عرائس العريض
١
قرأت منذ أشهر، أن الأستاذ نبيه فارس — الدكتور في الفلسفة — يشكو قلة النقد — النقد الأدبي لا المصرفي — وأنه ملَّ سماع التقريظ والثناء، وهذا عجيب! ومنذ أسابيع أذاع أيضًا الأستاذ سهيل إدريس أنه كاشف الأستاذ عبد الله المشنوق برغبته في أن يكتب، هو نفسه — أي سهيل إدريس — نقدًا لكتابه «أشواق»، بعد أن يئس من النقاد، وما وقع على من يشفي غليله، وهذا أعجب وأغرب! ومنذ أعوام تحدث أحد المحترمين في دنيا الأدب عن الصلة الدقيقة بين النقاد والمؤلفين فقال: «وأي مؤلف لا يكره أن يتناول النقاد جهده ونتيجة جهده بالنقد فيبينوا ما فيهما من ضعف ويدلوا على ما فيهما من قصور؟! كلنا يحب الثناء ويعتقد أنه مستحق له، وكلنا يكره الذم ويعتقد أنه خليق ألا يتعرض له. ولكن شيئًا ينقصنا مع هذا وهو أن نقدر العلم قدره. ونؤمن أنه لا قوام للعلم بغير النقد. ولا أكاد أفهم أن رجلًا يستحق أن يوصف بأنه عالم أو أديب أو من طلاب العلم والأدب إذا لم يكن يقدر النقد وحاجة العلم والأدب إليه.
يقدر النقد لا على أنه ثناء خالص، ولا على أنه هجاء خالص، إنما ينبغي أن يقدر النقد على أنه تمحيص للعلم، ودلالة على ما فيه من حق يجب أن يبقى، وباطل يجب أن يزول، أو قل على ما تعتقد أنه حق أو باطل. ولست أدري لم يؤذيك أن يدلك ناقد على أنك أخطأت وأنت لم تأخذ على الأيام عهدًا بالإصابة المطلقة. ولست أدري لم تحرص على أن يصفك الناس بأنك موفَّق للحق أبدًا، ولم يُقَدَّرْ هذا التوفيق لإنسان ما …»
ومن حسن الحظ أو سوئه، لست أدري، نقدت هذا الأديب الخطير، نقدًا استمر أكثر من سني فرعون العجاف، فكان أمري معه كقصة «بسينة» الحداد. إن هرة الحداد تنام ملء عينيها بجانب الكير، ولا يوقظها النفخ ولا تصادم العلاة والقدوم — المهدة والسدان — حتى ولا الشرر المتطاير عند تطريق الحديد وإن حرق صوفها. كل هذا الطرق العنيف لا يزعج الهرة ولا يوقظها. ثم لا يكاد الحداد أن يمد يده إلى الزاد حتى يرى هرته قعدت حده تتحسس به وتتمسح تنبيهًا له إلى واجبه نحوها، وإن تغافل حدثته بلسان القطط.
وصاحبنا الأديب العظيم نام على النقد الصارم، عشرًا من قرن، لا يحس ولا يطس، ولما أثنينا عليه تثاءب وتمطَّى، وشكرنا شكرًا حارًّا لا نستحقه، ودعانا إلى مأدبته، بهشاشة وبشاشة. ولكن ظهور «الرءوس» أطاح بتلك المودة الأدبية.
والآن وقد نزلنا إلى ميدان النقد فسنفي أصحابنا جميعًا حقهم منه. ليس نقدنا أكلة طيبة لنعدهم به، ولكنه سفرة فيها المر والحامض، وفيها الحلو والمز، وفيها الحريف من البهارات وكل ما تحتاج إليه السفرة من مقبلات. سمها سفرة مقتضى الحال، وإذا شئت، عملًا بقول المثل: ما تضعه في القدر تشيله في المغرفة. هو مرآة ينعكس عليها صورتا المؤلف والناقد.
أقول هذا وأنا واثق من أنني سوف لا أرضي أحدًا. وسوف أزيد على جدول أصحابي في «الرءوس» و«على المحك»، و«زوبعة الدهور» وغيرها أسماء جديدة. ولكنني رجل لا أبالي، فإما أن أسكت — كما سكت — وإما أن أنطق ولا أقول إلا ما أعتقد. وحسبي في خطئي أني معتقد الإصابة.
•••
والآن فلنبدأ.
أمامي ديوان شعر عنوانه «العرائس». لو أطلت علينا هذه العرائس، في غير هذا العهد من العمر، لكان لنا معها شأن غير الشأن الذي ترى. الديوان للشاعر إبراهيم العريض من البحرين، حيث تكثر اللآلئ، فعسى أن تكون عرائس شاعرنا البحراني حالية غير عاطلة، لترتاع في «وادينا» وتلمس جانب العقد النظيم. أصدرت هذا الديوان دار العلم للملايين. وهذه الدار، على حداثة عهدها، كالجرادة خصبًا؛ تفقص عن ألف ومية، وتقول يا قلة الذرية! إن دار العلم للملايين كحرب بن أبي سلمى تلقح كشافًا ثم تنتج وتنئم، فلها منا جزيل الشكر وعاطر الثناء. أما شاعرها العريض فقد عرفنا به الأستاذ الحوماني فقال إنه رأى شابًّا وسيمًا حدثًا حين دخل عليه، أما نحن فنقول:
قلت هذا لأن الشاعر «الحدث الوسيم» جعل فاتحة ديوانه بيتين أولهما:
ثم نقلب الورقة فيطل علينا موكب الشبان فنقرأ بعد الولع بحميد الذكر ولعًا عامًّا:
سنأخذ نحن هذه الأحاسيس عن جدتنا حواء — بعد استئذان صديقنا الحوماني صاحب هذه الماركة المسجلة — فاسمع يا شاعري إبراهيم:
أبياتك لا تبلغ أصابع اليد عدًّا، وهي أم كتابك، فما عذرك يا صاحبي، حتى تقول «لونًا فلونا»، ويأتي «القرار» بغيضًا إلى الأذن؟ ثم لماذا لم تكلف نفسك قليلًا من الجهد الفني لتقول «نفسينا» بدلًا من «نفوس كلينا»؟ إن إضافة نفوس إلى كلينا الشنيعة يحتج عليها الفن احتجاجًا صارخًا يا صديقي، فكم نفسًا لكما، أنت وهذه الحواء الجديدة؟ ألا تحس مثلي أن «كلينا» أكلة تسمم دم الفن؟!
لو لم تكن «شابًّا حدثًا وسيمًا» لما كلفت نفسي نصحك، فأنا أرجو من الشباب خيرًا كثيرًا، أما من بلغوا من العمر عتيًّا فنقدهم ضرب من العبث.
وقبل — بدلًا من بعد — فإني سأبدأ نقدي حيث انتهيت أنت؛ لأنني رأيت آخر ديوانك خيرًا من أوله.
إن «قصصك» أبلغ وأروع من «غنائك» فاسمح لي أن أبدأ بها لئلا أنفرك، وأنفر القارئ مني. فأنا متهم بالتفتيش عن السيئات.
لقصص العريض توطئة لا هي طويلة ولا عريضة، مآلها أن حواء النابغة الجزيلة الاحترام هي منبع الفن الذي عبده إبراهيم صغيرًا. ما شك أبدًا، كسميه إبراهيم الأول أبي الآباء بل قال:
ثم يمضي في قصصه الشعرية فيواجهنا بنظم قصة من أساطير اليونان عنوانها: «التمثال الحي». القصيدة حكاية فتاة فقيرة — حلوة — مات أبواها وأخوها. خرجت إلى جار فنان أشيب مثلي، تطلب منه خبزًا، فنشد عندها فنًّا، فجردها وأكب مفتشًا عن الطرف الفنية في ذلك الجسم الجوعان، وقف المصور يرسم، والفتاة تنطوي أمامه انطواء الشنفرى على الجوع، فترى عينه الفنية، في كل انطواءة فلتة تمجد الخالق، فما تنفس الصبح حتى تمَّ التمثال، وماتت الفتاة بعدما خلدها أزميل النحات.
إن حكاية «التمثال الحي» هذه من شعر العريض الرائع، بل من الشعر الرائع، فيها من القصص المؤثر ما يبكي، وللشاعر فيها وثبات منها قوله:
يذكرني قوله هذا كلمة قالها شاعر لا أذكر اسمه، في وصف ساق حسناء: وقامت الحرب على ساقها.
والشاعر موفق أيضًا في «قلب راقصة» التي أهداها إلى روح الرافعي. كلاهما مأساتان، وأكاد أقول: إن أغلب عرائس العريض عرائس بلى.
وفي هذه العروس — قلب راقصة — معانٍ من الجمال كادت أن تكون رائعة لو تأنَّى مبدعها. ليت مخيَّلة العريض لم تطرح هذا الجنين في الشهر السابع؛ فهذه الصورة مثلًا:
فكرة طيبة، ليت شاعرنا صبر عليها لتخرج أروع، وتحتفل كلمة «احتفال» احتفالًا تامًّا بما فيها من معنى.
وهناك صورة أخرى فازت بقسمة غير ضئزى من التعبير الرمزي وهي قوله:
والذي ألاحظه أن العريض كثير التغني بالرمان، فكأنه ممن يحبون هذه القمم البركانية حتى أكثر من وصف هذه الصورة في ديوانه.
أما «إنسان الحي» التي عرفنا بأنها «من صميم الصحراء» ففيها قلة خيال وتصوير، وفيها كما في الديوان كله، عبارات لا تليق بالنثر الأنيق فكيف بالشعر؟ قد تكون هذه العبارات التي أتعثر بها في طريقي أثناء جولتي في ديوان إبراهيم مسببة عن القص، ولكن كان في الإمكان أكثر مما كان كقوله مثلًا: «أفيلقى لغيرها باله …» وكقوله: «فارتمت في ذراعه …» وقوله: «وكل سلك الدر»، وقوله: «أو ما هو في فؤادها هي أيضًا» — وأعوذ شيطان الشعر من أيضًا — وهو لا يتجنب غير المأنوس والخطأ كقوله: «وتوالت على لقائهما عشرون يومًا»، وكقوله: «فتسقط بين أحضان ابنها الثاني»، فكم لهذا حضن يا ترى؟ وكقوله بلسان بنته ليلى:
هذا حق وقد قالوا قديمًا: كل فتاة بأبيها معجبة. وأنا أشاركها قسمًا من الإعجاب لا كله، وأتمنى على الصديقين البعلبكي وعثمان حذف الياء من «أبت» في الطبعة القادمة.
ومثل «من صميم الصحراء» قصيدة «بين عشية وضحاها» التي عدها العريض «من أصداء البحر». توقعت إذ قرأت عنوانها ما توقعه الصاحب بن عباد من عقد ابن عبد ربه، ولكنني لا أقول مثل الصاحب: «هذه بضاعتنا ردت إلينا.» بيد أنني لا أكتم العريض أنني توقعت أن أرى فيها لونًا محليًّا صحراويًّا لا عهد لي به، فإذا بي أقرأ شعرًا لم يختلف عن الدواوين الأخرى، إلا بغلبة القصص، وهذا ما نحمد الشاعر عليه. ليته لم يأخذ مواضيعه من الأساطير، ليته أرانا من قصص بلده ما يروي غليلنا. فهو في هذا أشبه بشعراء لبنان المبدعين الذين جعلوا وكدهم بنت يفتاح وعشتروت وعرائس شعرية أخرى.
أما قصيدة «الشاعر المجهول» وهي معنونة «بين الروح والمادة» فحكاية طيبة نظمًا وفكرًا، تشينها بعض تعابير ساقطة عن مستوى الديوان، وهي تدل على قلة صبر، كما قلت سابقًا، كقوله: «شاعر نجهل اسمه بالسوية.»
قد لفتت نظري في هذه القصيدة فكرة هي السائدة في ديوان العريض، وهي فكرة تمجيد الفن وتقديسه وتعمد الخلق والإبداع حتى يقول لنا:
إن في هذه الأبيات فكرة «الشوق» التي جعلتها الأسطورة الفينيقية أساس الخلق وسببه، ولكن تعبير الشاعر عنها بقوله: «بدافع من وداد» قلل من قيمة هذه الفكرة، كما قلَّل قوله من:
ففأفأ من حيث لا يدري، ثم لم يحسن التعبير عن الأنوثة الصاخبة في جسد إحدى عرائس فنه. العريض يحلم بالفن الأسمى ويسعى لإدراكه، ويخبرنا أن يد الله «تغالي في الإيجاد» وهو لا يدري لإعزاز من … مع أنه سبحانه وتعالى، أمدنا برأس المال، ونحن أي البشر نغالي في الإيجاد. فلا نكن معنى معادًا كما يتخيل الشاعر بل كل الشعراء. علينا نحن أن نغالي في الإيجاد، لإعزاز جنسنا الخلاق العجيب. الرب استراح من جميع أعماله في اليوم السابع. أما اليوم الثامن، وهو يوم الإنسان الطويل العريض، فلا ينفد إلا بنفود المادة الأزلية التي يتدبرها العقل الإنساني فيَخلق منها في كل يوم جديدًا.
٢
وقد أعجبني جدًّا ما قوَّله بطلة «بين عشية وضحاها» تبكيتًا لأختها:
لقد أدرك هذا جبران، وجهله نعيمة، فأجهد نفسه في كتابه «جبران خليل جبران» ليكشف عن سوأة أخيه. إن العورة التي أماط عنها ميخائيل اللثام هي خميرة الأدب الجبراني، فجبران فينيقي المعتقد، «الشوق» فالحب عنده قوام الحياة، لا يرى ما يراه نعيمة خطيئة مميتة. لا يعشق جبران الحياة عشقًا صوفيًّا، بل يحب الجسد النابض، ولا يفهم الآية الإنجيلية: «سراج جسدك عينك فإن كانت عينك شريرة كان جسدك كله مظلمًا» كما يفهمها غيره، ولذلك بنى كتابه على «المحبة» ولا يعني غير المحبة التي تربط الذكورة بالأنوثة.
ثم يصف لنا العريض البحر وما فيه من نشوة للعذارى فيجيد. ويصف تراشقهن بالماء خاتمًا تلك الصورة بقوله:
الفكرة جميلة لو أخرجت إخراجًا غير منقوص، ولكنها كخمرة عُملت من عنب قطف ولما ينضج، فقضت فجاجتها على نكهتها وطعمها.
وهناك قصة «التوءمان» وهي كأخواتها جودة وحسنًا، فنشكر للشاعر حبه للفن وإخلاصه له، وننصح له أن يحسن انتقاد شعره ليسلم من الطفيليات الشائنة. إن الشاعر كالرسام، فكما يعني المصور انسجام ألوانه كذلك يجب على الشاعر أن يراعي حسن الجوار بين ألفاظه، وإذا اضطر فليلجأ إلى «تبادل السكان» فتأتي قصصه مخلوقة في أحسن تقويم.
أما «أسطورة الخيام» فقصيدة جيدة النظم لا غبار عليها. إنها خالية من تلك الزنمات: كلينا، وكل، وأيضًا، وريثما … إلخ. القصيدة منسجمة متساوقة رخيمة الجرس. هي «موديل ١٣٥٩» أي آخر ما أرانا الشاعر من إخراجه، فيصح فيه قول الشاعر:
فإلى العريض تقديري، فلو لم أرج منه خيرًا لما نقدت ديوانه بهذه العناية، فأرجو ألا يغضب كسواه.
يا أخي إبراهيم.
حسبي أني جزت ديوانك من بابه إلى محرابه، ولم أدع مغرز إبرة إلا أولجت فيه مسبري، لأغنم رضاك، فلا تجعلني «مركوبًا» في طريقك إلى المجد كصاحبنا النجفي، ولا تكن راغبًا عن «نقدي» يا إبراهيم، فأنا لا أقتضيك ابنًا ولا كبشًا لأرضى، لا أسألك إلا أن تصبر طويلًا لتبلغ ما تروم من الفن، فقصيدة سمينة خير من ألف هزيلات لا تصلح لا للمسلخ ولا للمرعى.
أما «لؤلؤة الحب» التي أخذها «ولز» الكاتب الإنكليزي عن أساطير الهند، ثم أخذها العريض عنه بتصرف، فإنني أحيلها على زعيم المدرسة الرمزية الشاعر سعيد عقل فهي كما قدم لها ولز: «رمزية كثرت في مغزاها الأقاويل وذهب رجال اللاهوت فيها مذاهب شتى.» والرمزية قديمًا واللاهوت حديثًا من اختصاص شاعرنا السعيد. أما أنا فإنني من أصحاب الرأي الأخير الذي ترجمه لنا العريض عن ولز: «وهناك غيرهم من لا يرى فيها إلا الحقيقة عارية من كل لبوس.»
وقبل أن نعود القهقرى، إلى «غناء» العريض الذي أرجأنا التحدث عنه، نتمنى للعريض توفيقًا طويلًا عريضًا في ملحمته «قبلتان» التي نشرتها دار العلم للملايين. وإني ألفت نظر الشاعر إلى «الحوار» فليقرِّبه ما استطاع من لغة الحياة، اللغة التي تجري على ألسنتنا، فالتعابير القديمة أصبحت فقيرة الدم لا تنبض لتنبض لها القلوب. اقرأ كتاب الله يا أخي، ففيه، وحده، الكلام الحي الباقي.
أما غناء «العريض» فكغناء كل شاعر عربي: إشراق، وتحيات ولوعات، وحسرات، ونار في الحشا تلتهم الأخضر واليابس، وغيرة مثل غيرة إيلياء حين خاطب ربه قائلًا: غيرة بيتك أكلتني، كما نقرأ في أولى أغنياته وعنوانها «حواء» ففي مطلعها:
وحواء عند الفنان العريض غاية الغايات، ولب الوجود وزبدته:
ثم يقول لها ولها … حتى يبلغ:
إن الطوفان في نظري محتاج إلى مثل التي استوت على الجودي أو إلى قارب نجاة على الأقل أكثر من حاجته إلى منارة.
القصيدة موسيقية، ولكن نايها أصبح «نائي» مراعاة للقافية، وهذا يغيظ، لا بل يبج صدر الفن الذي نذر العريض نفسه له. أما قصيدة «إلى …» فمطلعها جميل:
وأظن أن الشاعر أراد «طلة» ليشرب الزهر الناشئ الطري مثل صاحبنا «الحدث الوسيم». وفي القصيدة زنمة كان البتر بها أولى، فاللام المبنية القصيدة عليها مشددة كلها، إلا قوله «هوى له» والذوق الفني يقضي بإقصاء هذه القافية وإن كانت جائزة؛ إذ ليس كل جائز بفن. أما قصيدة «مي» التي صنعها المعمل في أول نشأته عام ١٣٥٣، فهي من نوع الحكي لا الشعر، وإليك نموذجًا:
لقد أكثر فيها من «كلانا وكليهما وبعض» ثم مهرها ﺑ «عندئذ» التي هي أشنع من «أيضًا» الملك الذي ختم به الشعر، وأبشع من «لا سيما» الملك الذي بدئ به. ناهيك أن شاعرنا لحن في «كلانا» إذ قال: أيقنت أنا شيقان كلانا. ظنها توكيد شيقان، وهي توكيد الضمير المنصوب فيجب أن تكون كلينا. و«كلانا» كيفما دارت بها الحال، سواء ألحن فيها أم لم يلحن، بشعة في النظم. أما ختام هذه القصيدة فختام فيه «زخم». بمثل هذا الزخم أتمنى أن ينتهي كل فصل من الكلام شعرًا كان أم نثرًا، فاسمعه لعلك تشايعني في هذا الرأي:
وعندي لو يقول: «هو الراح» بدلًا من «بل الراح» لأراح نفسه ولم يعارض سياق الكلام بهذه اﻟ «بل» التي تكثر في شعر العريض.
وفي «نشوة الحب» يرجع بنا الشاعر إلى «لونًا فلونا» و«كلينا»، ويختم المقطع الأول منها ﺑ «زينا»، وهي بلدية عراقية يشينها قعودها حيث أجلسها الشاعر.
وقلة جلد الشاعر حملته على قوله: «حبي إليك» بدلًا من «حبي لك». أما قصيدة «بيني وبينها» فتسير الهوينى لا ريث ولا عجل، وقد أعجبني منها بيت لعله قام لي حجة دامغة على ما زعمت للشاعر قال:
صدقت يا صاحبي، ولا ينقذ موقفك إلا درهم صبر وبضع قمحات عناية. ولو باليت حقًّا بالفن الذي تقول إنك تتعشقه لتركت «خرط القتاد» التي قالوها عندما كانوا حفاة. أما اليوم فلا يهمنا «القتاد» وغيره من الأشواك وعندنا هذه البوطات الإنكليزية الأميركية.
أما في «القبلة الأخيرة»، وقد كان يجب أن تكون غاية في الرقة، فرأيت فيها تعابير لا أرضاها للنثر فكيف بالشعر، كقوله: «وكانت هي الأخرى كثيرًا وجومها». وكقوله: «تزكيه أحدان الدموع وتومها»؛ فما أكره من أحدان إلا تومها التي تنبعث منها رائحة الثوم والكراث! إن الفن لا يطلب من تاج العروس ولا من محيط الفيروزابادي. إن الفن يمحص، ولا يقبل غير الألفاظ الملائمة من الصحيح، فما كل كلمة صحيحة تصلح حجرًا في مدماك «البنيان الفني». أجل إن إخراج المعنى يعيي شاعرنا، أحيانًا، فيتضاءل — كقول أبي تمام — كتضاؤل الحسناء في الأطمار. فهذا الشاعر العاشق — كما عشقنا وعشق ويعشق غيرنا — يرى الحنين والشوق في كل شيء من الطبيعة، يراه حتى في الموج، ثم يتخيله، ولكنه لا يجلو خياله فتتعاظل ألفاظه — مراعاة للنظير — كتعاظل الأمواج فيركب بعضها بعضًا. قال:
رحم الله الكاتبة مي، فإنها عندما عنست «هسترت» كانت لا تطيق التفريق بين فردتي حذائها، ولا فصل قشتي كبريت جمع بينهما الفسفور الأحمر. إن المحب الملهوف يرى كل شيء في عناق حتى فردتي الحذاء.
وفي «صورتان» صورتان جميلتان، هما من الشعر الطيب فكرة وتعبيرًا، ومثلهما وصف «القبرة». قد أعجبني التغزل بهذا الطير الذي سبب حرب البسوس فأفنت تغلب وائل. يحس الشاعر حسًّا قويًّا مع هذا الطائر القليل الحظ من رخامة الصوت، فيصف لنا الشاعر نفسه فيقول: وهذا هو الشعر الرومنطيقي الخالص:
أما معنى البيت الأخير فهو غلو شعري متطرف بالنسبة إلى القبرة، فما ترك صاحبنا للطيور الراقية المثقفة؟ فإذا صلحت القبرة رسولًا فما يكون الكناري والحسُّون؟ ولكنني أقدِّر هذا الجمال الفني، وما الصور الفنية إلا تمويه وغلو وإيغال. ولا أدري أين قرأت في الآداب الأجنبية شعرًا في هذا الطائر.
أما أوزان الجموع غير المألوفة مثل «اللحون» و«تومها» وما شابههما فلا تعجبني موسيقاها، وأنصح للشاعر أن يتبع المألوف منها فليس كل ما يجوز بصالح للفن الشعري كما قلنا.
أما «عروس الماء» فصورة سبق إليها من ضيع ملكه، كما يروون. ذاك الشاعر الجاهلي لم يشبعه الواقع بل ألحَّ على صاحبته وما انفكَّ عنها حين صاحت به: عقرت بعيري يا امرأ القيس فانزل. أما العريض فتكفيه لذة النظر. يصف لنا ذلك المشهد الطريف الذي رآه ولو كان من أصحاب مدنية البحر المتوسط لاشترك في معركة السباحة وعلى الحياء السلام. ولكن العريض من عشاق الفن للفن ليس إلا. فما قدَّر لعروس الماء أن ترى شاعرها الهائم حتى تستفز فيقول فيها:
لقد أحسن شاعرنا الختام، أحسن الله ختام حياته الفنية.
وفي عيد الميلاد ينظم صاحبنا «قلادة» هي قلادة حقًّا، وخير ما في هذه القلادة هاتان الحبتان:
لقد صدق السيد حين قال: إن حبة الحنطة إن لم تمت لا تعش. وفق الله شاعر البحرين، وبلغه من الفن أقصى أمانيه.