ما وراء البحار
مدرسة رومنطيقية
إن للهجرة يدًا بيضاء على لسان العرب دينيًّا وأدبيًّا، ولا يعنينا الآن إلا الهجرة الأدبية. كانت الهجرة الأندلسية الأولى فأبدعت الموشحات، فمرَّت في جو الشعر العربي مجاري هواء جديدة أنعشت من كانوا قد ملُّوا الشعر المقال على نمط واحد، فأقبلوا على ذلك الشعر الطريف يروونه وينشدونه، ويخرجونه أنغامًا وألحانًا، ثم انطوى بساط الحياة الأندلسية فسكتت قيثارة الشعر السارح، وقبعت القرائح في كسر بيتها المربع الزوايا بعد تلك الدارات ذات الخرجات والشرفات، المتنوعة الهندسة، المختلفة التصاميم.
أما أدب المهجر الحديث فليس ابن الهجرة الحاضرة وحدها، فقد كان قبل هذه الهجرة هجرات. هاجر الكثيرون قبل هؤلاء وعملوا المستطاع. وإن ننس الذين هاجروا في القرون الوسطى وما بعدها فلا ننس مهاجري القرن التاسع عشر، الذين أنشَئوا المطابع العربية في العواصم العالمية، ونشروا الكثير من آثارنا القديمة التي كنا نسمع بها ولا نراها، ثم أحدثوا الصحف والمجلات العربية في تلك الغربة، فكانت مدارس متنقلة في جميع الأقطار. ليس هنا مجال التدليل على جذور تلك المدارس الأولى المتأصلة في أدب المهجر، ولكن كلمة جاءت في دستور «الرابطة القلمية» وهي أن غاية هذه الرابطة: «بث روح جديدة نشيطة في جسم الأدب وانتشاله من وهدة الخمول والتقليد.»
إنَّنَا نقف عند هذه الكلمة لنعطي الحق صاحبه، فإذا قال ذلك مؤسسو الرابطة — جبران ونعيمة وغيرهما — فلا يعني هذا أن «رابطتهم» هي خمرة ابن الفارض التي سكر بها من قبل أن يخلق الكرم: فلا قبلها قبل ولا بعد بعدها. فمنذ مائة سنة تقريبًا سمعنا أحمد فارس يقول في فارياقه: «السجع للمؤلف كالرجل من خشب للماشي، فينبغي لي أن لا أتوكأ عليه في جميع طرق التعبير لئلا تضيق بي مذاهبه. ومن أحب أن يسمع الكلام مرشحًا بالاستعارات، محسنًا بالكنايات فعليه بمقامات الحريري أو بالنوابغ للزمخشري.» ثم شق طريق الجديد ومشى خلفه الناس. ومن قرأ نقده في «الفارياق» و«كشف المخبأ» أدرك شأن هذا المفكر العظيم، فهو أبو «المقالة» وعلى آثاره مشى أديب إسحق ونجيب الحداد إلى آخر السلسلة. وقد سمعنا الإمام محمد عبده، في فجر القرن العشرين، يرد على بديع الزمان الهمذاني في شرحه مقامته الجاحظية. قال الهمذاني: وهل للجاحظ غير عريان الكلام؟ فصاح به الإمام محمد عبده: حنانيك يا أبا الفضل، إننا نؤثر هذا الكلام ونفضله. ويجيء بعد هؤلاء كُتاب وشعراء أخص منهم بالذكر فرح أنطون وخليل مطران، فكتبوا بأسلوب حي، وتعبير لا خمول فيه ولا تقليد.
لم يكن الشدياق وإسحق والحداد وأنطون والمطران والريحاني جماعة منظمة، ولكنهم كانوا أفرادًا عملوا ما استطاعوا لإنعاش أدبنا العربي. وفي عهد الشدياق انفتحت جبهتان أدبيتان يأتيك خبرهما المفصل في كتابي «صقر لبنان». ولم نتطرق إلى هذا الآن إلا لننصف من سبقونا إلى ما نسعى إليه، فبدون الإشارة إلى هذه الحلقة المحترمة من العاملين لا تستقيم سلسلتنا الأدبية، ولذلك نوهنا بهم اعترافًا بفضلهم وتنشيطًا للقافلة السائرة في الطريق بعدهم.
وكان في المدرسة الرومنطيقية الفرنسية عدة مصورين، أما الرابطة القلمية فلم يكن فيها غير مصور واحد هو جبران، زعيم تلك المدرسة. وإذا عدنا إلى التاريخ رأينا أن الأسباب التي خلقت الرومنطيقية الفرنسية هي التي خلقت الرابطة القلمية. فهناك الثورة الفرنسية، وهنا الحرب العظمى الأولى، أما قبل هذا فما كنا نسمع غير صوت رومنطيقيين اثنين: الريحاني وجبران.
واتجه الأدب الأوربي، بعد الحرب الكبرى الأولى، اتجاهًا جديدًا. أما أدب المهجر الممثل في الرابطة فظل ينحو نحو ذلك الأدب الأوربي الذي هجره أصحابه. وكما ظهر جفاف الكلاسيكيين تجاه الرومنطيقيين كذلك حصل عندنا، فصادفت طريقة الريحاني وجبران مريدين ومشايعين، ولا يزال لهما في كل قطر عربي من يقلدهما وينحو نحوهما. وكما فرقت الثورة الفرنسية وحروب نابليون الشعب الفرنسي في أقطار الدنيا فتأثر بآدابها، كذلك عملت الهجرة عندنا فاختلط أبناء الضاد بجميع شعوب الأرض، وتأثر أدبنا بآداب الأمم كلها. وقد ترجمنا وأخذنا من هنا وهناك كما ترجم الفرنسيون وأخذوا من آداب الأمم الأخرى. وكان التطور عندنا في المعاني أكثر منه في التعبير والطريقة؛ لأن شعراء الأندلس سبقوا الجيل الحاضر إلى فك قيود الشعر، وعلموا أوربا ذلك منذ نيف وألف سنة، ولهذا كان أثر الرابطة القلمية بينًا في الأغراض والمعاني، أكثر منه في الخطة والأسلوب إذا استثنينا الريحاني وجبران. أما الذين حاولوا نظم الشعر كل بيت على قافية، فأخفقوا كما أخفق أحمد فارس من قبلهم، ولم ينظم إلا أربعة أبيات على ذاك الطراز — اقرأ الفارياق — بيد أنهم أفلحوا فلاحًا كبيرًا في الشعر المنثور الذي بدأ به الريحاني ثم بلغ به جبران أعلى ذراه.
يعد الفرنسيون بيرون الشاعر الإنكليزي مؤثرًا في شعرهم الرومنطيقي بحياته وآثاره، أما العربية ففيها كثيرون من هذا الطراز. وإن وجد الغربيون في روسو مبغضًا للهيئة الاجتماعية فعندنا المعري الحاقد عليها.
والفرنسيون يعدون الإسبان مؤثرين بأدبهم، بينما نرى المحققين الغربيين يعدون أدبنا مؤثرًا بالأدب الإسباني. والفرنسيون أنفسهم يقرون بأن أدبنا الشرقي أثر في أدبهم الرومنطيقي، ليس من حيث بنيانه فقط، بل إنه قدم له أزهى صور الوصف. وضربوا مثلًا على هذا كاتبهم الأشهر شاتو بريان في رحلته من باريس إلى القدس، وشاعرهم العظيم هيغو في مشرقياته، وكاتبهم وشاعرهم لامرتين برحلته إلى الشرق.
وكما كان هدف الرومنطيقيين في الغرب أن يعارضوا الكلاسيكيين وخصوصًا فولتير، كذلك كانت الثورة عندنا على أغراض الجاهليين وغيرهم من القدماء، وعلى تعابيرهم وأساليبهم البيانية وصورهم. وكما جعل الرومنطيقيون الخيال والشعور دعامة نثرهم وشعرهم، كذلك عمل أدباء المهجر فأحبوا الطبيعة كما أحبها أولئك، وحنوا مثلهم إلى الأوطان ذاك الحنين الذي سماه الناقد «تين» مرض العصر، إلا أن أصحابنا — أدباء المهجر — مالوا ككل شرقي إلى الاستنتاج أو استخراج الحكمة — كالأستاذ نعيمة في قصيدة «النهر المتجمد»، وأبو ماضي في «طلاسمه» وكثير من قصائده، والريحاني في وصفه وادي الفريكة، وشعره المنثور، وجبران في معظم مقالاته.
إن طلائع نهضتنا، وخصوصًا جبران والريحاني، ميالون إلى التصوف والتأله. وقد سار خلفهم نعيمة وأبو ماضي ونسيب عريضة. فبدلًا من أن يحببوا الناس بالحياة فإنهم يزدرونها؛ يصفونها بتعابير تختفي تحت حلاوتها وطلاوتها مرارة وخيبة. وكما أحب لامرتين وشاتو بريان الإنشاء الزاهي الأنيق كذلك فعلت مدرسة المهجر، وأكثرهم يعتمد على قول موسه: اضرب القلب فهنا النبوغ، وأشد الأغاني يأسًا هي الأجمل. وكان أول من أسمعنا هذه الأناشيد الصوفية شعرًا منثورًا، الريحاني فجبران.
أما الأغراض الرئيسية عند مدرسة المهجر فأكثرها يتصل بالمشاكل الدينية، ويجنح إلى إحياء مذاهب هرمة شائخة، قوامها وحدة الوجود، فقعدوا يجترون ما عند القائلين بها من آراء، وينظفون الأكفان الصوفية ويكوونها. فالدودة أخت لنا، والغراب ابن عمنا، والطيور والحيوانات شريكة لنا في الرزق. أما عمليًّا فنصلي الوروار نارًا حامية إذا حام على خلية نحلنا. ونقتل البقرة والعنزة والحمارة إذا اغتالت ورقة من أغصان جنينتنا! إن الفلسفة التي لا يعمل بها صاحبها، قبل غيره، لا تعيش. وهكذا شدوا أواصر القربى بينهم وبين مخلوقات كثيرة. وقد كان للحياة والموت وما وراء القبر والزواج، الحظُّ الوافر من أقلامهم. أما الحصة الكبرى فكانت لرجال الدين. كانت الثورة عليهم في كل مكان، وعلى أسلوب واحد، يكيلون لهم القدح بالمد حتى جعلوهم مصدر شقاء البشر. ثم ثاروا على كل سلطة تقريبًا كما فعل قبلهم الرومنطيقيون الفرنسيون. وتكونت عندهم كأولئك آراء غريبة في الكاتب والشاعر فعدوا الكتابة وحيًا يوحى، وخال بعضهم أنه لا يفنى. ثم قامت في مخيلاتهم أوهام الصوفية العتيقة حتى سمعنا أحدهم — نسيب عريضه — يقول: قد بدأنا نشاهد. ماذا بدأ يشاهد؟ لست أدري! إذا قال أبو ماضي «لست أدري» فهذا كلام مقبول، أما أن نسيب عريضه قد بدأ يشاهد فهذا لا يخرط عقلي. كان أمر الشئون الدينية مفروغًا منه في أوروبا فتحول الإصلاح الذي ينشده كتَّابهم إلى بعض الأنظمة المدنية التي لم تكن مستقرة، أما عندنا فكان الشأن غير ذلك، ولهذا اتجه كتَّابنا إلى الإصلاح الديني ومحاربة التقاليد الشائخة، كما ترى عند فرح أنطون والريحاني وجبران ونعيمة وأبو ماضي ومطران في قصيدة الزواج.
وقد شارك في هذا الكتَّاب المسلمون بعض المشاركة؛ لأن الحال عندهم غيرها في المسيحية، فكل ما ناهضه هؤلاء كان لا شأن له كطلب المنفلوطي أن يتأنى الناس في الطلاق. أما ولي الدين فثار ثورة الكتَّاب المسيحيين الشاملة حتى على الصلاة والصوم.
إن في أقاصيص وقصص جبران ثورة على كل شيء حتى على الحياة نفسها، ولولا القليل بنى العالم من جديد. واعتقد جبران كما اعتقد هيغو شاعر الرومنطيقية الفرنسية: أن الكتَّاب قادة الإنسانية فالكاتب أكبر من المرزبان، وعليه أن يحمل مشعله في يده حتى الموت، وأخيرًا تضخمت هذه الفكرة في رأس جبران فخال أنه فرخ نبي. أما أقاصيص نعيمة — في المهجر — وخيرها «العاقر» فليس فيها ما في قصص جبران من ثورة اجتماعية جامحة. وكانت نهضة الرواية والقصة مسرح نهضة الثورة الاجتماعية الأوربية، أما عندنا فظللنا نعتمد على المقالة والقصيدة حتى كتب فرح أنطون وجبران القصة، وتطاول نعيمة على المسرح فاقتبس رواية «الآباء والبنون» عن أحد كتاب الروسية. وفي هذه الأقاصيص الجبرانية وما نسج فيما بعد على منوالها لا تمثل اللفظة القصد كله، فأدباؤنا اليوم فريقان: فريق قليل الحظ من الآداب الأجنبية، متمكن من الآداب العربية ولغة الضاد، والعكس بالعكس.
وكما انفرط عقد الرومنطيقيين في فرنسا فراحوا في سبل مختلفة، كذلك أصاب مدرسة جبران — الرابطة القلمية — فإنها أعطت فرصة، فنعيمة اشتغل للمومسات — أي الدولارات — كما سمَّاها هو. والريحاني، وهو لم ينخرط في سلك الرهبانية، تحول إلى كاتب نضال، يدعو العرب إلى الاتحاد، ويحث الشرق على النهوض والإقبال على الوسائل الحديثة في ميدان الفلاح والكفاح. كما انصرف جبران إلى اللسان الإنكليزي يكتب به دون غيره. ولم يعد يتصاعد في ذلك الأفق الجميل غير بعض أغان لأفراد تلك المدرسة. أما الرفُّ الذي كان يغني مجتمعًا فتبعثر، ولكن سربًا آخر تجمَّع في أميركا الأخرى.
جبران
جبران خليل جبران زعيم أدب المهجر بلا منازع، وقد نحا نحوه ميخائيل نعيمة، ولكنه لم يبلغ الأمد الذي استولى عليه جبران. تخيل نعيمة ولكنه لم يشتط ولم يغرب وظل قريبًا من الواقع.
مر جبران في أطوار ثلاثة. كان في طوره الأول، في «دمعة وابتسامة»، أديب مقالات. ومن يمعنْ النظر يَرَ في أسلوبها عناصر خفية مكتسبة من الشدياق وإسحق وحداد، ولكنها أنيقة ناعمة غير مشددة كأساليب أولئك. فيها نسمة بليلة، وروح شرقية صوفية كأنها من شعراء التوراة، بيد أنها تختلف عن أولئك جميعًا بخيال صاحبها العجيب. فجبران مصور في تعبيره أكثر منه كاتبًا، فكأنما يكتب بريشة المصور لا بقلم الكاتب.
زركشة وتدبيج وتنسيق تذكرك قوس قزح. يبدع تعبيره صورة لا ينقصها إلا الألوان، وصوره كلها مستمدة من الفجر والظلام والنور. فيها الأشعة والظلال كمحيط شمالي لبنان الذي رُبي جبران بين أوديته وجباله وتلاله. أما التعبير الجبراني ففيه شيء كثير من ثرثرة ينابيع تلك المنطقة الممتلئة جمالًا ورهبة. فلا ترتاح إلى صورة من صوره الإنشائية وتكاد تهيم بها، حتى تقشعر إذ تتمثل لك صورة تليها. تلك هي طبيعة المكان التي عملت عملها في جبران صبيًّا وفتى، إنه عمل المحيط والمربي. اقرأ جبران في كل ما كتب، من دمعة وابتسامة إلى الأجنحة المتكسرة، إلى النبي فيسوع ابن الإنسان، وآلهة الأرض؛ تر أن الشاعر أو الكاتب جبران — سمه ما شئت — لا يستعير صورة ولا موضوعًا من مهجره، فكأنه يكتب في محيط شرقي، وكأن أذنيه مسدودتان لا تسمعان ضجيج الدواليب وزئير صواريخ المعامل والبواخر. وهو في أروع ما كتب باللغة الإنكليزية لا يتعدى هذه الحدود. فالليل والناي، والوادي والنهر، والبحر والثلج والضباب؛ مواد منتوجاته الأولى. يذكر البيدر والكروم ونواح المعصرة، فكأن جرن المعصرة كان سريره، والضباب أقمطته والبيدر ملعب صبوته. وهنا يعمل فيه شيئان: لبنان والتوراة.
إنشاء لدن مرن ناعم، تعابير مملوءة ألوانًا وموسيقى، تنعشها نفس صوفية كانت المثال الأعلى لإخوان الرابطة القلمية. فعولوا جميعًا على هذا الأسلوب الناعم الطري الممزوج بالروح الصوفية وتفلسفوا كلهم في شعرهم ونثرهم.
إن جبران كاتب مقل مجود متعمل، ولكن صقله الدائم لعبارته أخفى تعمله، فكاد أن يكون إنشاؤه طبيعيًّا لا تحس أثر الصنعة فيه.
أما الطور الجبراني الثاني، وهو طور الأقصوصة والقصة، فلا ينحرف فيه جبران عن أسلوب «دمعة وابتسامة» إلا قليلًا. يتجه اتجاهًا ملموسًا صوب الواقع؛ لأن القص والحوار يحولان دون التحليق الكلي في سماء الخيال. وقصص جبران جميعها، بل أدب جبران كله، قوامه الحب. فحب اللحم والعظم هو القطب الجبراني وعليه تدور رحاه الطاحنة. وما إغراقه في الصوفية إلا رجاء الخلود في حضن المادة، والتنقل من حال إلى حال ليظل يتمتع بمباهج الحياة وملذاتها. الحب الإنساني المادي هو أنشودة جبران وهو غرضه في جميع أقاصيصه. ففي قصته الأجنحة المنكسرة غنى الحب المقهور أعذب ألحان سمعها الأدب العربي.
كان حب جبران حبًّا خاصًّا ضيقًا في «سلمى كرامة»، و«وردة الهاني»، و«مرتا البانية»، و«صراخ القبور»، ثم صار حبًّا عامًّا مطلقًا في «النبي»، و«يسوع ابن الإنسان»، ولكنه ظل حبًّا لحميًّا عظميًّا، فالشوق عند جبران غذاء روحي تحيا به الحياة نفسها، ولولاه لم يكن شيء مما كان. فكأنه قد استمد هذا الشوق من أساطير الفينيقيين الأولين. فهو يتصور الضباب كما تصوروه، ويعتقد بتكتله العتيد وصيرورته في الغد القريب كيانًا سويًّا. كما يعتقد الفلكيون بتطور النجوم السديمية. وهذا المعتقد الفينيقي الأصل جر جبران إلى الاعتقاد بالتقمص فبدأه في فجر حياته الأدبية حين ظهرت أولى مجموعات أقاصيصه «عرائس المروج». ففي إحدى قصص هذه المجموعة — وعنوانها رماد الأجيال — يختار لها بعلبك محيطًا يظهر بطلها «علي» قرب القلعة المشهورة ويلتقي بحبيبته التي عرفها وعشقها منذ آلاف السنين. إن هذه الفكرة التي هام بها جبران طول حياته لم تفارقه قط، وبها ختم كتابه «النبي» إذ قال: «وقريبًا ترونني لأن امرأة أخرى ستلدني.»
أما الطور الجبراني الثالث فهو طور الفلسفة، عبر فيه عن أفكاره باللسان الإنكليزي، وأراد أن ينقل إلى أميركا العملية صوفية الشرق، فكتب لهم بلسانهم «المجنون» و«السابق» و«النبي» و«يسوع ابن الإنسان»، و«آلهة الأرض»، وفي هذا الكتاب الأخير غرق جبران في الرمزية إلى ما فوق أذنيه. وكأني به، إذ عنون كتابه «السابق»، ذو غرض بعيد، أظنه يعني به أحد الأنبياء وهو الذي يسمونه في النصرانية يوحنا السابق؛ لأنه سبق السيد المسيح مبشرًا به، وهكذا يجعل جبران كتابه هذا «سابقًا» لكتابه «النبي». أما كتابه «النبي» الذي زعموا أنه يشبه كتاب نيتشه فهو بخلاف ذاك. ففيلسوف ألمانيا أنشأ النازية، أما جبران فلم ينشئ شيئًا، بنى كتابه على المحبة، والمحبة أساس أدياننا. إن لولب كتاب فيلسوف الألمان يدور حول البغض فكان من نتائجه ما كان.
أما نزعة جبران إلى «التأميم» فغلبت عليه في طوره الأخير، فهو مثل نيتشه يريد أن يتشح في برد النبي مهما كلفه الأمر. ولكن فكرته هذه لم تؤد به إلى مستشفى المجاذيب كما أدت بنيتشه. كان جبران يتحدث عن الروح وتعاليمها وهو غارق في جسده، يتحدث عن الحب الأسمى، ولا يعني إلا الحب الإنساني، وهذا ما يحملني على التأكيد أن الرجل وثني المعتقد، وإن كتب عن يسوع ما كتب؛ فينيقي عتيق يرى في مسيحه شخصية أدونيس، بعد أجيال، كما نقرأ في «يسوع ابن الإنسان». ومع هذا إخالني متأكدًا أن «الحب» لم يسمع صوتًا ألذ وأعمق من صوت جبران، ليس في الأدب العربي فقط بل في الأدب العالمي. والغريب العجيب هو أن ما يكتبه جبران في هذا الموضوع آية في النعومة على ما فيه من ثورة هدامة.
أما أثر جبران في الرابطة القلمية وما بعدها فلا يزال ملموسًا، فكل أعضائها اقتربوا من طريقته في التفكير والتعبير. فمقالة جبران «حفار القبور»، وقصيدة الأستاذ نعيمة «أخي إن ضج» كأنهما من مقلع واحد، وإن اختلفتا شكلًا. أما معتقد الخلود فواحد عندهم جميعًا. هذا أبو ماضي الذي أعده صلة بين القديم والجديد يفلسف كأصحابنا جميعًا. يحدثنا عن جهله كيف جاء إلى هذا الكون، فذكرني بقول الريحاني، حين شبه وجوده في هذه الدنيا وجهله له بجرذ وجد في قبر عتيق، فهو يعيش فيه ولا يعرف من بناه، ولا متى شيد، ولا يوم تهدمه!
تخيل جبران في كتابه «النبي» مدينة أبحر إليها وقد جعل اسمها «أورفليس» على وزن أورشليم، فالتقاه ناسها وأخذوا يطرحون عليه أسئلتهم طالبين منه حل مشاكلهم الاجتماعية. فحلها لهم حلًّا شرقيًّا، مفتاحه المحبة والسلام. ومثل جبران فعل الأستاذ نعيمة، حين عاد إلينا، فكرز هنا وعلم هناك متصلًا بالناس مباشرة يراهم ويرونه، يكلمهم ويسمعونه. ثم جمعت تلك الخطب في كتاب «زاد المعاد». الخبز والأدام واحد في «النبي» و«زاد المعاد»، أما اختلافهما، في بعد مدى التأثير والسيرورة، فذلك ناشئ عن أن الأستاذ ميخائيل يحدث أناسًا غير غرباء عن أورشليم، فما نفقت بضاعته عندهم كما نفقت بضاعة جبران عند الأمريكيين، الذين ينفق عندهم كل شيء.
أما الأسلوب الذي اعتمدته هذه المدرسة فيلخصه جبران بقوله: «يكتب بعضنا لمن ماتوا ولا يدري أن قراءه في المقابر. ويكتب بعضنا لإرضاء معاصريه حاسبًا أن في ذلك العظمة والخلود فيخطئ المرمى. ويكتب بعضنا لأنه إن لم يكتب يمت وهذا من الخالدين.»
أما رأيه في شعراء المهجر فقد قال: «لو تنبأ المتنبي وافترض الفارض، أن ما كتباه سيصبح موردًا لأفكار عقيمة، ومقودًا لرءوس مشاعير يومنا؛ لأهرقا المحابر في محاجر النسيان وحطما الأقلام بأيدي الإهمال.
إن عصرنا هذا قد كثرت فيه قلقلة الحديد وضجيج المعامل فجاء شعرنا ثقيلًا ضخمًا كالقطارات، ومزعجًا كصفير البخار.»
وهنا يخطر ببالنا جبران الشاعر «نظمًا» فهل وفق يا ترى إلى الشعر الذي يريد؟
لا، إن جبران شاعر في منثوره لا في منظومه. أراد أن يفلسف نظمًا فقال أشياء هي أفكار أكثر منها موسيقى.
كانوا في الأندلس يتخطون من الطب إلى الفلسفة، وفي «أندلسنا الجديدة»، كما سماها بعضهم، يتخطون من الأدب إلى الفلسفة، وهذا ما وقع لجبران ونعيمة.
وبعدُ، فقد يمسي أسلوب جبران كأسلوب ابن العميد، ولكنه كيفما دارت به الحال يظل أسلوبًا مبعتًا، ويظل صاحبه زعيم مدرسة يبقى الكثير من عناصرها في الذرية، تتمشى فيها تمشِّي الوراثة في الناس. وما هذه الألوان والمجازات والإسنادات والإغراق في تعبئة الجملة إلا مظهر من مظاهر الأدب الجبراني تحوَّل وتطور كما تراه في شعر الشباب الحديث ونثرهم.
وإذا ماتت «دمعة وابتسامة» وأخواتها فلا تموت كلمات جبران. وإنني لأراها تنبعث يومًا بعد يوم من مراقدها؛ لأننا نجد في تآليفه ما يعزينا في محنتنا، وما يدفعنا إلى العمل بنصائحه لنصيب الأهداف التي تنصبها الأحوال الراهنة أمام أعيننا.
فزعيم أدب المهجر شخصية لها مميزاتها القوية، وعناصرها المتمردة. فهو شرقي عربي، لم يكتب ليمغرب الشرق، بل كتب ليمشرق الغرب ويكون له رسولًا. والشخص الفذ هو الذي يحتفظ بلونه؛ لأنه في غنى عن الألوان التي يكتسبها من محيط غريب.
إن النوابغ يفرضون أنفسهم على الناس، والمجنون هو من يحاول طمسهم. إنه كمن يبصق في وجه الهواء القالع.
المدرسة الجنوبية
أقفلت مدرسة أميركا الشمالية أبوابها، وتفرق السرب، فهذا الريحاني يغني على ليلى جديدة، ينفخ في بوق القومية العربية داعيًا أحفاد يعرب إلى الاتحاد، بعد أن اضطجع على صفة ربة الوادي في الفريكة صارخًا مستطبًّا: داويني ربة الوادي، داويني. وهذا جبران قد أمسى يكتب بلسان الدولار والشلين. وهذا ميخائيل نعيمة يعود إلى لبنان، بعد موت جبران، ويختلي في بسكنتا والشخروب ليكتب «المراحل» ثم كتاب «جبران خليل جبران» النفيس. كَتَبَه ليبدد غيومًا تكاثفت حول جبران. خاف أن يختنق صديقه الحميم وراء غيوم النبوءة الكثيفة فشق ثوبه عن صدره ليمكنه من تنشق الهواء النقي، ثم خال أن ذلك غير وافٍ بالمرام فبدأ منذ حبل به في البطن، وأخيرًا، كشف عن عورته، فتم الكتاب. وفي كتابه هذا «جبران» يؤرخ لنا ميخائيل إنشاء «الرابطة القلمية» واضعًا النقاط على الحروف. أما إيليا أبو ماضي شاعر المهجر الكبير فاحترف الصحافة وأقل من قول الشعر. أما الآخرون، وهم «العمال» كما يسميهم قانون الرابطة، فكادوا أن يصمتوا.
يا أبناء بسكنتا، يا لحمي ودمي، ما أنا بالنبي يصنع العجائب، غير أني مذ عدت إليكم والعجائب تكتنفني، فكأني في عالم مسحور. أنظر إلى الجبال التي كنت أتسلقها فإذا بها تتسلقني! أكاد لا أسمع زقزقة عصفور إلا سمعت فيها أجواقًا من الملائكة، ترنم بصوت واحد: قدوس، قدوس، قدوس. ما أبعد السلام المخيم في جبالكم عن الجلبة المعسكرة في مدينة كمدينة نيويرك، وتلك الجلبة هي تطاحن المطامع والأهواء البشرية في سبيل الريال. وليس أضل ممن يعتقد أن بإمكانه التوفيق بين ريال نيويرك وسلام صنين. فريال نيويرك نقاب كثيف يحجب وجه الله، وصنين عرش من طهارة يبدو عليه وجه الله سافرًا. من اختار منكم ريال المهجر وكل ما في قلبه من جلبة لا تسكتن، فليطلق سلام صنين!
تقولون لي: وهل نأكل سلام صنين إذا عضنا الجوع، أو نلتحف به إذا قرصنا البرد؟
وأنا أقول لكم: بلى وألف بلى؛ فالجمال الذي تنثره يد الله حواليكم بسخاء هو الطعام والكساء والمأوى لكل ما هو أزلي وأبدي فيكم.
ولكن أأكل نعيمة من التفاح والدراقن والخوخ، أم أكل من سلام صنين؟
وفي هذه الصرود كوخ في صخر اسمه الشخروب، بقي طوال الدهر نكرة مثل المزارعين والرعاة الذين كانوا يأوون إليه. بقي نكرة إلى أن شع فيه نور الفكر والأدب، اتخذه ميخائيل نعيمة «مقامًا» يطبخ فيه طبخات صوفية، ويعمل التوابل والحوامض الأدبية، ويوزعها في الكتب والمقالات على الناس لوجه الله تعالى.
هنيئًا للنساك الأقدمين أجدادنا المتعبدين، المتصوفين، هنيئًا لميخائيل، فقد عاد إليهم في القرن العشرين عن طريق أميركا إلى صنين، واندمج في سلكهم الطاهر.
وهكذا تقلص ظل «الرابطة القلمية» تلك المدرسة الأدبية التي ارتقى على يدها النثر العربي إلى ذروة فنية مرموقة. كانت كما تدلنا أقوال زعمائها وعمالها، مدرسة عامة لا نزعة خاصة لها، تكاد تكون أممية، بل قل شرقية شاملة. كان فيها شعراء ولكنهم ليسوا من الشعراء الكبار — إذا استثنينا أبا ماضي — كلهم قالوا شعرًا منظومًا: من جبران إلى نعيمة، إلى كل عضو من أعضاء الرابطة، ولكن منثورهم فوق منظومهم.
أما المدرسة التي فتحت أبوابها في البرازيل — العصبة الأندلسية — فقد لا تكون كالرابطة القلمية تنظيمًا وجهادًا، وقد لا يكون لها دستور كتلك، وإن كان لها مجلتان راقيتان لم يكن للرابطة القلمية مثلهما. وهاتان المجلتان ما زالتا تصدران إلى الآن، وهما «العصبة الأندلسية»، و«الأندلس الجديدة». من عنوان هاتين المجلتين تعلم أن الشعر غالب على هذه المدرسة. فالمهجر البرازيلي لم يتحفنا بغير دواوين شعر مختلفة الألوان والنزعات، ينحو أكثر شعرائها نحو شعراء «الرابطة القلمية» في الأغراض الوجدانية، وينفردون دونهم بالشعر الوطني القومي، وهذا الضرب لم يعالجه شعراء أميركا الشمالية.
كان المهاجرون البرازيليون قليلي العناية بالأدب. لا يعني صحفَهم الأولى إلا السياسة والأخبار، وظلوا على ذلك حتى وصلت هذه القافلة المتأدبة إلى البرازيل، فوجدت فيها مرتعًا خصبًا لعبقريتها، وجدت جالية متعصبة لجنسها وقوميتها، وشعبًا برازيليًّا يحترم العروبة ويجلها، ويذكر ما لها على أمته في سالف الزمن من يد. فاتقدت جذوة الأدب في صدورهم، والأدب كالتجارة ينمو بالأخذ والعطاء.
إن شعراء أميركا الجنوبية أو اللاتينية كثيرون، من مشاهيرهم رشيد سليم الخوري — الشاعر القروي — وإلياس فرحات، وشكر الله الجر وأخوه عقل، ونعمة قازان، وفوزي المعلوف، وأخوه شفيق.
قال فوزي في بساط الريح شعرًا أندلسيًّا حقًّا لولا ما فيه من غلو وإغراق، تتجاوب الأصداء النفسية في منعرجاته ومنحنياته، ولكنها تلهث تعبًا. وهذه النشيدة الأنيقة — بساط الريح — أحلت شاعرها فوزي المعلوف منزلة عالية. أما قصائده التي قالها في مواضيع متشعبة فليست من وزنها وبابتها. جرب فوزي أولًا في قصيدة عنوانها «الفردوس المستعاد» فلم يقل غير الدون من الشعر، وإليك منه هذا النموذج الصغير:
أرأيت «خرا» و«بكل احترام» و«قال أيضًا» و«لم يعد موجب»؟ ما أبعدها عن الشعر! فهذا شعر لا شعر فيه، ولا يحسن صاحبه غير التفعيل، ويخفى عليك حتى تظن أنه ليس لصاحب «بساط الريح». حقًّا إن الشاعرية قريحة وطبع، أما إجادة السبك فمران.
وإذا قابلنا بين فردوس فوزي المستعاد وبين «أوتار» أخيه رياض المتقطعة نكاد نجزم أن رياضًا سيكون بدرًا كاملًا؛ لأن الفرق بين «الفردوس المستعاد» و«الأوتار المتقطعة» بعيد جدًّا.
أما شفيق، وهو من شعراء هذه العصبة، فقد ركب متن طائرة، مثل شقيقه فوزي فحملته إلى عبقر، فخاف وخوَّف، وعاد من ذلك الوادي المسحور لا يحمل شيئًا؛ لأن الحال في عبقر كما هي في ممالك ودول اليوم: ممنوع التصدير إلا عن طريق المقايضة. وشفيق لم يكن معه شيء ليقايض ويعود غانمًا.
وهؤلاء الإخوة ثلاثتهم فوزي وشفيق ورياض محشوٌّ شعرهم تشاؤمًا، ونصيحتي لرياض أن يعدِّي عن تشاؤمه أو فليكن صاحب الكوخ الأسود لا الأخضر، فالاخضرار والتشاؤم كالصيف والشتاء على سطح واحد.
أما شعراء أميركا اللاتينية الباقون ففي شعرهم طلاوة الشعر الأندلسي، بل يفوقه جرسًا وشدة أسر. فإذا قرأت روائع شكر الله الجر وفرحات والشاعر القروي رأيت أن هؤلاء أخذوا من شعر الأندلس طلاوته دون ميوعته فقالوا شعرًا طيبًا.
أما نعمة قازان صاحب معلقة الأرز فقد جمع فيها خواص الشعر الأندلسي، بل قل أطواره كلها، من الموشحات الرصينة حتى القوما والدوبيت، يبتدئها بالميجانا والعتابا، ويختتمها بالزجل، وهذا البدء والختام من الشعر الرائع. أما شعر المعلقة فمغامرة جريئة لا أدري ما يكون شأنها في الأدب. ولست أدرسها الآن فموعدها، مع شعراء المهجر جميعًا، في الكتاب الذي يلي هذا. إن في هذه القصيدة مرامي بعيدة تستدعي التفكير، والآن لن نقول فيها إلا كلمة عارضة جرَّنا إليها موضوعنا. فالظاهرة الغريبة، في هذه القصيدة، منبثقة مما قلنا سابقًا؛ أي إن أندلسيينا الجدد يتخطون من الشعر إلى الفلسفة: فنعمة قازان خلق لنا ثالوثًا جديدًا، وكاد أن يوجب علينا تقديسه، وهذا الثالوث يتألف من ثلاثة: جبران وهو فجر؛ وميخائيل نعيمة فجر في فجر؛ والشعاع نعمة قازان. رحم الله عظام مار توما؛ فكم تعب حتى يحل عقدة المسيحية التي لم تفك، وها هو الشاعر نعمة قازان يفكها على الهينة! فجبران الآب، ونعيمة الابن، ونعمة الروح القدس، ومن لا يؤمن يُدان، وطوبى للنقية قلوبهم فإنهم يعاينون الله. أما من هم مثلنا فما أبعدهم عن مشاهدة «صندوق الفرجة».
ففي نظر قازان أن جبران لم يقل كلمته، ونعيمة الذي سماه قازان «فجر في فجر» — على طراز ما جاء في «قانون الإيمان»: نور من نور، إله حق من إله حق — قد قال بعضها. عثر نعمة قازان على هذا الفجر في فجر، أو النور من نور، في الهيكل العجيب حين دخله هو. ويؤكد لنا أنه لم يجد فيه أحدًا غيره. ولذلك يخاطب نعمة قازان الناس جميعًا في بدء كل مقطع من معلقة الأرز بهذا البيت:
سلامتَك يا أخي! إلا أنه، على نبله وكرمه، أشاح بنظره عنا، وطار كإيلياء، وبرفَّة عين بلغ السدرة.
لم يقاسِ شيئًا مما قاساه شفيق معلوف في رحلته تلك، بل قفز قفزة عريضة فإذا به حد الله جل جلاله:
وقطع الكلام خاتمًا معلقته بهذا البيت، ثم لم يقل لنا شيئًا عن الرد على هذه التحية، أمثلها كان أم أحسن منها؟! وهذا الشاعر الذي بلغ ما لم يبلغه أحد من بني آدم حتى الرسل والأنبياء، يتواضع ويقول:
فيكم الخير والبركة، كلاكما كبير يا أخي نعمة. نجانا الله وإياكم من هذه الوساوس!
•••
وها نحن نبحر أو نطير من الأميركيتين عائدين إلى لبنان، ونستريح قليلًا للاستجمام، مرجئين نقد وتحليل المدرسة الشعرية الحديثة، مبتدئين بزعيمها سعيد عقل والجائلين معه في المعمعة، وسوف لا نهمل أحدًا حتى المقلدين الخاسرين.
ثم نمر عجالى على المدرسة النثرية الجديدة؛ لأنها مشتقة من تلك. إن هذه الطريقة في النثر قد شغلت عقول الناشئين وأذهانهم حتى كادوا أن يفسدوا صورها وتعابيرها. والأغرب من هذا أن ينزع إليها بعض المشايخ ويوغلوا في غاباتها غير خائفين على عمائمهم وأردانهم وأذيالهم.
إن هذا كله ستراه أيها القارئ، في كتابنا الجديد: «دمقس وأرجوان».