بشارة الخوري وأمين نخلة
باسم «البيان والجمال» اللذين لا نهاية لهما نفتتح «معرضنا» هذا؛ فالأدب بضاعة تعرض، وأسواقها القراء، فمنها المستنبَط البديع ومنها المُزْجَى والزيف. وكذلك الأدباء فمنهم من يؤتى قوة الاستنباط والاختراع فتدهش السوقَ سلعُه، ومنهم المقلد الذي يتحامل على نفسه، ويجر قوائمه جرًّا ليخوض المعمعة فيقصر عن بلوغ المحج.
والأدب محصول، فإن سميته قمحًا ففيه حب مكتنز وفيه كعابير، وإن سميته ثمرًا ففيه الجميل والدميم، والزكي والكزُّ، وإن سميته زهرًا ففيه الفاتنة الضحوك التي تتطاول لتتكئ على صدرك، وفيه التي تُقَبِّلُ نعلك فتدوسها غير مذموم ولا مُلِيم.
وإن تسميه حيوانًا ففيه الفاره والتنبل، والحديد والبليد، فقل سبحان من خلق عباقرة في كل الكائنات، في عالم الناس والوحش والطير والنبات والجماد، ولكن عطاياه السنية نادرة وسخاءه فلتة.
أما أن شبهته — أي الأدب — بالأوادم فيشتد الالتباس عليك ويصعب تمييز هذا من ذاك، فالبشر يتصنعون ويتشبهون ليخفوا دمامتهم، وهم كالنمل يسيرون على الدرب المؤدي إلى القرية، ولكن الزمان يغربلهم وينخلهم.
فما أقل حظ المقلدين! ويا خيبة من لا يزيد على العقد خرزة! ويا تعس الغزاة الذين لا يعودون بالسبايا البارعات! يقول الشاعر: مساكين أهل العشق … إلخ، أما أنا فأقول: مساكين دراويش الأدب؛ فهم لا يبنون غير قُهقور، ويحسبون أنهم يشيدون أهرامًا تتزحلق عليها العوادي وتمضي لسبيلها.
يخلق ملايين كل عام ليس بينهم بارع الجمال، وتمر القرون ولا ترى أمةٌ مفردًا يحطم المقاييس الناخرة ويخلق فنًّا جديدًا. إن الأشكال المبتذلة لا تفتن ولا تغري، وليس من ينقل التصاوير الرائعة عن معجم لاروس كمن يخلقها، وإن أحكم النقل. إن الفن يكره الضرائر ولا يصغي إلى ثرثرتهن، والإبداع وحده يكتب الأسماء في سفر الخلود؛ فأكثر فينا أيها الفن من أبنائك، وأقصِ عن هيكل جبروتك من لا يفوزون بجزء من لاهوتك.
يقول «المجترون» إن لغتنا العربية لا تعبر عن أفكارنا، والتعبير مهما سما يظل مقصرًا عما نريد. هذا صدق إن سمعته من مقلدي الأقدمين الذين يعبرون عن طلوع شمس لبنان: بذرِّ قرن الغزالة، ويقولون: أثقل من رضوى، وصنين قبالة عيونهم. إن من يؤمن بالوحي والإلهام ولا ينام، والكتاب على صدره، لا يأكل من قلمه خبز البقاء. ليس معنى هذا أن نكلف الكتب ما ليس عليها، فالكتب لا تحيي الموتى، ولا تحول الأحمق عاقلًا ولا البليد ذكيًّا، ولكن طبيعة الإنسان إذا كان فيها أدنى قبول فالكتب تشحذ وتفتق. فليتدبر العقلاء كلمة قالها عربي منذ ألف ومائتي سنة.
اللغة بغلة شموس حرون فلنحتل لركوبها وإلا لبطتنا، فليتأنَّ المستعجلون. والكلمة لا تحيا ولا تنطق إلا إذا قعدت لزق جارتها، فإن أقعدتها فأنت ذاك النابغة، وإلا فدع الألفاظ في زرائبها، ولا تجلب الدب إلى كرمك.
لم يخل قرن من ألوف النظامين والمنشئين، والقناطير المقنطرة من دفاترهم المخربشة، تملأ الخزائن والرفوف. أما الكتاب والشعراء الذين ما برحوا في فم الأجيال فتعدهم على أصابعك العشر. ألا فليتعظ الأحياء بالأموات، وكم في التاريخ من عبر للناس لو يتفكرون!
لم نقل ما قلنا لنقطع رجاء عشاق الأدب، فهم يعلمون مثلنا أن أداة الأدب الخالد قريحة يمدها الذوق والتفكير، ويجلوها الاطلاع، وملاكها الإبداع، ومن يتكل على الآلهة مات كموسى في الصحراء ولن يدخل أرض الميعاد. كن مبدعًا، وسواء عندي أكنت شعلة من السماء أم شرارة من جهنم. أبهرني نورك أو أحرقني بنارك، فأنا على الحالين صابر. إنني لا أحب الطعام الفاتر فكن إما باردًا وإما سخنًا يحرق شفتي ولساني وسقف حنكي، فما أبشع وجوه القرود! وكم نرثي لهم إذ يقفون مسوخًا بين الجبابرة.
يقولون: لا يعجبه العجب. يا ويلي! كيف لا يعجبني شيء وأنا أطير به فرحًا وأصفق له فرحًا متى وجدته؟! أما أن أكذب على نفسي وعلى الناس، أما أن أقول للخصيِّ: ما أفحلك! وللقزم: ما أطولك! وللمكرفح: يا غصن البان يا عمري! فلساني لا يطاوعني، وضحى لمتي يضيء لي سبيل الإخلاص للذرية.
فكما يتمنى الأب أن يكون ابنه بارع الجمال وإن كان هو بشعًا، وكما يتمناه نابغة وإن كان هو بهلولًا، وكما يتمنى مع كل هذا، وقبل كل ذاك، أن يكون فيه شيء من ملامحه للاطمئنان، هكذا نتمنى نحن لأدبنا العربي.
أنا مارون عبود، أقسمت وأقسم بحياة مارون عبود أعز الناس عندي، ألا أكتب في باب النقد إلا ما أعتقده حقًّا، وإن أخطأت فأنا غير مسئول …
فمن شاء فليصدقني، ومن شاء فليتهمني، وليعذرني إخواني؛ فمن يحمل رطلًا لا يحمَّل قنطارًا.
شوقية بشارة
نشرت جريدة المكشوف الغراء في عددها الثمانين قصيدتي الشاعرين بشارة الخوري وأمين نخلة في رثاء الشاعر أحمد شوقي، ومن كلامها الذي قدمت به القصيدتين لقرائها: «ولسنا نقصد من نشر الاثنتين معًا إلا خدمة الأدب والتاريخ، تاركين للقراء أن يخرجوا من هذه المقابلة التي هيأتها لهم جريدتهم بالرأي الذي يوحيه إليهم ذوقهم الفني.»
قيل كان أبو نواس يصلي مع الجماعة فقال الإمام: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، فأجاب شاعرنا المتعتع: اللهم لبيك. فأي بأسٍ علينا لو لبينا صديقنا الحبيشي، ونحن من قراء مكشوفه، مبتدئين بأخطلنا الصغير: لا بد للشاعر من جو أو محيط — سمه ما شئت — يسرح فيه حين يعمل قصيدة. أما محيط أخينا بشارة في قصيدته هذه، فكان في السماوات العلى بل في السماء السابعة، التي زارها ماربولس وعاد يخبر المؤمنين عنها. وقد يكون فاقه بشارة إذ بلغ «سدرة المنتهى» فأسمعه يعيط وينادي:
لقد فصَّل بشارة من جلد غيره فوسع، جعل سدرة المنتهى، وهي عن يمين العرش، أدنى منابر الشاعر، أما منبره الأعلى فهو «كتلك الساعة التي لا يعلمها أحد إلا الأب» كما قال المسيح لتلاميذه عن الموت، فكونوا متيقظين.
لم يحسب بشارة أقل حساب لقوله تعالى: إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَىٰ، فحشر أحمد شوقي ولم يبال.
لست أنكر أنهم يشبهون الشعراء بالطيور، وسدرة المنتهى شجرة نبق كما يقول المفسرون، فالتشبيه غير غريب. ولكن هذا الجو عالٍ جدًّا يخشى فيه على الطيور من الاختناق. فلو جعله، مثلًا، مع الرجال الذين يسبحون الله بالغدو والآصال لهان الأمر، ولكن أنكون كرَّمنا الشاعر أو مدحناه إذا لم نطيره فوق الكاروبيم والساروفيم؟
وبعد أن قال بشارة بيته الأول في ذلك الأفق انقضَّ فجأة كالعقاب على رفِّ حمام، وخر إلى ذقنه يقول:
ومع أن «شعرًا» ليست من الدخيل على الموضوع فقد جاءت نابية وصدمت موسيقى البيت صدمة غير هينة. ويرفع الشاعر رأسه بعد هذه الخرة فيرى:
وبكلمة خلق بشارة ربة جديدة للنثر حفظًا للتوازن، وهكذا رأى أحمد شوقي كما رأى «يوحنا» الحمل المذبوح. واهتزت الحور لهذه الرؤيا وقصت شذورًا من غدائرها لتكون ستائر لعرش شوقي السماوي. ثم ماذا رأى ابن الإنسان؟ رأى أتراب مريم لاهيات لاعبات «باللاقوط» في خمائله، ورهط جبريل يحبو في مقاصره، كالعصافير التي تنتف جناحها وتترك لعبة للأولاد. وتكميلًا للحساب يأتي الملهمون بنو هومير أيضًا، ولا يتركون سجعًا لطائره. «كذا».
ويضطرب الملكوت فتتساءل الملائك: من هذا؟ فيقال لهم كما أجاب الفرزدق بالنيابة عن زين العابدين: «هذا الذي» أربع مرات، فيوفق الشاعر حين لا يحاول عمل المعجزات والعجائب فيقول بيتين من أجود الشعر، كأنهما صورة ناطقة لشوقي، وإليكهما:
لم ينزل الشاعر بعدُ من فوق، فقد استطيب المناخ، وقال أيضًا ما يشبه «العجائب السبع الأولى» ولكن «كم ودت» خففت من وهجها الحامي وحرها الكاوي، وقد ختمها بقوله:
ومن كان قد قرأ بعض الشعر، وسمع من أهل العلم، مثلًا، أن الشعر منقبة سنية تصدى إلى أي نظم كان، فإذا رأى طائرًا في الجو نظم فيه قصيدة، وإذا تزوج أحد في بلده نظم فيه تواريخ، وإذا توفي أحد قال: قد غاض بحر الكرم، ودكت أركان المعالي، وذوت رياض الفضائل، وأفل نجم الهدى، وخسف بدر المجد، وكسفت شمس الفضل، ثم لا يزال يصعد في عاجلة النبي إلياس حتى يصل إلى الفلك الأثير، ويعدد جميع ما هنالك من النجوم وينتزع منها كفنًا لمرثيه. (كشف المخبا، ص١٦٦).
قلت: حقًّا إنها لنبوء، ليرحم الله شدياقنا، فماذا كان يقول لبشارة لو استيقظ على عياطه وصريخه «في ربى الخلد»، ورآه منتصبًا كالناطور فوق شماريخ جبال الجنة، وقد تعلق كالحرباء بأغصان سدرة المنتهى يهزهز أغصانها، بل ما تراه كان يفعل به — والشيخ الشدياق، رحمة الله على ترابه، أحرص ما يكون على النساء — لو رآه يهاجم الحوريات بمجزه ليقص شعورهن المجدولة ويعمل منها ستائر لشوقي، ثم يأخذ النجوم ليزرر بها الذيول الضوافي من مآزره؟ فليت شعري كيف يكون شوقي في هذه القطيفة التي صارت سماء ذات أبراج، بل كيف يختال فيها؟ ثم ماذا كان يقول الشدياق لبشارة لو رآه رهط جبريل يحلجون في الجنة وقد هيضت أجنحتهم، وهم يجرونها وراءهم كالمكانس؟!
لا شك في أنه يرثي له كشاعر عربي لبناني، ويهدي إليه كشف المخبا والفارياق، ويقف إلى جنبه، ويوشوشه قائلًا: الأب الأزلي مستريح فلا تزعجه بهياطك ومياطك … استَحِ يا ابني، بأي عين تقابل شعراء الجنة؟! إياك ثم إياك أن تنظم شعرًا قبل أن تقرأ كشف المخبا والفارياق. ثم يجبر خاطره فيهبه شيئًا من أوسمته بعد أن يعاهده على أن يقول شعرًا يطيق احتماله الفهماء.
وكأني بواحد يسألني: ما قولتك، لماذا فاجأ بشارة مصر العزيزة بهذه الأعاجيب؟ الجواب: لا شك أن بشارة سمع أن في مصر سَحَرَةً نازلوا موسى الكليم بحضرة فرعون فتغلَّب عليهم بمعونة الرب، فتوكل بشارة على الله وجاءهم بالكبيرة فوهرهم، والضربة لمن سبق. ويعلم بشارة أيضًا أن الجمهور سيِّد هذه المواقف، والجمهور لا يستفزه إلا الخفة والأسماء الضخمة فأكثر منها وراح يصرخ فيهم:
أأسب دين القافية؟! فالمتنبي المسكين أكلته الذئاب قرب دير العاقول فكيف لا يرضى له بشارة بحفرة واحدة؟ وصاح أيضًا «شوقي سلوا البحر» ثم «شوقي سلوا الليل» ولو سأل أكثر لكان الاستحسان أعظم، والتصفيق أوفر، والوسام أكبر.
وتذكر بشارة أن في مصر نهرًا جوادًا هو النيل فوصفه ووصف نعيمه المقيم، حتى يكبر المصيبة ويقول:
الله أكبر! فهذا الصياح يعبس، ولم يعد المساء لعوبًا في الجزائر، وذبل الزهر، وسكتت الطير حتى الأشجار لركود الريح، عجائب لم نسمع بمثلها يوم صلب المسيح. نحن نعلم أن الطمي قد يكون قليلًا في مصر بعض السنين، أما أن ينشف ماء النهر بالمرة فهذا لم يحدث حتى على يد موسى البطل. فوالله لئن كان الشعر سحرًا كما يقولون فشاعرنا ساحر بلا شك، كان الله في عونه ليبيض وجهنا في كل مناحة كما يبيض القوَّال وجه ضيعته.
ويعظِّم الشاعر الخطب بالشاعر فيراه أعظم من الخطب بالنهر «مجري الروح في بلد» فخطب الشاعر يذوي له كون بجملته. حقق الله أحلام الشعراء فهي لا بأس بها، ولكن يا حبذا، ولو قوَّم الناس الشعراء الندابين كما يقومون أنفسهم لكانوا صفوة الخلق وأسعدهم.
أتريد أن أخبرك عن كل المفاجآت في هذه القصيدة، إنها لكثيرة وشاعرنا خفيف نشيط، فها هو ينتقل إلى لبنان بسرعة النور ويقول للناس:
نعلم أن أهل لبنان متى «حدُّوا» لا يدقون الكبَّة فتعطَّل الأجران، أما أن يبطلوا الشرب فبدعة ما سمعنا بها إلا من بشارة. وينتقل إلى طرابلس فيسأل: ما للمآذن في الفيحاء كاسفة … إلخ.
وهنا جعل للريح فرد حافر إكرامًا لسواد عيني القافية، ثم من يدري فقد يكون الريح في الحيوان مثل وحيد القرن. وهل لنا أن نطالب ابن بطوطة الشعراء بهذه الصغائر؟ فقد يكون في حالة «اللاوعي» التي تقول بها مدرسة سعيد عقل.
وبعد أن قال ما قال في لبنان وطرابلس رجع إلى مصر فجعل الحسن والإحسان غريبين يضربان في الأرض كشريد «لامنيه»، حتى اعتصما بضفتي النيل. لقد صدق، فمصر بلد طيب يخرج نباته بإذن ربه، وأهلها أجاويد. ولذَّ له أن يذكِّر أحمد شوقي بشيء كما تفعل الندَّابات في المآتم ليعلو الشهيق والتنهد فذكره، ولكن بخبر أسود، فقال:
أرأيت هذه القوافي المكعومة، ألا ترى هذا الضمير يركض كأعرج يريد اللحاق برفاقه؟ ثم ألا تقول مثلي من أين جاءت أصنام الجاهلية في القرن العشرين؟ والأغرب أن يتم بشارة البيت الأخير بقوله: ماضي البطش قاهره. فكأنه يجدُّ ولا يهزل، أو كأنه ينظم قبل الشاعر الجاهلي القائل:
وبيت الأصنام هذا، أليس لسيدنا الفرزدق الذي كان يقطع طريق الأدب ويشلح الشعراء؟ أليس هو القائل في «جفان» المرحوم جده «دارم» الذي ألحقه به أحد الخلفاء وحرمه الجائزة:
أما بشارة فأخذ البيت ولم يحسن الأخذ بل بشَّعه ﺑ «ماضي البطش قاهره»، التي زادها عليه فجاءت كذنب الطيارة الثقيل. وتوسع لغة فقال: «عكاف» والوجه ما قاله الفرزدق. وما وقع بشارة في هذه الوحلة إلا لأنه يريد أن يقول لشوقي:
وإذا كان البيت السابق مأخوذًا من الفرزدق فهذا أيضًا مأخوذ من شوقي نفسه، إذ يقول في رثاء مصطفى كامل باشا:
أما بشارة: فاختصر وقال: خذه من كبدي، وتواضع ولم يزد على قوله: لا يؤخذ الشيء إلا من مصادره.
وبعد كل هذه الروحات والجيئات يتذكر بشارة أخيرًا أنه لم يذكر فرعون، رحمه الله، فقال في قصائد شوقي: لو عاد فرعون كانت من ذخائره …
أرأيت ما أغنى هذين البيتين بالتوريات، والأعلام، والألقاب العتيقة، والأدعية الحامية الوطيس؟ فهكذا يقول الشعر من يطلب التصفيق ويرضى بالساعة التي هو فيها. فتعلَّم، إن كنت تطمع بلقب شاعر العرب ووسام الاستحقاق.
ونزل بشارة عن المنبر واهتزت الأسلاك البرقية تبشر لبنان بالمعركة الفاصلة، وحامت الأنصار على «الدباس» فكانت الجائزة استحقاق بشارة شكر لبنان. ويروي المؤرخون أنه جاء لبنان مليون مصطاف تلك السنة.
أما أمين نخلة فقال قصيدته إرضاء لنفسه، بل «ليقال فيه غدًا وفي ابن الخيِّر». وسنقابل بين الثنتين بعد النظر بقصيدة أمين، فلا تظن أننا وقفنا هنا. فسر معي على خيرة الشيطان — شيطان الشعراء — فلقد تعبنا من الصعود والهبوط في قصيدة بشارة التي كان فيها مكرًّا مفرًّا، مقبلًا مدبرًا معًا.
شوقية أمين
نطلُّ على أمين نخلة الشاعر فنشرف على مدينة جديدة لها في النحيت أسلوب خاص، سوف ندرسه مطوَلًا. أما الآن فنعلق على مدخلها هذا الإنذار: المفرق خطر خطر الموت، ومن لا يتعظ يكن عبرة.
إن شوقية أمين على الراء أيضًا كقصيدة بشارة، ولكنها لا تتعثر بالضمير الذي يتعلق بها تعلق الصبي بأذيال أمه فيمنعها أن تميس وتمشي مشية صاحبة الأعشى، ولهذا جاءت قصيدة أمين هدَّارة كالبحر المعرورف تذكرنا «فتقت لكم ريح الجلاد بعنبر»، ولكنها لا تسمعنا جعجعة الرحى التي تطحن قرونًا. افتتحها أمين على الأرض لا في السماء فقال:
ورأى أمين ما رأى في «التفاف السمر» فشاء فكانت «مواسم عبقر» فتم له ما أراد دون أن يستصرخ الله وجنوده، وما عنده من حُور وولدان. المقعد بسيط رحراح:
تصور الشاعر قعدة لبنانية لا أكثر ولا أقلَّ، وحسبها أن تحتوي على خير ما أبدعته يد المهندس الأعظم، لتكون فردوسًا أرضيًّا ترتع فيه قريحة الشاعر. ومجلس كهذا لا يستغني عن ساق فكان «سريا» يسقي الندامى بإبريق النبوغ مسلسلًا، وصفه أمين بلغة لبنان التي يعشقها ويحرص على تعابيرها ويلون بها شعره، وأمين عربي هاشمي — كما نبأنا حديثًا الصديق الأستاذ الرياشي في مقدمة الطبعة الثانية لكتابه «نفسية الرسول» — فاسمع إذن ما يقول أمين في ذلك الساقي:
قد تقول يا أخي: هل سكر أمين من قدح ليقبِّل كفَّ الساقي: ويلي عليك وويلي منك إن كنت لا تقرأ ما بين السطور، ولا تفهم الرموز؛ فالخمرة فارضية، والساقي ربَّاني عارف بالله. وكيفما توجهت تر عند أمين إسنادًا جديدًا أو إضافة طريفة أو فكرًا هفَّافًا مقرطقًا فيقول لك مثلًا:
فكأن الشاعر ابن المعصرة، أو «ابن مدينة» الأخطل يظلُّ على مسحاته يتركل. ثم لا ينسى أمين أن يعلمك آداب الندمان، ولكنها ليست كشروط أبي نواس الخمسة فيقول:
وبعد هذه الذكرى المؤلمة التي وصفها أمين مبتدئًا ﺑ «كنا» يشتد عليه الأسى فيقول:
انشقت معي طيب «نشقة المتذكر» لتعلم خبرة أمين بتزويج الكلام، والتشدد في إحكام الكتاب حتى لا يدع بابًا أو منفذًا للطلاق. وأمين يحسن «التجسيد» أيضًا — لا بأس إذا تفرنجنا — فيريك الدروب تمشي في موكب موحش، ويغص في العطفات صوت الأنهر، كصوتي ساعة الاختناق من الغيظ في محشر القوافي. شفى الله الأنهر وشفاني من هذا الداء!
وهنا يلتقي أمين وبشارة في تعظيم الخطب بموت الشاعر فيقول أمين:
يشبه أمين الشاعر بالربيع ولكلامه صلة بما قبله، فهو منذ ابتدأ ينظر إلى الربيع، والعشية، والشفق الطري، والغمام، والساقي، والإبريق والدنان، وكل ما يلزم الطرب من آلة. أما بشارة فجاء «نهره» لزقة فجرف الأخضر واليابس. ورب قائل: ما يدرينا أن أمين نخلة لم يأخذ عن بشارة هذه الصورة إن كانت قصيدته لم تنشر، كما أذاع المكشوف الأغر؟ قلت: بلى نشرت، وأمامي الآن نسخة منها أذاعتها جريدة الشعب في حينها. وإلا فهل أنا نبي لأنبهك إلى «مواسم عبقر» و«التفاف السمر»؟! وسأشير إلى غيرهما فأعرني انتباهك.
لم يكبِّر أمين المصيبة بالشاعر مثل زميله بشارة الذي أذوى له كونًا بجملته، ولكن جاءنا منه «الهناء الأكبر» أخو الراحة الكبرى عن شوقي عن أبي تمام. ويقول أمين في البيت الثاني عن الأمة وشاعرها:
إني أرى «فاءت» يابسة، وهي من ألفاظ العقاد الشعرية، كما أكره هذا الجناس في «تقلبت في قلبه»، وعسى أن ينظر في هذا عند الطبعة الثالثة فهو كثير العناية بتهذيب بنيه، لا يخلِّفهم ويتركهم. أما وزن افعوعل الذي استحلاه ابن الأثير وعشقه أمين وتيَّم كثيرين فقد عمَّ حتى خمَّ. ويمشي أمين مشية ليِّنة في وصف شاعره، وكرمه الحاتمي، ودموعه وأحلامه التي تشفي من جميع الأدواء، ولا أدري إذا كانت تشفي من الكلب أيضًا كدماء ممدوحي المتنبي.
ولا ينقطع هذا الفلم الجميل حتى يبتدئ الثاني بقوله:
لا تظن يا أخي، فحسب الشعر أن يكون له في كل قطر أخ للعقاد. لا خوف على الشعر يا أمين ما دامت النساء تحبل وتلد، فما شوقي إلا شاعر خلت من قبله الشعراء. إن شوقي مات، أما النبوغ فحي لا يموت. أما القباب ورفرف النادي وصدر المنبر التي خصت بشوقي حيًّا فألفاظ مرحة لولا «المتبع» التي جاءت كركبة البعير، تترحم على ابن الأثير.
وهنا تأتي نوبة الوصف الصريح لشوقي فيشبه رقته وصبابته بمدمع الياقوتة المتقطر، فيذكرنا بقصر ابن المعتز. وسرعان ما ينتقل في البيت الثاني إلى مطبخ ابن الرومي فيقول:
كانت «ألفاظه» في الطبعة الأولى فبدلها فتحركت. أما «الندية في الغليل الأحمر» فطريفة رائعة تشفع ﺑ «يتفقأ» التي تفقأ العين. وعندي أن الفكرة مبتذلة وما هنا محلها، وإن وصف أمين حبَّ الرمان خير الوصف وأصدقه.
وننتقل من تفقية الرمان إلى «الحبرة» فنعجب بنسج «منواله غزل الشعاع النيِّر» ثم ننسى الحبرة ونسير مستعجلين في موكب الأشعة إذ نرى:
أرأيت كيف يوصف الديباج البراقشي — شانجان؟! ويصف لنا أمين حدة ذهن شوقي فيأتي بصورة تنبض الحياة في كل عرق منها إذ يقول:
إن الشاعر يحتاج أولًا إلى عينين بصيرتين، سلمت عيناك يا أمين!
وينتقل إلى وصف سرعة الخاطر فيقول بيتين جيدين لولا العجز الأخير في قوله:
إن بيتك هذا متأخر عن إخوانه، ناهيك بما في ألفاظه من جفاء، متفرقة ومجتمعة، فابحث عن السبب فهو في الحنجرة.
ويقول بيتًا ثالثًا يصور به تزاحم الخواطر عند الشاعر الملهم:
إنه لتجسيد تام وتصوير نابض لا عيب فيه إلا زحمة الخاءات. ولو قال اصبري لكانت لبنانية أكثر، وإخاله آثر اعذري؛ لأنها ترادف «معليش» المصرية. تذكرني فكرة أمين الجميلة بما كنت أقرؤه مكتوبًا فوق رأس مار أفرام السرياني «كلي موران موهبتخ» ترجمتها: رد يا رب عني نعمتك. وكذلك الشعراء الملهمون في ساعة الرضا والتوفيق، ولا يصف الشاعرَ إلا الشاعرُ.
ويتمادى أمين في وصف صاحبه فيصف رقة حسه ويرينا أن أكف الوهم تصدع حسه. وهنا نبلغ بيتًا حذفه أمين من طبعة المكشوف، أذكره لأثبت لك أيضًا أن قصيدة أمين طبعت في حينها، وأنه لم ينظم بعد غيره. وأخيرًا، وهو الأهم، لأدلك على أن شاعرنا ينظم للفن، وهو جزار لا يشفق على نعاجه، فما حمله على حذف:
إلا قافيته الملعونة التي تسود وجه الفن؟ ثم ينتقل إلى وصف شوقي جسديًّا فيعرفنا به ويقول في جسمه الصغير: ملأ الفضاء كحبة من عنبر … ثم يذكر قلة حديثه ويرسم لنا صورة شوقي المفكر الفهيم ببيت هو أخو البيتين اللذين أطريتهما كثيرًا، وهما في العين أيضًا كهذا:
فهلا تتأمل المعبر مرة، وتخبرني عما ترى؟ لا تبعدك رأرأة عن هذا البيت فلا يسد مسدها غيرها. ويمعن أمين في الوصف فيقول في عين شوقي ومشيته:
ولو أراح أمين بيته من «رقيت» لسرح وكان صداه أبعد. قد رسم خليل مطران ناحية الزهو في شوقي فقال:
أرأيت كيف يصور الشعراء المفكرون؟ لا تبال باضطراب عجز البيت الثاني، فكثيرًا ما يعجز الشاعر عن إخضاع الكلام إذا تمرد. وإذا رأيت المطران يخرفش في هذ الأيام فلا تنسَ أنه حصَّاد شهير ترك المنجل، وهذه سنة شرقية.
ويختم أمين قصيدته بتجديد العهود والمواثيق فيقول:
أما أنا فأخاف جدًّا من الغبار خصوصًا إذا كان مغبرًا. وأتمنى أن يظل أمين سائرًا في دربه وكل من سار على الدرب وصل. ويذكر أمين صلته بشوقي وكيف انقضت، صبر الله قلبه، وعمَّره كنسر حيقار.
وبعدُ، فقصيدة أمين نخلة لشوقي بعينه، ولا تصلح إلا له. أما قصيدة بشارة فلشوقي منها الاسم، وهي تصلح أيضًا لحافظ وإسماعيل صبري والبارودي ولحليم دموس بعد عمر طويل.
محيط أمين في قصيدته محيط شعري بسيط جدًّا، تسمع وصفه ولا يطرُّ عقلك، ومحيط بشارة أشبه بمحيط ألف ليلة وليلة وكأن في يد صاحبه عصا موسى أو خاتم لبيك.
قصيدة بشارة مفككة تمشي على غير هدى، وقصيدة أمين كالسلسلة المحبوكة، لا قفز ولا نط، ولا انتقال، ولا مفاجآت، ولا غرائب ولا عجائب، لا رعود ولا بروق ولا عواصف كساعة تجلي المسيح على طور طابور.
قصيدة أمين ذات لون محلي تدل على شاعر بعينه، وقصيدة بشارة لا تدل على شيء من هذا، ولو خلطناها بعشرين قصيدة من شعراء العرب الأولين والآخرين منهم لما عرفنا أن قائلها من أبناء القرن العشرين.
نظم بشارة مفكرًا بالنظارة وهمه التصفيق لا الفن، ونظم أمين وعينه في الفنانين، وما عناه غير ذلك.
قافية بشارة متعتعة كالسيدات المترهلات اللابسات الفساطين المذنبة، وهذا الضمير الذي علقه بها يجبر القارئ على الطحير، وقافية أمين خفيفة رشيقة كالسيدات المتروضات.
كأني بأمين قد قرأ كلمة ابن الأثير القائل: من شاء أن يخلق عالمًا من الكلام فليأت به على صور الأناسي والأنام، ففعل. أما بشارة، فجعل مرسحه الجنة، فهز العرش وفزع سكان السماء. نعم إن فيكتور هيغو حرك آلهة الفن ووصف فرحها باستقبال صديقه تيوفيل غوتيه، ولكنه قال ما لا يقال إلا في غوتيه صاحب بدعة «الفن للفن» وهو في كل حال لم يجعل الفرحة غير معقولة، كما فعل بشارة.
قصيدة أمين كباطية النبيذ جيدها في وسطها وهي «كلٌّ»، أما قصيدة بشارة فخطرات أفكار مبتذلة وتعابير ألفناها، بخلاف قصيدة أمين ذات الصور الجديدة، والتعابير التي تدل على جهد وعناء، وتعب كثير في تأليف الكلام وتزويجه.
حاشية: لا يظنن الكتاب أن كلمة «التزويج» في البيان إفرنجية، فقد فطن إلى ذلك ابن الأثير، وفي ظني أن أمين نخلة قرأ ابن الأثير مرات، وما أحوجنا إلى من يقرؤه!
قابل إذا شئت فالقصيدتان أمامك، انظر ماذا قال أمين وكيف يقول بشارة: هذا هوى الشرق هذا ضوء ناظره، يعني: يا نور عيني. وقس على هذا إن شئت تعلم أن للفن اللفظي عند أمين شأنًا عظيمًا، حتى يميز بين «ألفاظه» و«لفظاته» ويستغني عن «مبهر في مبهر» و«شوقي الشعاع»، وهذا ما نطلبه من بشارة الخوري الذي لا ننكر شاعريته، ولكننا نسأله أن يتغرب، ففي الأسفار أكثر من خمس فوائد.
قلت سابقًا إن قصيدة أمين «كلٌّ» تصعب تجزئته، أما قصيدة بشارة فإليك لائحة بها:
٥٠ | اليكون خمسون بيتًا فقط لا غير، عدا السهو والغلط. |
٦ | أبيات في وصف شوقي بالجنة. |
٥ | أبيات سؤال الملائكة عنه وتعريفهم به. |
٢ | للقارئ عن تمنيات جنة الخلد. |
٤ | أبيات صريخ وعياط. |
١٢ | بيتًا عن النهر الذي أكله الغول. |
٦ | أبيات عن حزن لبنان وطرابلس. |
٥ | أبيات عن غرام مصر والخواجة لبنان. |
٦ | أبيات عن اصطدام سيارة شوقي. |
٤ | أبيات عن فرعون والملك فؤاد وفاروق. |
أما قصيدة أمين فعدتها ٤٤ بيتًا، موضوعها شوقي وما يتصل به وبفنه، فلا أهرام ولا فرعون ولا عشق ولا غرام بين الأقطار.
لا يحرد بشارة إذا فضلنا أمين نخلة عليه، فقد نقابل بينهما في وقعة أخرى — بالفرح إن شاء الله — فتكون له الغلبة إن شد حيله وقابلنا بغير هذا الوجه الشعري، فما هذا وجه من يعيش.
وأخيرًا أتمنى أن أكون مخطئًا ويظل بشارة على كرسي مجده تعطيه الطوبى جميع الأجيال كستنا مريم، رزقنا الله شفاعتها ورضى أخينا بشارة العزيز الغالي.