نازك الملائكة
هذه خنساء جديدة — ولكنها مثقفة — تطلع علينا في القرن العشرين بديوان شعر يدور حول موضوع واحد، كديوان خنساء الزمن الغابر. تلك ذوبت شعرها دموعًا على أخويها، وهذه استحالت عواطفها شعرًا حزينًا كئيبًا يصح فيه ما قاله ألفرد دي موسه — إذا لم تخني الذاكرة: اضرب القلب فهناك الشعر الذي لا يموت.
ولو يصح لي أن أتمثل بالنابغة لقلت لنازك الملائكة: اذهبي فأنت أشعر من كل ذات ثديين، ولولا ذاك البصير عمر أبو ريشة لفضلتك على شعراء الموسم، وليغضب عليَّ ألف حسان، فلا يخلق النقد غير الأعداء.
نازك الملائكة من بيت يذكرنا بقول الأخطل: أشعر الناس بيتًا بيت زهير، فأم نازك — أم نزار الملائكة — شاعرة، وقد قرأت لها قصيدة في مجلة المعهد حققت لي الكلمة المأثورة: البنت لأمها. وأبوها شاعر أيضًا، ولعلَّ أخاها نزار، وأختها إحسان التي قدمت لديوانها شاعران.
لقد ضربت نازك الرقم القياسي في الشعر الباكي فبذت ببكائها وآلامها جميع شعرائنا الباكين حتى شيخهم الأكبر. وما أشبهها إلا بمدام دي نواي الشاعرة الفرنسية الشهيرة، فكلتا الشاعرتين العربية والفرنسية تخافان الموت وضغطة القبر، وإن تمنتا كلتاهما التفلت من قيود المادة. قالت نازك:
أرأيت كيف تفهم الحب هذه الشاعرة؟ الحب عندها أحزان وآلام، وتذكر الموت في ريعان الصبا فتقول، والضمير عائد إلى عنوان القصيدة، «قلب ميت»:
فكيفما اتجهنا في ديوان عاشقة الليل فلا نقع إلا على مأتم، ولا نسمع إلا أنينًا وبكاء، وأحيانًا تفجعًا وعويلًا.
تبكي نازك الملائكة جزءًا ضاع منها ولكننا عوضناه شعرًا لا يملُّ على وفرته وتشابهه.
إن نقد النساء صعب كرثائهن، وخصوصًا إذا كن مسلمات، وقد كبر في عيني المتنبي حين جربت فأدركت ما قاساه من عناء حين كان يرثيهن، ولكن أبا الطيب، أجزل الله ثوابه، كان يفر إلى الحكمة، أما أنا فإلى أين أفرُّ؟
إن في ديوان «عاشقة الليل» ما يحيرني؛ فعند «شجرة الذكرى» أقف وقفة متأمل مستلهم لعل الله يفتح عليَّ، فأقول ما أرضى عنه، فأتذكر قصيدة «الإناء المشعوث» لسيلي بريدوم. فهذه شاعرتنا تقول:
وإن كان هذا التعبير «ألقيت رحلي» لا يلبق بعاشقة الليل؛ خنسائنا المثقفة. وهناك في ظل «شجرة الذكرى» تشرئب ذكريات الشاعرة وتطوف شجونها من حولها فتقول:
وكان في يد الشاعرة شوكة قاطعة تمر بها على ساق سدرتها فجرحته بلا شعور. ثم عادت إليها بعد سنين فقصت علينا ما يلي:
•••
الله أعلم يا آنسة، الزمان عنيد رأسه كبير يصعب عليه الاعتذار، ثم من يدري فلعله يعتذر إلى النساء. وكما حيرتني «شجرة الذكرى» احترت أيضًا في رموز أخرى كثيرة أهمها «التمثال» الذي لم تنكشف لي حقيقته بجلاء، فهي تقول في «قلب ميت»:
•••
لقد قسوت جدًّا، ولكنه يستحق …
وفي قصيدة «بعد عام» تصور لنا حالة نفسانية لم يتوفق شاعر ذكر إلى قول أحسن منها تحليلًا عاطفيًّا عميقًا فتقول:
ثم تتعجب الشاعرة كيف نهضت بأعباء همومها وكيف لم تمت حتى تقول لشاعرها:
ثم تصف ببراعة فائقة كيف وأين التقت بشاعرها:
•••
•••
وهذه القصيدة، في نظري، هي خير قصائد الديوان، بل هي من الشعر الغنائي الرفيع. كانت العبارة والصور فيها طيعة سهلة الانقياد للشاعرة؛ لأنها صادرة من الأعماق. ولعل الزمان أخذ بثأر قيس من نازك الملائكة!
وفي القصيدة التي تليها تدعو قلبها إلى اليأس المريح وهي تخاطبه بهذه الوداعة الهادئة:
رحم الله المتنبي القائل: لعلمي أنه بعض الأنام. إن كلمة الآنسة الشاعرة لا تقل روعة عن كلمة شاعر العرب. وقبل هذه القصائد التي مر ذكرها تصف لنا الشاعرة موقفًا لا يحتمله الجنس الخشن فكيف بالجنس اللطيف، عنوان القصيدة «نغمات مرتعشة» وأولها: عد، لم يزل قلبي نشيدًا حالمًا. وقد ختمتها بهذه الصورة الرائعة:
فالذي عندي أن ديوان عاشقة الليل حديث قلب منكوب، أثارت نكباته سخط الشاعرة على الناس أجمعين، وما شكر السوق إلا من ربح. إنها تقول كالمتنبي وبصورة بسيطة جميلة:
•••
أشهد وضميري مرتاح، أنني لم أر الفرح عندها إلا في ختام قصيدتها «جزيرة الوحي» حين تختمها بقولها:
ولكنها لم تعيد. بل عادت إلى غيبوبات يأسها، وقالت في «الخطوة الأخيرة» وهي خاتمة ديوانها:
قد قلنا إنها غاضبة على بني آدم، وإليك ما تقول لنا:
فهي في هذا جبرانية نعيمية تذكرنا «حفار القبور» لجبران التي استمد منها ميخائيل نعيمة الشاعر «أخي إن ضج». وتذكرنا أيضًا ذاك الذي أرسله «أبسن» في روايته وجعل في زنده سلة يجمع فيها الناس ليعاد خلقهم من جديد. ومشكلة السخط على البشرية تحلها نازك الشاعرة الجبرانية بقولها:
صدق الفن العظيم.
أظننا أشبعنا أفكار الشاعرة اليائسة تحليلًا. عفوًا، ما هذا يأسًا، إن هذه إلا ثورة جامحة، ومن حق نابغة كنازك الملائكة أن تثور وإذا لم تثر هي فمن يثور؟ الملائكة علموا الناس الثورات.
ولقد قلقت واضطربت وشكت ككل مفكر وحيد، فسألت الأمطار كما سأل نعيمة نفسه وحلها حلًّا يرضي خياله ورجاءه. أما الآنسة نازك فجاء حلها منبثقًا من شعورها، فقالت تخاطب الأمطار:
وأخيرًا أجابت:
وهي في هذا الحل القائم جبرانية أيضًا، ولكنما من نوع آخر.
وتنتهي إلى دفن شكاياتها ولكن بتفجع يفتت القلب في ختام قصيدة «على الجسر» فتقول:
فآه وألف آه، كم تحت كلمة «الآدمية» من لوعة وشرف وإباء!
ولا أستغرب أيتها الشاعرة المحترمة حبك الليل ووقفك شعرك عليه، ففي كل الأمم شعراء مختصون. قالوا في أوروبا: فلان شاعر القمر، وفلان شاعر البحر، كما نقول نحن مثلًا الأستاذ المقدسي شاعر النهر، وشاعر البحر، وإن كان ميتًا. لقد قلت لك شيئًا أيتها الشاعرة المحترمة، وما زال عندي أشياء. أما الآن فلنعد إلى فنك لنرى عناصره الأولية.
إن هذه النقط الكثيرة في ديوانك المطبوع قد لا تدل غيري على شيء، أما أنا فقد رأيت فيها تفسيرًا لقول الضفدع: في فمي ماء. ولكني أشهد أنك ما قصرت. كنت جريئة فقلت ما يقال أما ما لا يقال فنفهمه نحن، ولأجله نقدر عبقريتك.
في ديوان عاشقة الليل شعر وحكي، وهذا ناشئ عن شدة حساسيتها، فهي تريد أن تقول كل شيء، تريد أن لا تخبئ شيئًا، ولهذا تجد العبارة الرفيعة إلى جانب أخت لها غير نجيبة. ربما قلت لي: وكذلك تكون المواليد وهذه سنة الطبيعة، وقد نبه إلى هذا أبو تمام، وكذلك زعم ابن الرومي. أما أنا فأخالفهما وأرى أن شرائع الفن تسوغ وأد البنات، بل خنق كل مولود غير نبيه. وإليك نموذجًا واحدًا من نوع الحكي:
أما حين يثور بركانها وتنظر في قرارة نفسها وتقع عينها على الجرح، فينهض الشعر من مجثمه فتقول:
فلولا أنها وضعت «يضج» موضع «يجن» و«يجن» موضع «يضج» لتغيرت الصورة. ولكن شاعرة الليل قلما تحمل عباراتها أكثر مما تطيق، ككل من يستمد الشعر من نفسه لا من مظاهر الوجود. إن أكثر الشعراء يستمدون غذاءهم مما حولهم ثم تتمثله ذواتهم فيستحيل دمًا نراه في البشرة، بينما نرى الآنسة نازك تستمد غذاءها الشعري كله من قلبها وروحها، حتى حين تصف لنا مشهد الحصان الساقط «على أرض الشارع المبللة والسياط ترتفع ثم تهوي فلا تسقط إلا على جرح». فهي لم تصور من هذا المشهد إلا ناحية تلامس عاطفتها وتتصل بها هي. ما رأت في هذا المشهد غير الصورة المنعكسة عن ذاتها. كان في إمكانها أن تخلق رائعة بل لوحة فنية، ثم لا تنسى نفسها، ولكنها نسيت كل شيء من الصورة إلا نفسها وآلامها هي.
أما في «العروض» فقد أحسنت الشاعرة في التفلت من قيود القافية فكانت قصائدها ثنائيات ورباعيات … إلخ. حتى لا تجد في ديوانها كله غير قصيدتين على قافية واحدة. وكذلك فعلت في الأوزان فكان أكثرها من العيار الخفيف الملائم للتفجع، إلا أنك لا تحس ذلك التشابه حين تقرأ؛ لأن الشاعرة المرهفة الإحساس تشغلك بما تصوره لك من محن تقاسي برحاءها، فتتألم لألمها.
الصور قليلة في شعرها ولكنها عوضت عنها بما سلحت به من شعور أضرم نار ثورتها العاطفية التي لا نظير لها عند الشاعرات العربيات. وهذه الثورة الفكرية القلبية شغلتها عن العالم الخارجي، فهي من ذاتها كشخص ماثل في قاعة كسيت جدرانها مرايا، فعينه تقع على ذاته كيفما التفت. وعندي أن كرهها الحياة ناشئ عن حبها لها. وإذا قرأت ديوانها من أوله إلى آخره، حتى المترجم منه، رأيته يدور حول عاطفة واحدة، بل تخال أنك أمام «فكرة ثابتة» مكنت صاحبتها من إشباع موضوعها.
لا تبالي الشاعرة باللون المحلي؛ لأنها تدبج ألوانًا عاطفية كما قلنا، فلا النهر ولا النخيل، ولا الزورق تسترعي انتباهها، فهي لا تذكر النخيل إلا لتكون في ظلها كما تقرأ:
إن الرسام الماهر يستطيع أن يخرج لوحة رائعة من هذه الأبيات، وهي أصدق صورة لشاعرتنا، صورة فتاة ذاهلة مطرقة في ظل النخيل، مشغولة بذاتها عن روعة ما حولها. لقد تخيلت هذه الصورة الرائعة وإن لم ترسمها لي الشاعرة كما كنت أتمنى.
والآن قد حان أن نرى ما في هذا الوجه الفني الطريف من نمش. تهمل نازك عبارتها أحيانًا، لانهماكها بشعورها الجامح. ولكن هناك وثبات رائعة أكاد أراها في كل قصيدة فتدلني على موهبة وفن الشاعرة.
أما صحة التركيب فجيدة، وإن كان لي في ذلك ما يقال فهو أن نازك قد أكثرت من استخدام «السنين» قافية. واتبعت فيها أضعف الأقوال — أي إعرابها إعراب «حين» — وهذا، وإن ورد، فهو مقصور على السماع، كما علمنا ابن عقيل. فهذه اللفظة تجري مجرى جمع المذكر السالم، وعلى هذا جرى القلم في العصور الأدبية.
لقد شغلتني «سنين» نازك حتى حرت أخيرًا في تعليلها وهي قافية هذا البيت:
فإذا شاءت أن تجريها مجرى «حين» كان الإقواء. وإلا فهي مضطرة أن تقول السنون، فما هذه العداوة بينها وبين الواو والنون حتى تؤثر اللحن على استعمالها؟ ثم تجيز لنفسها ما لا يجوز في هذا البيت:
فالعطف على صبانا هنا لا يجوز، وإذا افترضنا «تكرار العامل» ثار العقل وأبى علينا ذلك.
ثم هذا الاستعمال الضعيف في قولها:
فالكلمات المكفوفة — مثل طالما — لا يفصل بينها وبين اللفظة التي كانت معمولًا لها لو لم تكفها ما عن العمل. وكذلك تظل الحال معها لو جعلنا ما مصدرية كما أرى، وإن خالفت آراء شيوخنا النحاة.
وفي هذا البيت لم أدر لأي حكمة قالت:
كان يسهل القول: ما عساه يكون. فاستعمال حرف التنفيس — السين — مع عسى مثل استعمال الهمزة مع «هل» حين يقول بعضهم «أهل …؟» وقد استعملت كثيرًا كلمة «لوحده» و«لوحدي»، و«وحد» هذه لا تدخلها اللام. وقالت «حدقت في»، وحدق تعدى ﺑ «إلى» وليس ﺑ «في». أما قولها في هذا البيت:
فالرفع على الابتداء واجب هنا. ثم قولها:
أما هذا البيت فقد رأيته غير مستقيم الوزن:
أظنها: وليمسح، وقد قستها على أخت لها وردت في ديوان الشاعرة.
أما في هذا البيت:
فأشهد أنني أتعبت فكي حتى استقام الوزن، فليتها تداركته ولم تتعب قارئها بمداورته، فالقراء اليوم مستعجلون.
ثم لا أدري ماذا ينقص هذا البيت:
فهو في حاجة إلى «شدة» على ياء «المجالي» أو إلى «من»، والله أعلم. وبعدُ، فأنا ممن يعجبهم هذا اللحن الجديد من الشوق، ولست أكلف الشعراء المنطق الذي أعده حجر عثرة في درب الفن.
ثم هذا بيت آخر ينقصه شيء:
أظنها: عميق، وقد رجعت إلى تصحيح الخطأ فوجدت لفظة مصححة في هذه الصفحة، في حين أنه لم يشر إلى هذه الكلمة.
أما لون الشاعرة الأدبي فجبراني قلَّ فيه التلوين الذي تتعمده السلالة الجبرانية في مدرستنا الرمزية.
أما خلاصة الفقرة الحكمية فهي أن الشاعرة نازك الملائكة، عاشقة الليل، في طليعة بنات جنسها الشاعرات — ذوات الدواوين — في هذا الوقت، إن لم تكن أولاهن.