الصَّافي
يقول العرب: كل يغني على ليلاه، أما صديقنا الصافي النجفي فيغني على ألف ليلى. فإذا رأيته على الرصيف إما متأملًا وإما شائح النظر فلا يتبادر إلى ذهنك أنه من السحرة أو العرافين الذين يرجمون بالغيب، بل ثق وتأكد أنه شاعر هائم، شاعر بويهيمي حقًّا، يعمل بقول المثل القائل: من اهتم من غداه لعشاه كان من القوم الكفار.
الصافي شاعر، ولكنه شاعر على طريقته هو. لست أشك في أنه لا يستطيع إخراج شعره بغير مظهره هذا، وإن رأيناه في «أشعته» و«أغواره» و«تياره» أصح وأبهى ديباجة منه في «أمواجه»، فللأمواج زبدها وعفشها ونفشها. أما الأشعة ففيها ضياء ولمعان بمقدار. إن حظ الشاعر من الألوان قليل؛ لأنه غير بعيد مرامي الخيال. الصافي شاعر واقع، وواقع كالماء الزلال، وإن أسمى ديوانه الصغير «أشعة ملونة» أنه نظم عفوًا، وهو شعر قاله صاحبه في مواضيع شتى، حتى كاد أن يكون مجموعة خواطر التقطتها مخيلة الشاعر حين سنحت. يختلف الصافي ويتفق فيها مع زميله الزهاوي في رباعياته، وهما عندي طائران تفقصت عنهما بيضة واحدة؛ يتفقان شكلًا وإن اختلفا في بعض المواضيع، كلاهما شاعر غير محكك. وكأني بالصافي قد أدرك هذا فقال:
ألا يذكرك هذا قول ابن الرومي:
فإذا صنفنا الشعراء، وهذا ممكن؛ لأن الشعراء كالطيور أشكال، على بعد الشقة والأجيال، رأينا الصافي في ديباجته كابن الرومي، وإن كان دونه خلقًا وخيالًا. وفي صاحبنا النجفي شيء آخر من ابن الرومي هو قلة ثقته بفهمنا نحن البشر، فيقول:
وهو أيضًا كابن الرومي في شنه الإغارة على الذين يطعنون في شعره فيقول فيهم:
أما النقاد، ويا ويلتي عليهم، فهذا حظهم في كل زمان، ولكن صاحبنا حملهم ما لا يطيقون. التقى بهم في غور من «أغواره» — دونه غور بيسان، فهو أحط من البحر كيلومترًا — فقال كلامًا معقولًا. أما في التيار فقد تجاوز الحدود والتخوم، وهذا ما يفعله التيار الجارف. فاسمع الآن ما قاله شاعرنا في «الأغوار»:
أني أقره على هذا الرأي فليسر. إن الناقد لا يستطيع أن يصير الذهب عيار ٢٤ ولكن هذا عمل الصائغ، فليصوب الصافي أنبوبه «شالوبه» على شعره ليولد اللهب الآكلة، فهو مستطيع — إلى حد ما — إذا أراد. هذا ما أصابنا من أهوال «الأغوار»، أما ما لقيناه من التيار فهو الداهية العمياء والمصيبة الهوجاء، مصيبة في العنوان ومصيبة فيما تحت العنوان ووراءه، وخلفه، وقدامه، ولولا يهجونا الصافي هجوًا غير لئيم لهان علينا الأمر فاسمع سبابه:
ولا يهمل النجفي الفخر بشعره، وهذا الفجر الطائش داء الشعر العربي الخبيث، داء باض وفرخ في صدور كل من قالوا منا شعرًا. والغريب العجيب أن كل واحد منا يظن أنه الشاعر المفرد، وليس من ينتقد شعره إلا حاسد لئيم. أما صاحبنا هذا، وليس قولي هذا بضائره، فقد فاق كل فوق في هذا المعرض حين قال:
أقول آمنَّا وصدقنا بهذا العلو، ولكن إيمان البلهاء لا يدخلهم ملكوت رضا صديقنا النجفي. فالملكوت مختص بذوي العقول. إن اللاهوتيين لم يحددوا بعدُ الزاويةَ المعدة للمجاذيب والبهاليل في دنيانا الثانية.
أما سخط النجفي فكسخط ابن الرومي، كلاهما متبرم ضيق الصدر بالناس غاضب عليهم، والفرق بين الشاعرين أن ابن الرومي يرمي عن قوس سخطه شخصًا بعينه، أما النجفي فضرَّاب قنابل رشاشة لا رامي سهام مراشة، فالناس كلهم عنده أنجاس. إن هذه فكرة شعرية طاغية على الشعر العربي، ومولدها الثأر للشعر من الناقدين، وهي التي ظغت على شعر المتنبي. شك المتنبي بصديقه لعلمه أنه بعض الأنام، وقال الصافي يذم المخلوقين على صورة الله ومثاله، بصورة لم أُوَفَّقْ إلى نعت صارم ألصقه بها، فيقول في كلب حكم عليه صاحبه بالإقامة الإجبارية في الشارع مؤبدًا، فانتصر الصافي لذاك الكلب حين رآه حزينًا مكسور الخاطر:
رق قلب الصافي لهذا الكلب المسكين فقصد بيت صاحبه، وإذا به يرى عنده جرو كلب جميل، فوبخه «على تركه قديم الصحاب» أي الكلب العتيق المظلوم فكان من الرجل أن:
وبعد أن عاد الصافي يتعثر بذيل عباءته، قعد يقرع البشر ويلوم حتى ختم قصيدته بهذا البيت الطريف:
هذا نموذج — ذو قيمة — نقدمه للقراء من سخر صديقنا النجفي. إن سخره يبكي ولا يضحك، فلا هو سخر بشَّاري ولا سخر نواسي ولا رومي.
أما مواضيع الصافي فلا تحلل، لأنها كنعم الله التي لا تحصى ولا تعد، إلا إذا خصصنا شاعرنا بكتاب أضخم من دواوينه جملة، وهذا مستحيل، ولذلك لم نتركه بالمرة، ولم نقف عند كل قصيدة وقوف قدماء شعرائنا على الأطلال. إن للصافي فلسفة ولكنها كلاهوتية الشاعر سعيد عقل، لا تفهم أنها فلسفة ما لم تنبه. فسعيد يحسب «المحبة» علم لاهوت، والصافي يرى البغض فلسفة. ومن ير الدنيا وناسها بعيني بؤسه وشقائه فلا يمكن أن تكون مواضيعه غير ما كانت. وها هو إذ يقول قصيدته الرائعة، في ذكرى المتنبي الألفية، لا يحرم الناس من الطعن والضرب، فيقول في نقاد المتنبي بيتًا جميلًا. وللصافي مثله كثير في دواوينه:
ثم يرى ما قيل في ذكراه شعرًا نازلًا عن الشعر فيقول:
قلت: فما عساه يقول لنا الصافي فيما قيل أخيرًا في مهرجان شاعرنا مطران؟ إن شعر ذاك المهرجان المطراني لا يليق بشماس شيخ في خدمة مذبح الرب، فكيف يليق بمطران يؤهله شعر شبابه وكهولته أن يكون بطركًا لولا المحاباة؟! كأني بهم قد راعوا النظير فقالوا في ابن الثمانين شعرًا كأنه ابن تسعين. ويختم الصافي رائعته في المتنبي بقوله:
وبعدُ، فإن أسلوب الصافي هو هو، وتفكيره في «الأغوار» و«أشعة ملونة» و«التيار» لا يختلف عن تفكيره في الأمواج. أما تعبيره فهو في هذه الدواوين الثلاثة خير منه في الأمواج، وإن كان ما رأيته بعد قراءة هذه الدواوين يحملني على القول مع شوقي:
أما في الابتكار والخلق والإبداع فالصافي شاعر يخوض وسط المعمعة ليس أكثر. قد يبخت بصورة أو حكاية ولكنه لا يوفق كل التوفيق إلى «الزخم» الذي يترك دويًّا في أودية الآذان. ينسيك ختامه، غالبًا، روعة تلك الفكرة التي حبل بها دماغه، ثم تمخض ولم يلد إلا جنينًا لا يوعوع حين يبصر النور.
فإلى الصافي ثَنائي الخالص، وحسبه أنه يقول لنا شعرًا، إن يكن غير براق، فهو فيه غير متعمل ولا سراق. وأحسن ما في الأحسن من هذا الرجل هو أنه يعرف نفسه كما عرفه النقاد، وإن ركب علينا جميعًا في طريقه إلى المجد، كما قال. يعترف الصافي بذلك، ولكنه كما يتضح مما ستسمع، يدرك من أمره ما ندرك، ولهذا ختم «التيار»، وهو آخر ما صدر من دواوينه، بقوله:
وآخر مؤاخذة لصديقي النجفي هي تضرعي إليه أن لا يرفع الكلفة بينه وبين اللغة — وإن كان قد قلل ذلك — فقوله: «نظر الناس لي» لا يليق بشاعر كبير كأحمد الصافي، وخصوصًا لأنه نجفي، والنجف الأشرف كهف اللغة ومعقلها المنيع.
فإلى الأمام يا صديقي، إنك ستجد مرعاك، كل ساعة، ما دمت تعبُّ من ينبوع الحياة والواقع. اصفع الناس جميعًا، وخصوصًا النقاد المناحيس، إنهم يستحقون. أما ركوبك عليهم في طريقك إلى المجد، كما تقول، فأرى أن تستغني عنه بحمارة. إن هموم مجدك المتواضع لا تقتضيك أكثر من جحشة، فلا تطلب غيرها مركوبًا، ثم من يدرينا أنها لا تنطق كحمارة بلعام، وتخلق لك موضوعًا جديدًا تضمه إلى روائعك!
إن بشارة الخوري كان أرحب منك صدرًا، وأنعم هجاء للطاعنين في شعره. وعلى كل فموعدنا وإياكم الأبد.