عمر أبو ريشة
كان ذلك في حلب، ومنذ بضعة عشر عامًا، يوم سمعت بشاعر اسمه عمر أبو ريشة. دلني عليه تلميذي، يومئذ، وصديقي فيما بعد، الأستاذ أورخان ميسر، أثنى على صاحبه وسماه في ذلك الوقت شاعر الشباب، وقدَّم لي تمثيلية نظمها الشاعر الشاب عنوانها «وقعة ذي قار»، فاستبشرت بما فيها من وثبات تدل على الشاعرية العتيدة، وصرت كلما وقعت على قصيدة له أقرؤها وأرجو. فماشيت الشاعر في تطوره إلى أن ظهر منذ أعوام ديوان له عنوانه «شعر» فما مددت إليه يدي؛ لأنه لم يقدم إلى المشرحة طبقًا للمراسيم، أما ديوانه الجديد، الناسخ ما قبله، وهو يحمل شيئًا من هذاك، فها هو الآن بين يدي.
عنوان هذا الديوان «من عمر أبي ريشة. شعر» وقد سميته الناسخ من قبله؛ لأن جريدة «كل شيء» أذاعت أن الأستاذ أبو ريشة «لا يعترف بالكتب أو الدواوين التي ظهرت قبل الآن، والتي تحمل اسمه، وأنه يتبرأ منها.»
لا يا أخي عمر، إنها محسوبة عليك، فما يدخل المطبعة من عبيدنا ينعتق ويخرج منها مولى لنا. لماذا تتبرأ من بنيك، فما هم بالسفهاء إخوان الشياطين. ما رأيتك استعجلت الأمر قبل أوانه لتعاقب بحرمانه. والبرهان هذا الديوان البديع الذي أخرجته للناس، جامعًا فيه خير زاد للبلاد مذكرًا الأحفاد بأمجاد الأجداد.
جلت «دار الأديب» عرائس أبو ريشة على عشاق الأدب الرفيع، محلَّاة مزينة برسوم رائعة تستميل العين والقلب، فبينا يكون الفكر سارحًا مارحًا على موسيقى بحترية حقًّا، إذا برائدته العين تطل على واحات تلك الرسوم الرمزية فتصيح بالفكر المجدِّ: وقِّف، خفِّف السير واتئد يا حادي.
الحق أقول إن في ديوان أبو ريشة شعرًا طالما تمنينا أن نقرأه ونسمعه، فشاعرنا يحدو الكلام ويزجيه على هواه. قلت موسيقى بحترية وهاك التفصيل: في شعر عمر ما في شعر الوليد من سياق مطرد، ورنة إيقاع وتقسيم عبارات، فتمشي القصيدة متزنة الخطى كأنها قطعة من عسكر. ألفاظ مختارة منتقاة لا تنافر بينها وبين جاراتها، ولعلَّ هذا من عمل الإقليم إذا صدقنا زعم تين وبرينتير.
والشاعر على طوله المفرط، وامتداد نفسه، يؤثر الأوزان القصيرة المرقصة حتى لكأن أبا نواس شاعره المختار، فقلما تمخر في ديوانه بحور الشعر العابة الصاخبة كبحر الأطلنتيك، بل تجدها كلها على طراز بحرنا المتوسط، ضاحكة، مطمئنة، صاخبة، بمقدار ما في هذا البحر من عتوٍّ وصخب.
يخرج عمر من حصن القصيدة القديم ليبني «دارة» ذات «خرجات» وشرفات، فتخترقها الأشعة والنسيم المطهر، ولكن هذه الأشعة لا تؤذي ألوانها، ولا تذهب بروعة ظلالها. لا تشم رائحة العفونة، ولا ترى وجوه صور تعودت أن تراها كلما قرأت وسمعت شعرًا. إن الفرار من قافية إلى أخرى في القصيدة الواحدة يطرد الملل. وقديمًا قالوا: العز في النقل. فإذا رأيت إسفاف شاعرنا نادرًا جدًّا فاعلم، حفظك الله، أن هذا الانطلاق قد نجى الشاعر فظل محلقًا في جوِّه الفني تشد قوائمه خوافيه فلا تصدق أنه أبو ريشة واحدة فقط.
في ديوان عمر أنين حب جريح، وفيه أهازيج حب مظفر ربح معارك شتى، وخرج من غبارها غير معوه ولا مهشم، بجيش كجنح ليل بشار. إن صاحبنا محظوظ غير منكود، يتأمر كثيرًا ويدل ولكن ليس بمخلب وبحد ناب كأسد ابن عوانة، بل بشباب له القدح المعلى والأسهم المرتفعة في بورصة الحب. ولعل له في اسم عمر بعض العون ورأس المال في البندر، وإن كان لم يقتصر في شعره على الحب كسميه ابن أبي ربيعة. فهذا «العمر» الجديد يقسم ذاته المتمردة بين قلبه ووطنه. يضحي بقلبه إذا كان الحب يستأهل هذا الكبش، ويصيح بالشباب صيحة القائد المغوار في المعركة الفائرة التنور:
أجل يا أخي عمر، الشجاعة أس الفضائل. هكذا علمنا السلف وهي لا تنقص شبابنا العربي إن شاء الله.
في ديوان عمر قصائد قيلت في مناسبات. ولكن عمر يلج موضوعه من غير أبواب شعراء الفرح والترح. فيدلنا هذا على أن هناك إرادة عاملة لا عادة تسوق الشاعر بعصاها؛ فهو لا يكسف الشمس ولا يشق القمر، ولا يطفئ النجوم ولا يدك الجبال، ولا يسألها أن تتماسك لئلا يزعزعها الدهر. إن قلب الفن ليطمئن حين يسمع مثل هذه الأناشيد، فالفن يصيح برجاله دائمًا وأبدًا: هاتوا الجديد، الجديد، الجديد.
وفي ديوان عمر نخوة ولكنها غير مبتذلة، نخوة على آثارها بيض حسان فهي مضمخة بطيوب عذارى الفن، وفيه ثورة جياشة ولكنها تلبس مآزر البيان الوضاءة وغلالات فنية فتانة يختفي تحتها صدأ الدروع، وزنجار السنان، وأشر السيوف. الشاعر ثائر ولكنه غير هوَّاش وغير سبَّاب، مخلص لأمته يريدها بريئة من كل عيب، وإن رأى قعودًا عن الجلى استفزه ريعان الشباب وأرن كما يأرن المهر. يشن الغارة الكلامية، وأول الحرب الكلام. اسمع ما يعاهد عليه خالد بن الوليد في قصيدة تكاد تكون ملحمة:
إن عمر يعلم أن للسان معارك ليست أقل خطرًا عن معارك السيوف، وإن قال أبو تمام: «السيف أصدق أنباء من الكتب.» فمن يوقظ السيف النائم في قرابه نوم الهناء؟ القلم كما قلت يا عمر، يا حسان المقام، فليهنأ لسوريا شاعرها الفخم، فهي مستعيدة به اليوم مجدًا أولانا إياه صاحب يتيمة الدهر. أما استعارة الضريح للفم فما أعجبتني.
في عمر أبي ريشة شاعران: شاعر غنائي يمرح برصانة، ويتألم بجد ووقار، يتجمل في حديث حبه ما قدر خوف الشماتة؛ وشاعر قصصي ظهرت لي ملامح عبقريته الشعرية في وثبات وطواعية قص رأيتهما في مسرحيته «وقعة ذي قار» كما قلت سابقًا. وهب أننا وجدنا لعمر ندًّا في الغناء فإننا لا نجد له ضريبًا في القص على حقه. وفي «عذاب»، وهي مسرحية منشورة في آخر الديوان، ما يؤيد زعمي، فاقرأها يا قارئي العزيز، واكشف لي عن رأيك فيها، ولعلي أعود إليها وإلى عمر القصصي، أما الآن فعليَّ أن أنصرف إلى غيرها من الديوان.
لقد عثر عمر في فنه على الحل الوسط لمشكلة التجديد العويصة. فهو لا يسير وراء القدماء كما تسير جياد العربات على الطريق المعبدة: الدرب الدرب. ولا يكثر من الصور المائعة المبنية على المجاز العقلي، وهي التي تُعرف اليوم بالطريقة الرمزية. لقد أمست هذه العبارات عند بعض أصحابنا كل الشعر، حتى أشبه بعضهم بعضًا في فترة قصيرة جدًّا. إن عمر يأخذ من هذه البضاعة، ولكن بقصد وحذر. يقول مثل أصحابنا: لحن شقي، رماد المنى، غفوة خرساء، تلفت عريان، مجروح التمني، وأطياف يتامى، وصيحات حمر، وخطاي الحمر … وكلها جميلة في مواضعها ما عدا «الصيحات الحمر» حين يخاطب عمر أبا العلاء (ص٨١):
إن هذه الصيحات الحمر لا تلائم شاعر الفلاسفة، من كان أكله العدس، وحلاوته التين. فما الذي ذكرك هذا النعت يا أخي، أتراها الحافظة قد عادت بك إلى قول أبي العلاء: ما عرفت من الألوان إلا الأحمر … أما في قولك أنت:
فهذا النعت يليق بخطاك، ولكل مقام مقال.
وعمر ينادي كأصحابنا الرمزيين وزن افتعال فيقول:
ولكنه لا يغرب مثل أولئك فيزعج. تأمل كيف يعبر بلغة الذي أراد أن يشعر فغنى، فيقول في قصيدة عنوانها «حنين»:
تشخيص بديع، ولعمر في هذا جولات موفقة، فإذا شئت أن تتفكه بها فعليك بديوانه.
ولكن شاعرنا المبدع، على كبر حظه من الحب والفن، يفتتح ديوانه باليأس؛ باليأس منا نحن البشر العاديين، فيسائل نفسه في فاتحة ديوانه لمن ينظم هذا الشعر:
ثم يعدد: أللحب؟ أللهو؟ أللمجد؟ أللخلد؟ إلى أن يهيب بنفسه:
هذا كثير يا صاحبي، وإني لأخشى أن تصاب بداء الشعراء. قد رأيت هذا الميكروب عالقًا بأذيال قصيدتك «عرس المجد». أما اليأس، وستشفى منه في الغد القريب، فهو يقتل الشباب، وإن حلا التغني به في الشعر. ألا تذكر قول عبد الشعر: ولا ترى طاردًا للحر كاليأس. أنشد، أنشد، فكلنا آذان. إننا نسمع ونطرب ونهتز، فما نحن بالحجارة ولا الحديد. إننا نمجد من يستحق التمجيد، ولا أجرؤ على القول: ونخلد من يستحق التخليد. تِهْ دلالًا فأنت أهل لذاكا، ولكن لا تتمدح فسوف تسمع مني ومن غيري مدحًا يكفيك ويغنيك.
وإذا أثنينا عليك بما أنت أهل له، فلا يعني هذا أننا كممنا أفواهنا أو سددنا طاقات النقد عنك مخافة أن تطير مع النسيم. لا يا عزيري عمر، فأعظم أثر أدبي ليس في حرز حريز، فأرجو أن توسع صدرك. إن في ديوانك الرائع هنات هينات كان في الاستطاعة تهذيبها أو إبدالها لو لم تتعجل، وهب أنك كببت كنانتك ولم تجد عودًا أصلب، فالاستغناء عنها كان أولى. فهذا «المسمار والتسمير» الذي يرافقني في ديوانك قد يستحلى في النثر، أما في شعر كشعرك فهو بشع، ألم تحس مثلي بسماجة هذا المسمار في قولك:
لقد طعنت هذا البيت بسكينة وأجهز عليه مسمارك فلا حول ولا … إن «منجورًا» يصنع من الخشب الثمين كطرف ديوانك لا تدق فيه المسامير.
والسناد وهو من عيوب القافية كما تعلم، أراك لم تكلف نفسك الابتعاد عنه. فعلت ذلك أكثر من مرة ومرتين: (راجع صفحة ٢٣، ٥٠، ٥٢، ١٠٥).
ثم ماذا نعمل لنصلح ما بينك وبين «أن»، فهذه العداوة بينكما أرجو أن تعفي عليها معاهدة صلح — ولا تكتمن الفن ما في صدوركم — لقد قال القدماء كما قلت أنت اليوم، ولكن شعرًا كشعرك مارحًا سارحًا يجب أن ينزه عن مثل قولك: أخشى تموت رؤاي (ص١٩)، وقولك: فما أسطيع أجلو سرًّا (ص٥٠)، وقولك: هيات تروى (ص٩٩)، وأخيرًا قولك مرتين في (ص٢٨٣): «وأخشى أنوء بعبء الألم» و«أريد أقبل».
وفي «مصرع الفنان» لم يعجبني قولك: تشرب الدمع من مقر انفجاره.
وقولك في الصفحة عينها «بعيد العهود عن قيثاره»، إن هذه «العهود» تدل على قلة صبر، ومثلها قولك «تمتميه إليَّ».
وكذلك قولك «النسيم الرخو»، ومن ينعت النسيم بالرخو؟ أندع القدماء أدق منا بانتقاء النعوت.
وإكثارك من استعمال ما الزائدة لا يعجبني. نحن في زمن يقصون الزائدة فيه فور شعورهم بها، فكيف نضعها في الهيكل الفني لتعوهه وتشوهه؟ أفلا تراها شنيعة كما رأيتها أنا؟
إن «كما النحلة» هذه ذكرتني ما حفظته، منذ نصف قرن، من شواهد ابن عقيل:
والذي ساءني أن تقع عليه عيني في شعر أبو ريشة هو مثل هذا العبث الذي نراه عند البحتري:
أما الذي حرت فيه فهو هذا البيت من قصيدة في رثاء الملك غازي:
فالزيادة فيه فاضلة عن المعتاد في تخطي موازين الشعر.
ولي ملاحظة، وهي الأخيرة، على قولك:
فإذا وسعنا لك لتشق فعلًا مضارعًا من «حي» وهي اسم فعل، فلا نسكت عن خروجك عن سياق الكلام فلا يصح القول: إن من سامك المنون لقوم، وإنما الوجه ساموك، ناهيك أنه لا يقال سامه الموت، فليس موت الشهيد خسفًا يسامه. وفي الصفحة المقابلة عديت «صمَّ» فقلت:
وهي فعل لازم، فأين أنت من سدوا؟ وكيف لم تخطر على بالك؟ هذه هي الهنات. أما الجمال فملء هذا الديوان الضخم. وفيه فوق الجمال الفني تحليلٌ نفساني رائع في قصائد عديدة، وأخص منها تلك التي يسوقها عمر مساق القصص، وهذه خاصة يحالفه التوفيق فيها. خذ مثلًا قصيدة «جان دارك» فالشعر جرى فيها على خطط علماء النفس. حلل عمر نفسية هذه البطلة كما شاء فقال شعرًا يبقى. وإذا رجعت القهقرى إلى حكاية ديك الجن الحمصي، وعنوانها «كأس»، رأيت أن شاعرنا خلاق لا يعدم أسبابًا يرتقي بها إلى الذرى، اسمع بعض ما قوَّله ديك الجن وقد «شخَّص» في هذا أروع التشخيص:
وشاعرنا الملهم يتلاقى وشوقي حول المسيح وصليبه، وكلاهما يلوم الدول التي خرجت بتعاليم السيد عن التخوم التي رسمتها. وقد رأيته يقول مثل شوقي في وحدة الأقطار العربية:
قال شوقي:
وقال عمر:
لقد نفر شوقي إلى عمان ومعان؛ لأن لبنان لم يكن في الحساب في زمن شوقي، وربما قصر أبو ريشة إذا عارض شوقي، أما حين ينفلت من قيود المعارضة فيخوض مع شوقي وسط المعمعة. اقرأ قصيدته في رثاء سعيد العاص، ذلك البطل الذي عرفناه بائسًا طريدًا، وترحمنا عليه شهيدًا مات قبل ساعته:
أما نفسية شاعرنا وديباجته معًا فتدلك عليهما قصيدته «نسر»:
ثم يصف الشاعر جوعة النسر ووقوعه على شلو دفعته عنه عجاف البغاث فاهتز، وارتعش وطار، حتى إذا اجتاز مدى الظن:
لا تيأس يا عمر، فأنت من الفن في ذراه، أما «السفح» الذي تعنيه فهو لا يميت الشعور ولكنه يوقظ العواطف فيحمي الوطيس. أرجو أن تظل في «سفحك» هذا لتغني النسور والنمور، وتدفع الجيل بالمناكب والصدور … فحيهلا … عشت يا أبا الريش. فأنت يابن أخي، أشعر جيلك في هذا الديوان الذي جمعت فيه بين طريف الأدب وتليده.