاد: باسم الشيخ بشارة خليل الخوري.
كان الله في عونك يا شيخنا الخالد، وحسب سلسلة النهضة الأدبية اللبنانية منك أنك أوجدت حلقة الأدب السياسي المفقودة. والأدب السياسي خلق وتكوين، وتجديد قيم إنسانية سامية.