فليكس فارس
أحب أن يقرأ كلمتي حيًّا فأبى الدهر إلا أن تُقال فيه ميتًا. ما أقلَّ عقل الأديب، وما أسخف هذا الذي نسميه أدبًا خالدًا! ماذا يظل بعد تلاشي الذات وفناء الهيولى؟
استرح الآن يا فيلكس، فلا بكاء ولا رثاء، فمثلك لا يُبكى ومثلي لا يَبكي؛ فالبقاء لله، ولعبديه إيليا وأخنوخ. حللت إلى هذه الكأس شابًّا فشربت بها كهلًا، أما أنا فأرى اليد الأزلية تلوِّح لي بها وأصدف بوجهي عنها؛ لأني غير عطشان، وسوف لا أشربها إلا غصبًا عن رقبتي. فلا قرب القضاء نوبتي، وليتني أفلت من يد القدر لأعلم زهيرًا كيف لا يسأم المرء تكاليف الحياة.
كم تساءمت يا فيلكس! وكم تشاءمت! وها أنت تبلغ، ما تمنيت فقل لي كيف تجدك الآن، أأنت أرفه حالًا؟ هل اخترقت عيناك الثاقبتان سجف الأبد؟ وهل للشوق والحب من معالم في دنيا الخواء؟
هيهات! لا تقل لي، ولا أقل لك، أيها اللاشيء، لا تحدثني عن أشياء لا وجود لها إلا في مخيلة البشر. وهنيئًا لمن يموت على رجاء.
غدًا يرحب بجثمانك الثغر، وتنتصب حول نعشك جبابرة الجبال، ويضمك إلى صدره السهل. غدًا تستحق شكر لبنان، ويختم تابوتك بتلك القطعة التي يسمونها وسامًا، فأي غد تنتظر؟
كل هذا لا يساوي ساعة متعة أخلصت فيها للحياة فوهبتك من عطاياها أثمن الكنوز. إنها لا تهب إلا نفسها، تهب وتسترد وفي هذا بقاؤها، فهل تعقم مثلنا في غد ما فتنتقم لنا من نفسها، ولا نعود نسمع على ظهرها من يعزينا بقوله: «سبحان الباقي».
•••
متى تقدمت السن بالمرء يتغذى بذكرياته كما يتغذى الجسم بخلاياه. كان فليكس أعشى مني يوم تعارفنا فقد كنت جذعًا وكان قارحًا، وما عساي أذكر من فليكس غير نفخات وآهات، غير تشاؤم مر، غير تلك الابتسامة الواضحة الغامضة التي كان يستقبلني بها، أو يحملها إليَّ في الغداة والعشي.
كنا نجتمع غالبًا في غرفتي المعلقة الواقعة جنوبي ما يسمونه اليوم «تباريس»، وكانت على صغرها مجمع الخلان — أدباء ذلك الزمان — وهذه واسطة عقدهم قد انفرطت اليوم. جاءني يومًا فرآني معلقًا صورة نيتشه وقد كتبت تحتها: فليفن الضعفاء والمخذولون! أيتها الأم كلي ابنك. فأعجب بهذه الفلتة. وكنا كلانا نكبر فرح أنطون الذي عرف الأدب العربي بهذا الفيلسوف الغربي، وكنا نقرأ معًا ما يترجمه فرح من زاراتوسترا مسلِّمين ومميزين ومفكرين، فراريج تحتكُّ بديك الدهر.
كان فليكس يحب الفلسفة، وهو ابن أب كان شيئًا في زمانه. كان والده حبيب محاميًا مدرهًا، وله كتاب «صراخ المظلوم في بوق الحرية» يحمل فيه على اليهود، وكان عمه أنطون فارس صاحب جريدة المرصاد الحرة. أما أم فليكس فراقية مثقفة، في وجهها سيماء المرأة الفاضلة، عرفتها ببيتها في المريجات حيث نزلت عليهم ضيفًا أيامًا، فوقعت عيني أول مرة على بحر البقاع الأخضر ففتنني. لا أدري كيف أصف ذلك التأثير البالغ الذي استحوذ عليَّ ساعة وقفت أمام بيت حبيب فارس ورأيت الزرع يتعانق تحت أذيال النسيم.
نشأ فليكس في ذلك البيت الملهم الذي تسومه أم مثقفة كانت لأبنائها كالأخت الكبرى يشعرون أنها تحبهم وتحترمهم. وجاء القسيس في ذلك الزمان، وأعدت مائدة الفصح، فجلس القسيس وأم فليكس إليها، وقعدت وفليكس على صفة قبالتهما. وتلا القسيس حكاية علية صهيون وكسر الخبز وتناولا صانعين ذلك لذكر يسوع فاعلين كما فعل، أما أنا وفليكس فكنا بين بين، لا بطرس ولا يوضاس. شهدنا الوليمة التي انتهت ولما نذق كسرة من خبزها؛ لأننا لسنا من المشتركين.
لا يعنيك ولا يعنيني إن كانت أم فليكس بروتستانتية وأبوه مارونيًّا، ولكن الذي يهمك أن تعلمه، ويهمني أنا خاصة هو أن فليكس «مطعَّم»؛ فأمه أجنبية لا أعرف جنسيتها بالضبط، وخاله كما أذكر رجل دين ذو شأن في ملته، وهو من رجال العلم والفكر.
لم يكن فليكس متبسطًا في نكتته ولا منقبضًا، كان يرسلها موجزة ويترقب تأثيرها فيك. وكثيرًا ما كان حتى في عز شبابه منقبض الصدر، تأتي ابتسامته كشق حديث في ثوب من عصب، كأن صدره ينطوي على ألم ممض يكتمه ولا يبديه، ينظر إلى الدنيا كمن يراها على ضوء القمر، وقد عرفته في موعة الشباب ضئيل الأمل يائسًا، كثير الاحتجاج على النواميس الغاشمة التي تسير البشر.
وأول كتاب قرأته له — يوم كنت تلميذًا — مطبوع في أميركا، وقد بحثت عنه في مكتبة عالية فما وجدته، فخفت أن أكون بعته مع ما بعت من مكتبتي الأولى والثانية قبل الحرب وفيها. ولكنني لحسن الحظ وجدته في مكتبة عين كفاع، ولكنه بلا عنوان.
ماذا يهم العنوان ففليكس يسميه في المقدمة «مجموعة»، وهو كذلك؛ ففيه بضع قصص أظنها مترجمة وفي آخرها قصيدتان قصصيتان. إن فليكس قال الشعر كثيرًا في شبابه، وقد عارض أحمد شوقي في التسمي: ذاك كان شاعر عباس خديو مصر، وفليكس شاعر ناظم باشا والي الشام. ولكن يد فليكس بقيت فارغة وشوقي أثرى ثراء عظيمًا.
فمن مقدمة هذه المجموعة التي أهداها فليكس إلى نفس فريد عوض، وهو لا يعرفه، نرى كثيرًا من فليكس بل نرى فليكس كله. لم تكن هذه المجموعة بنت قريحة فليكس البكر، والدليل على ذلك قوله لفريد:
كتبت كثيرًا يا فريد، وها أنا على منحدر قمة الصبا أرى الأفق لا يزال بعيدًا أمامي، ونجوم آمالي تترجرج في سماء مدلهمة يغطيها سحاب الجهل في أمة ما زال فيها الألمعي غريبًا. أتخطى الصراط إلى شفير الهاوية، بجسدٍ نحيل يحمل ما كتبت يمناه ويشد به شماله إلى حيث يسود السكون.
أنا أحد إخوانك، غصن من ذلك الروض الذي حصدت منه. أنا كاتب للحق، وشاعر لنصرة الشعائر الطبيعية السامية التي بها سر السعادة، وقد أصبحت متلاشية أمام الألفة التي يفسدها التصنع ويقتلها الطمع والاستعباد. وهذا القلم الذي يخط لك ذكرًا يدوم قليلًا ويتلاشى ككل شيء على الأرض، هذا القلم المتعب الذي تدبره يد أنحلتها الأدواء ويملي عليه فؤاد برحته المصائب لهو كقلبك من قبل، جنح مكسور يرفرف إلى العلاء، ولكنه لم يزل معذبًا على الأرض.
يكفي أن أغمض أجفاني وأرتقي بالفكر إلى عالم «الكل» الذي ألفته لأراك.
في هذه الكلمات على بساطتها صورة مصغرة للحبيب فليكس، فهو تارة من المؤمنين ﺑ «عالم الكل» وحينًا صوفيًّا كبيرًا يقول ولا يهاب.
وما رواية الأستاذ أبو شبكة — وديني خالقي — إلا كما سمعها مؤخرًا من فليكس بعد أن تطور لأجل الوظيفة وقوت العائلة. ففليكس تلفلف بألف برد سعيًا وراء رزقه، فمن معلم في عبيه، إلى فاخوري في المريجات، إلى صحافي، إلى محام، إلى وظيفته الأخيرة التي نعم بها زمنًا ولأجلها قال: وديني خالقي. والصديق أبو شبكة وهو الشاعر الكبير المرهف الحس يعلم جيدًا أن «خالقي» هنا لزقة.
إن حملة الريحاني على فليكس لفي محلها. تعجب أمين من أن يتقهقر فليكس هذا التقهقر، في رسالة منبره وغيرها، بعد أن كان في طليعتنا جموحًا وحرية تفكير. ولو درى أمين أن فليكس صار ربَّ عائلة ولم يعد خفيف الظهر، وأن في هذا التذبذب بقاء الجراية لعذر.
كان فليكس أول من عرفت وصادقت في فجر حياتي الأدبية. كان يحبر الفصول الطوال فأنشرها له في جريدة النصير، سنة ١٩٠٨، وكان فليكس مندفعًا وراء مواضيع بعينها، يؤثر البحوث الاجتماعية ويثير قضايا يشتد حولها الجدل، فهو مطبوع على المناقشة يستدرج إليها الناس. وهذه جريدة النصير المحفوظة عندي تحفظ ما وقع بينه وبين داود النقاش حول موضوع «الخائن والخائنة» وأيهما أفظع جريمة. كان النقاش يدافع عن بلواه وفليكس شاب يرى في الحب كل شيء، فيصحح ما يزعم، ويبرئ ساحته.
وما ظهر ثالث عدد من النصير، بعدما عهد إليَّ بتحريره، حتى كان لفليكس فيه قصيدة عنوانها «ملاك ساقط»، وإليك منها بعض ما يصور لك رأي فليكس في الحب:
•••
ففي هذه الأبيات المنقولة، بكل أمانة، تهب عليك نفحات ألم وشكوى فتى شاخ في شرخ الشباب، وروح مسيحية في دم فليكس منها خمسون بالمائة، ولا شك أنه رضعها من ثدي أمه البروتستانتية التي ترى في الناصري كل سعادة في الدارين.
ولا ننتقل إلى العدد (٢٠٠) حتى نقع على العش المهجور، والعش المهجور قد يكون صورة حية لبيت حبيب فارس في المريجات، الذي نظرت إليه مرارًا في ذهابي وإيابي، فرأيته كما وصفه فليكس في هذه القصيدة التي يختمها بقوله:
وفي العدد التالي خطاب له موضوعه «الصنائع والفنون» ألقاه في كلية القديس يوسف بمناسبة قيام الأب ميشال بمدرسة صناعية. هل نسيت كلمة «فاخوري» التي مرت عليك؟ قد أحدث حبيب فارس معمل قلال وأصص كان فليكس يديره، وقد عرج ناظم باشا مرة فرأى يد شاعره ملوثة بالطين فأبى عليه تنظيفها قبل السلام وقال له: إن يدًا ملوثة بهذا الطين لهي أنظف من أيدي الوزراء والأمراء.
وفي العدد الذي يليه قصيدة غزلية عنوانها «عاطفة»، ومما قال فيها يخاطب الحبيبة:
•••
«النصير» ليس من مبادئنا نشر القصائد الغزلية لاعتقادنا خروجها عن الدائرة التي خططناها لنفسنا وهي النفع العام، ولكن قصيدة كهذه يقف عندها فكر الشيخ، وتخشع لها الصبية، وتدمع لها مقلة الشباب، لهي مما يتعلق بأهداب الفلسفة، فكأن هذا الشاعر قد آلى على نفسه ألا يقول شعرًا — حتى في الغزل الخاص — لا يدوي فيه صوت الإنسانية، فكأنه يفكر مع كل دماغ ويشعر مع كل قلب.
وزاد صاحب النصير عبود بك بو راشد صفحات نصيره أربعًا، ولم يكن ثمة جريدة بهذا الحجم، فأعجب ذلك صديقي فليكس ولم يرقني طبعًا؛ لأنه زاد في عملي، ولم يزد في أجري فكتب فليكس لعدد ٢٠٣ مقالًا عنوانه «كلمة عن النصير» أنقل لك فقرات منها تدل على فليكس وعلى زماننا الأسود كما ينبئك التعليق. قال فليكس:
النصير وهو الناظر إلى أحوال البلاد بعيون كتابها، والمفكرين بها، لا أراه منتشرًا بيننا بأعمدته الحافلة إلا لغاية واحدة وهي تنوير الأذهان بأذهان البلاد، وترقية عواطف الوطن بعواطفه، فهل يبلغ الأمنية أم لا يزيد اتساعه غير زيادة الخسارة، خسارة نفثات الأقلام وضياع الأرواح السائلة على ثلمة هذه القصبة المجاهدة بلا عزاء؟
إلى أن قال:
هنالك في البلاد الناهضة — أي في أوربا — كان أبطال السيف يعملون قبل أبطال القلم. أما هنا حيث العرش الحميدي الأبدي القرار، والعلم العثماني المظفر يرف بكل معنى السلام فلا يطلب منا شهداء لسن نظام وترقية حكم، قانوننا عدل، وسلطاننا رب الرحمة، فلا أبطال عندنا غير رجال الفكر، ولا قتلى غير قاتل نفسه في سبيل العمل المقدس.
مدنيتنا أسيرة يجب فكها من قيدين ثقيلين يغلان الأيدي والفكر، القيد الأول الحاجات العمرانية، والقيد الثاني النظام الاجتماعي. الأول يجعلنا عبيدًا مُوثقي الأكتاف، بخشب، بحديد، بنسيج، بإبرة، بخيط، بنحاسة صفراء توضع على أحذية الأولاد … ذلك استعباد هائل يدمي مقلة شيوخنا ويضيع ثقة نسائنا بنا، ويحني ظهور شباننا باليأس ويموه جبين الشبيبة المملوءة نشاطًا باصفرار القنوط.
القيد الثاني هو ذلك التقليد الذي نأخذه عن الأجانب ونريد أن نجعله نظامًا لألفتنا، مع أننا لا نلائم لحمله ولا يلائم طباعنا ولا الاستعداد الغريزي الذي يجول بدمائنا ويرتضي به. يجب أن نرتقي يا قوم، ولكن من يرقينا؟ تقدمي أيتها الصفحات الحاملة آخر جهاد لأول انتصار، انتشري بين شعب فتح عينيه للنور بفضل من تقدم من الأدباء، لقد مضى زمان كان صوتهم يضيع مع الدوي … أما الآن فقد أصبح القسم الأعظم من البلاد يفهم لغة البلاد، وقد لاحت بعض شرارات على ذلك الرماد منذ أجيال، فإلى الأمام أيها النصير، ناد وانفخ فما أنت نافخ في رماد ولا مناد ميتًا.
لِج الأبواب العالية … لج الأكواخ الصغيرة … لج … ادخل … قل للكل إن مفتاح السعة مطمور في هذه الأرض المحبوبة فليفتشوا عنه. ادخل … ناد … قل … اصل حربًا عوانًا … استنهض همم الرجال … قوِّ تلك النفوس القانطة، ادخل إلى خباء العذراء، وإذا مررت أمام بابي فلا تنس أن تلجه؛ لأن هنا نفسًا تمتزج مع كل نفس تحب الوطن، وتحن إلى إعلاء شأنه. هنا قلم مكسور يجر نفسه قسرًا بيدٍ أنحلتها الأدواء وبرحتها النوائب، ولكنها لا تزال تجد بقية قوة مضمحلة لتعمل هذا الواجب المقدس، واجب الانتصار لنصير الوطن.
«النصير» يشكر لفليكس أفندي ثقته به، ويسأل الله أن يأخذ بيده ليخدم الأمة والوطن بظل العلم العثماني المظفر.
في هذه الكلمات التي نقلتها ظواهر شتى، فهي تدلك كيف كنا نحتال على إخراج الكلام من صدورنا، فلا نستطيع قوله إلا ممزوجًا بالدعاء لظل الله على الأرض، سلطان البرين، وخاقان البحرين، ولي نعمتنا بلا امتنان، فكلمة حرية وعبودية ووطن وأضرابها كانت محرمة علينا كتفاحة آدم. كنا في ذلك العهد كالجزار نذكر الله ونذبح، وهيهات أن نسلم من المؤاخذة. فقد كتبت مرة مقالة عنوانها «أين أنت؟» والضمير راجع إلى الحقيقة فقضت المشيئة بوقف الجريدة، وكنا نعرض كل كلمة على المراقب ولا نطبع حرفًا قبل السماح لنا. وهي تدلك أيضًا على أن الصدور كانت تجيش والنفوس تحلم، فنحن الآن في شباط سنة ١٩٠٨، فما أطلَّ تموز حتى كان فليكس أمير المنبر ينادي بالويل والثبور ويلعن العهد البائد عهد الاستبداد والظلم، ويدعو بطول بقاء أنور ونيازي. وهي تنبئك على أن النهضة لا بد أن تتكون كالجنين، وأن تحبل بها أدمغة كثيرة في أزمنة وعهود عديدة، حتى تولد جنينًا كاملًا من أبناء السلامة، وهي تدلك أخيرًا على أن فليكس كان أليف آلام وطريد وساوس وأنه يشكو ألمين: ألم النفس وألم الجسد. وما برح كذلك حتى مات على رجاء أن يحب في العالم العتيد، كقوله:
•••
كنت مستأثرًا بالمقالة الافتتاحية لا أتنازل عنها لأفلاطون لو بُعث، وقلما وضعت كلمة لكاتب أو شاعر في الصفحة الأولى. وشاء فليكس غيرةً منه أن يكثر أعواني وأنصاري على تحرير صحيفة ضخمة، فحمل إليَّ «غصن ورد» لأمين الريحاني، وكان الريحاني في ضحى شهرته، وقد نبه ذكره، وهبَّت ريحه، بعد إصداره كتابه الشهير «المحالفة الثلاثية في المملكة الحيوانية». وقد أرفق المقال بإهدائي نسخة من هذا الكتاب التي استرجعتها من أحد أصدقائي الكهنة (ي. ع.) بعد مرور عشرين عامًا على غيبتها عن مكتبتي.
كتب فليكس مقدمة لغصن ورد الريحاني فنشرتها بالحرف مع المقال وإليك ما قدم به فليكس:
غصن من الورد هو عنوان لمقالة أو لشعر منثور كتبها صديقي أمين الريحاني.
قليل من الأدباء من لم يسمع بهذا الاسم الذي تتألق عن جوانبه أشعة الشهرة، وتحتاطه هالة من الأفكار السامية، فلا أزيده تعريفًا لقراء العربية، خصوصًا وإنني لا أكتب عن الشاعر بل أكتب عن قطعة أهداني إياها وفي يقيني أنها أجمل ما خطه يراعه.
للريحاني كتابات كثيرة على هذا النسق، وقد قرأت له ما هو أجمل تركيبًا وأعمق تصورًا من غصن الورد، ولكنني لم أجد الشاعر بكل شخصيته وعواطفه، كما وجدته في هذه الأشعار المنثورة، فإنها وإن كانت لا تتضمن كل القوى التي أوجدها التأمل بفكره فهي، بلا ريب، جامعة كل الحب الذي سكبته الطبيعة الشريفة بقلبه.
حكم الريحاني بأن غصن الورد هو أجمل ما كتب، هو حكم انتصر به الشاعر على الفيلسوف، انتصر به القلب الخافق بالحب الأزلي على الدماغ المتشتت والمفتش عبثًا أمام نهر الفلسفة الراكد.
هذه هي الأشعار المنثورة أقدمها لقراء النصير، وسوف أذيلها بكلمة وأتبعها بقصيدة لي ترمي إلى ذات المعنى، أفعل ذلك إجابة لطلب صديقي الريحاني، ولأهدي إلى القراء ما لا يضيعون به وقتهم عبثًا.
هذه هي المقدمة، أما الذيل فعلى نسقها ومما جاء فيه:
أي حب أجمل من هذا الحب الرفيع بعطفه السامي، بجهاده وبأسه؟ كل شيء في هذا الكون يعذب الحب؛ لأن هذا الشعاع الباهر المتلألئ على القلوب المرتقبة من شمس الأزل يترجرج ضعيفًا في ظلمة الجهل وتنازع البقاء على غير هدى … إلخ.
المقدمة والذيل نشرا لأنهما في قبضتي، أما القصيدة التي وعد بها فليكس قراء «النصير» فحرنت في الطريق ولم تصل إليَّ؛ لأن أخي فليكس حرد أيضًا، وكتب إليَّ يلومني بشدة وعنف لأنني نشرت مقال الريحاني في الصفحة الثانية، وعتب عليَّ لأنه هو يؤلب الأدباء المشاهير حولي وأنا متعجرف أنظر إليهم من عل. وكانت جفوة قصيرة جدًّا، فضها أبو فليكس وأصلح ذات البينِ بينَ ولديه.
ذهبت يومًا ومعي الأستاذ إميل أفندي خوري — لا أدري أين هو اليوم؟ — لزيارة الصديق الريحاني فوجدنا عنده زائرة إنكليزية، فكان ظلنا طويلًا ثقيلًا عليهما في ذاك الضحى. وكذلك يكون الظل فيه، فاستطولت زيارتنا تلك السيدة فسألت الريحاني: متى يذهب هذان الظريفان؟ فأجاب أمين بما لا يلائمنا، فغمزني إميل خوري فودعنا وانصرفنا، وخبرني صاحبي إميل فحوى الحديث الإنكليزي فما عذرت الريحاني في ذلك الوقت؛ لأن بقاء عشر دقائق لا يستحق هذا الوسام الرفيع، ولكن أحوالًا عرضت لي تشبه تلك أفهمتني بعدئذ أن الوقت يطول ويقصر بحسب الاستعداد النفسي، وأن صاحبنا وآنسته معذوران.
وخبرت فليكس بما وقع فهز كتفيه كعادته، تلك الهزة البلهاء، وعذر لأنه كان أعرف مني في ذلك الزمان بقيمة الرزق.
آخر عهدي بفليكس
وكتب فليكس مقالًا عنوانه «خطرات أفكار» «نصير ٢١٠» جاء فيه: «شيء افتكرت به مليًّا ولم أصل لإقناع نفسي به: الرجل الخائن زوجتَه يعد خائنًا لها فقط، فلا تعتبره الألفة محتقرًا للألفة، أما المرأة فأقلُ شططٍ ترتكبه يعرضها للهوان، بعرف الناس. الرجل الخائن يلهو ويلعب، والمرأة الخائنة ترتكب جريمة هائلة ضد البشرية.»
لا أقصد أن تبرر المرأة كما يبرر الرجل، بل أريد أن يشجب هذا كما تشجب تلك، أو يقنعني باحث بامتياز الرجل على المرأة حتى في الشر، فهل من كاتب يركب هذا المركب الخشن؟
فركب المحامي داود بك النقاش هذه السفينة، سفينة بلا قلاعة كالتي أركبتها المجدلية يوم أبعدت عن أورشليم المقدسة بعد موت حبيبها ونصيرها. وانقضت أسابيع بين خذوهات، داود وفليكس يتساوران، كلاهما يدافع عن قضية شغلت فراغًا عظيمًا من عقله، وقلبه وحياته، وقد خالطت اللحم والدم وعششت وباضت وفرخت كما قال الحجاج. وطال صراعهما حول الموضوع: قلبان ممتلئان: زوج غير مرغوب فيه، وشاب يرى أن المرأة خُلقت للحب كما قال:
أما حق المساواة بالعمل فلست منتصرًا لها به؛ لأنني أعتقد بأن المرأة خُلقت لتعزية الرجل وإراحته بالأدب والجمال من شقاء العمل، فإذا هي أصبحت عاملة تحولت من الجميل إلى المفيد، وفقدت السطوة الملائكية التي تجعل الرجل خاشعًا أمامها.
إن المرأة لا يمكنها أن تقتبس الرجولية دون أن تفقد صفة المرأة أمام الرجل وفوق سرير الطفل.
أما خصمه داود فيرى أن المرأة أكثر مسئولية وأشد جرمًا؛ لأن رجل الخائنة يتعهد ما لم يزرع، ويسقي ما لم يغرس. وكاد يتسع الخرق فأقفلت الباب على دخول العلامة الأب الخوري جرجس منش الحلبي، فكانت كلمته الحكم المبرم، فقضى على صاحبي فليكس. (نصير ٢١٨).
منذ أشهر قلائل لم أعرف بمارون أفندي عبود غير مفتكر مجتهد تنبأت له الوصول إلى المحجة، ولكنني لم أحسب قط أن سيثب وثبًا ليقف بغتة بين كبار أدبائنا وأفاضل المفكرين بيننا. هو كاتب «احترموا المعابد» و«المأساة الهائلة». هو منشئ «بين القبور» تلك المقالة الرائعة التي تدل على قوة الإبداع في موضوع مبتذل يكاد ألا يترك مفازًا لجديد.
ومن الغريب أن يكتب مثلها أيضًا بعد عشرين سنة على كتابه «اعترافات فتى العصر» الذي أهداه إليَّ مع كتابيه «زاراتوسترا» و«رسالة المنبر».
وكان لنا صديق كاتب مجيد هو الشيخ شاهين الخازن صاحب كنوز لبنان المرصودة، وكان في تلك الأيام يحث على مناصرة الحياكة الوطنية حتى لبس في ذلك الزمان ثوبًا لا يلبس الحبساء من رهبان لبنان أخشن منه، فقال فيه فليكس أيضًا:
الشيخ شاهين الخازن حامل تحت إبطه مساطر مصنوعات وطنية يعرضها لكل ناظر. قطع صغيرة من حرير الزوق، ونسيج دير القمر، وقد لبس هو نفسه من ذلك النسيج. تلك المنسوجات الصغيرة فيها حياة لبنان، وطالما حامت حولها أقلام الكتاب ولكن لم يقم بيننا غير المتكلمين فقط.
وكان فليكس إذا لم يوفق بمقال لمقتضى الحال ينفحني بقصيدة. إن نثر فليكس أطيب من شعره، وهو محلق في المعاني مسف في المباني واتفاق الأمرين في شعره فلتة. ولكنه في كل ما يكتب يتبع فكرة يحبل بها قلبه وتلدها قريحته، فهو لا يحول عنها ولا يزول. وفي قصيدته «الأحياء والأموات» التي نشرتها في نصير ٢٢٣ يقول في ختامها:
حقق الله رجاءك يا حبيبي. ليت لي إيمانك فلا أحزن عليك كما قال بولس الرسول: إن الذين يموتون بالرب لا ينبغي لكم أن تحزنوا عليهم كسائر الناس الذين لا رجاء لهم.
وإذا فسح لي في مجلس الحياة واستطعت الخروج من عين كفاع فلأزورنَّ قبرك وأضع عليه حزمة من أغصان أرز لبنان وسنديانه وزيتونه، فقد كنت صلب العقيدة والمبدأ، جبار الفكر، مسالمًا تفارق بالتي هي أحسن. إن لم تترك للعربية إلا تجديدك في تفكيرك العذب ورسالة منبرك، وزاراتوسترا نيتشه، لكفاك.
كان فليكس وفيًّا صادقًا، محبًّا لأحبابه جدًّا، غير مبغض أحدًا، وأشهد أني لم أسمعه يذم مخلوقًا أو يسب إنسانًا، بل كان يكتم في قلب قامته المنحنية أشجانًا قلما اطلعتُ على واحدٍ منها.
وقد دفع إليَّ قصيدته «ملام» فنشرتها بعد نقاش حولها بيني وبينه، وخصوصًا حول هذه الأبيات:
أما أنا فما صدقت أن فليكس يقبلها مجعدة، أما هو فحلف مؤكدًا ما يزعم. ولم أعد أراه في هذه الأيام الأخيرة لأرى رأيه فيما اختلفنا عليه، ولكنني واثق أنه كلام شعراء. قد يفعل ذلك إذا انقطع الرزق وضاقت به الدنيا ولم ينفتح له باب فرج.
وآخر ما نشرته لفليكس في «النصير» قصيدة عنوانها «ضلال» وختامها يصح أن يكون شعارًا له:
وهبَّت عاصفة الدستور على البلاد فهللت المملكة العثمانية بعدئذ وكبَّرت، ثم صار كما كتب الأديب الظريف «حداد» صوت الجامعة الغراء، بعد أن تصافح الكاهن والشيخ على المنبر المنصوب في ساحة البرج شرقي المنشية، وخطب الناس يحثون على الإخاء والحرية والمساواة، وصار اسم أنور ونيازي حبيبًا إلى كل قلب، بعد أن زحف أحرار البلاد إلى بتدين مركز متصرفية لبنان على عهد يوسف باشا، فأسقطوا رجال الدور البائد من المير قبلان إلى نصيف الريس إلى … إلى … وعدنا مبتهجين ولكن فرحتنا لم تطل، فعاد هؤلاء إلى مراكزهم، وبعد أن كان يوسف باشا يؤمن على كل «إسقاط» طائعًا، تنمر واحتل أنصاره كراسيهم التي أنزلناهم عنها.
أما فليكس وصديقي الآخر داود مجاعص فاحتلا المنابر من تموز إلى تشرين، يقفان على كل خشبة تنصب فيهزان القلوب ببيانهما وشاراتهما، وقد ذكرني داود إذ كتب إليَّ مرة من ألمانيا بيوم عين المريسة — محلة في بيروت.
وهكذا صار أدب فليكس منبريًّا يهلل له العوام ويرضى عنه الخواص. كان فليكس يحلق كالنسر وتراه العين كبرج فينيسيا المائل إذ يقف في الناس خطيبًا. عاف الكتابة في ذلك الصيف ولم تظهر له كلمة واحدة في «النصير». ثم صار «اتحاديًّا» فأنشأ جريدته لسان الاتحاد، ولكن الاتحاديين لم يقدروه فظل حيث هو، وحل والده المرحوم حبيب محله، فكتب بعض فصول نشرتها في «النصير»، أولها تقديس نظام لبنان، وآخرها حملات على مجلس إدارة لبنان الذي له صلاحية مجلس النواب اليوم.
وفي نهاية عام ١٩٠٨ تركت النصير لأحرر جريدة الحكمة في جبيل — فاضت روحها يوم شبت الحرب الكبرى — وفي هذه الفترة من العمر وفي أيام الحرب لم أر الصديق فليكس، وقد رأيته بعد الحرب فكدت لا أعرفه؛ لأنه كان قد أخذ قسمًا كبيرًا من شاربيه اتباعًا للزي. ثم تلاقينا مرات على غير ميعاد وظللنا على ولاء ووفاء حتى الساعة الأخيرة.
قد تهوسنا كثيرًا عند سقوط السلطان عبد الحميد، وامتلأت البلاد جرائد ومجلات. أما أحلامنا فلم يصح واحد منها، وأذكر كلمة قلتها لفؤاد باشا — الدالي فؤاد — حين استقبلناه على المرفأ استقبالًا شعبيًّا: الاستبداد كالعليق يصعب على الفلاح استئصاله. فضحك لها لأنه كان ظريفًا يحب النكتة، وهو الذي قال له السلطان عبد الحميد: أبو الهدى يبلع السيف. فاستضحك وقال: لا عجب، وزير الحربية بلع الدارعة. فأغضب السلطان هذا الجواب البديهي، فضرب فؤاد باشا كفًّا على رأسه ثنى طربوشه، ثم صدرت الإرادة السنية بنفيه إلى دمشق وبقي فيها إلى إعلان الدستور، فجاء بيروت يلبس ذاك الطربوش المبعوج.
كان فليكس محبًّا ومحبوبًا، وما شبهته إلا بشافليه مانون لاسكو. كانت حياته مأساة مؤلمة لولا ختامها الذي أراحه من عذاب القلب. لقد أكل الحصرم فضرس هو.
هذه واحدة من نكات ذلك الزمان.
كنا ثلاثتنا أنا وفليكس وداود مجاعص، أما الرابع وهو الشيخ شاهين فكان معنا كشاهد زور، كنا في مسرح التريانو، كان موقعه شرقي ساحة البرج محل قهوة الرببليك أو تحتها بقليل، وكانت هناك غانية مغنية راقصة كوحيد ابن الرومي. البنت نمسوية التبعة سحر جمالها بيروت فأقبل على لياليها كبار الموسرين، فاحترنا نحن الأدباء في ذلك العهد — والطفر يعمي البصر — كيف ننعم بجمالها، والجيب فارغ. حضرتني حيلة لا أعدم مثلها في كل ساعة حتى بعد هذا التقهقر الجسماني أو الجسداني كما يقول رجال الدين، فأنكرت أني أفهم العربية أو الإفرنسية، ثم هبط الوحي وتطورت الفكرة فإذا أنا أمير سرياني، فعرَّفوها إليَّ كذلك فهزت المحروسة كتفيها، واشتد بها الفضول إلى سماع اللغة السريانية وأوهمها فليكس أني ذو ثروة جبارة، وكالمرحوم ابن أبي ربيعة أتتبَّع الجمال. صدَّقت المسكينة أني أزجي الليرات التي تكرج على حفافيها لا التي تطير في الهواء. فانجذبت نحوي وألحَّت إلحاحًا عنيفًا استفدتُّ منه قليلًا، ثم تركتنا على أن تعود بعد نهاية الحفلة لتتمتع بفصاحتي السريانية، وفي نيتها أن تتعمق وتغوص في جيبي حيث الكنز الذي لا يفنى، ذاك الذي اختارت مثله المجدلية دون أختها المهتمة بأمور كثيرة.
وكان نصف الليل فما أخلفت الآنسة الميعاد، رأى الناس تلك الجميلة التي تتدلل وتتغنج أمام آل بسترس وثابت وسرسق وبيهم قاعدة حد محرر النصير، فاتجهت الأنظار صوبنا. وكان ترجماني داود مجاعص. تهجى داود الأبجد سريانيًّا فتظاهرت أنني فهمت، وأجبت بالأبانا، ثم تهجى داود هوَّز فأجبته بالسلام عليك يا مريم، ثم … ثم …
وأرادت الست أن تسمع اللحن السرياني فأنشدتها «ميمرًا» من مار أفرام بصوتي الذي جاء ذكره في الكتاب الكريم، ثم آخر من مار يعقوب، فقامت ترقص. ولم أحرمها نشيد الأموات فطفرت الدموع من عينيها فخلت أننا في مأتم، والدفن قد قرب، وسيعقبه «شيل البخور». وأخذت تطرح عليَّ أسئلة غريبة كأنها أحد علماء الأجناس، فيوهمها ترجماني داود أنه يكلمني وهو لم يزد على تهجئة حطي وكلمن وسعفص، وهكذا قضينا سهرة غير قصيرة لم نسقها في خلالها كأس ماء بارد.
ولا تسل كم كانت خيبتنا مرة إذ ودعتها بالإفرنسية وداعًا مقرونًا بعبارات إكبار للطفها، وإعجاب بجمالها الساحر، فاصفرَّت وتبسمت قائلة: أنت وحدك غلبتنا، كنت أخبث وأدهى منا، سأنتقم منك في الليالي القادمة!
فأجبتها: لا يا سيدتي؛ لأنك لا ترينني؛ قليلًا ما أجد في كيسي بدل الدخول.
فأنْستها هذه الكلمة ألمها وامتعاضها، وقالت: تعال على حسابي، شرط أن تفعل ما هو ألطف، فهذه النكتة تزعج، ولا سيما إن عرفت بها زميلاتي.
فقلت: إنك تزعجين بلادًا بأسرها، فما عليك لو غلبك واحد منها وأخذ بثأرهم من دولتك، أنت ما دفعت حق جمالك. أمسيحية أنتِ؟
فأجابت بعبارة التعليم المسيحي بالحرف: نعم بنعمة الله أنا مسيحية.
قلت والمسيح قال: مجانًا أخذتم مجانًا أعطوا، أنا لم آخذ من رأسمالك شيئًا. وإن كنت وثنية فمثلك تذهب إلى الهيكل وأنا ابن بلد أدونيس.
ورأيتها بعد ذلك مرات فكانت تقابلني بابتسامة وهز السبابة، ولكنها لم تعلق على الدبق.
وظل فليكس طول حياته يسألني كلما التقينا: كيف السريانية في هذه الأيام؟ فتنقبض أسرتي وأسرته ونقبع كلانا في الزاوية كالرتيلاء في بيتها تنتظر ذبانة مارقة لتدعوها إليه.