العولمة
في عصر الاتصالات الإلكترونية التي لا تعرف الخصوصية، يغدو «الحاضر» فترةً زمنية ممتدة، قد تتسع — بل لا بد لها أن تتسع — لتشمل الأحداث حول العالم (كيرن، ١٩٨٣).
يرجح أن المؤسسات الإخبارية هي الأقل ظهورًا بين المؤسسات الإعلامية كافةً. ولأنها أدارَتْ أنشطتها بالماضي كشركات بيع بالتجزئة تبيع الأخبار لوسائط أخرى، فكثيرًا ما تُغفَل أهميتها، وهي بالأساس جزء من عملية إضفاء المهنية على الأخبار في القرن التاسع عشر، عندما أضحَتِ الأخبارُ سلعةً متداولة عالميًّا. ستبدو في الواقع وسائلُ الإعلام الإلكترونية، بما فيها المؤسسات الإخبارية، مثالًا رائعًا يُضرَب للمؤسسة الحديثة التي وصفها جيدينز بأنها «قادرة على الوصل بين المحلي والعالمي على نحوٍ لم يكن بالإمكان تصوُّره في المجتمعات الأكثر تشبُّثًا بالتقليدية، وهي تؤثر — بتحقيق ذلك بصفة معتادة — على حياة الملايين من الأفراد» (جيدينز، ١٩٩٠).
من المفارقات أن واضعِي النظريات عن العولمة في أعمالهم قد أقرُّوا وأغفلوا في الوقت نفسه الدورَ الذي لعبته المؤسسات الإخبارية في تاريخ العولمة؛ فأغلبهم يشير إلى الدور الذي لعبته وسائل الإعلام الجماهيرية في عملية العولمة، فيما يغفلونها في الوقت نفسه من جانبين على أقل تقدير؛ فأولًا: ينصَبُّ اهتمامهم بالدرجة الأولى على الحاضر، بينما يتجاهلون تاريخَ العولمة الثقافية. وثانيًا: يشدِّدون — كنتاج لهذا — على أهمية الدور الذي لعبته وسائل الإعلام الحديثة في العولمة، ولا سيما التلفاز.
من الواضح — كما كتب جيدينز — أن انتشار مؤسسات العصر الحديث على مستوى العالم كان سيغدو مستحيلًا لولا جمع المعارف، ممثلًا في «الأخبار» (جيدينز، ١٩٩٠). وقد كانت وكالات الأنباء هي أولى مؤسسات وسائل الإعلام الجماهيرية الإلكترونية التي بدأت ممارسةَ نشاطها على مستوى العالم في النصف الأول من القرن التاسع عشر، أما إقدام الباحثين من خارج أوساط الدارسين للاتصالات على التجاهل شبه التام لوكالات الأنباء مع ذلك، فيرجح أنه يرجع إلى عدم وضوح التطور التاريخي الذي شهدته، حتى للباحثين في حقل الاتصالات.
لم نشهد إلا في سبعينيات القرن العشرين انتشارًا وجيزًا للدراسات عن وكالات الأنباء. ويقسِّم بويد-باريت (١٩٨٦) الدراسات التي أجريت على وكالات الأنباء وفق ثلاثة مناهج: (١) تحليل محتوى الأخبار. (٢) دراسة الهيكل والوظيفة. (٣) دراسة تاريخ تطور وكالة الأنباء. وقد شارَكَ كلٌّ من هذه المناهج بإسهام في دراسة العولمة، ومع هذا لا يفي أيٌّ منها على نحوٍ مُرضٍ بأغراض هذا الفصل؛ فالفئة الأولى من الدراسات، تحليل المحتوى، تعود إلى أوائل خمسينيات القرن العشرين («ذا فلو أوف نيوز» ١٩٥٣)، ويمكن وصفها بأنها دراسات لحركات تدفُّق الأخبار، وقد أوضحَتْ هذه الدراسات أن الأغلبية الساحقة من الأخبار العالمية تتدفَّق من الشمال إلى الجنوب، ومن الغرب إلى الشرق، وتنتجها أربع وكالات عالمية كبرى، هي: وكالة بريتيش رويترز وأسوشيتد برِس الأمريكية ووكالة يونايتد برِس إنترناشونال ووكالة فرانس برِس الفرنسية، واستُخدِمت كثيرًا مصطلحاتٌ مثل الاختلال والتبعية لوصف العلاقة بين الوكالات العالمية والمحلية (ماكبرايد، ١٩٨٠).
الفئة الثانية من دراسات وكالات الأنباء، وهي دراسة الهيكل والوظيفة، يمكن أن تندرج إلى حدٍّ كبير تحت منهج الاقتصاد السياسي لوسائل الإعلام، ويؤكد الاقتصاد السياسي الذي تشكِّله الاتصالات والثقافة — كما كتب جارنهام (١٩٩٤) — على أنه يدخل في كل صور الاتصال الوسيطة استخدام عدد محدود من الموارد المادية؛ بعبارة أخرى إنَّ فهْمَنا للعالم، وتباعًا فهْمَنا لقدرتنا على تغييره، سيتحدَّد بالطرق التي يتشكَّل بها الوصول إلى هذه الموارد المحدودة والسيطرة عليها. من هنا انصبَّ اهتمام أغلب دراسات الاقتصاد السياسي لوكالات الأنباء على ملكيتها واقتصاداتها، وقد امتزجت في بعض الأحيان بتحليل محتوى الأخبار الذي تقدِّمه وكالات الأنباء (على سبيل المثال: هاريس، ١٩٧٧).
تعود جذور الفئة الثالثة من الدراسات، التي ينصَبُّ اهتمامها على التطور التاريخي لوكالات الأنباء؛ إلى أوائل القرن العشرين، وقد شكَّلَها بالدرجة الأولى عددٌ كبير من تواريخ المؤسسات بذات الشركة. وإحدى الدراسات الأكاديمية الشاملة النادرة لمنظومة الأخبار العالمية بالقرن التاسع عشر أطروحة جونيلا إنجمار في ١٩٧٣. كانت أطروحة إنجمار أول عمل أكاديمي يتناول الاتفاقيات المبرمة بين وكالات الأنباء بالقرن التاسع عشر، وهي تسلِّط الضوءَ أيضًا على دور الحكومات القومية في تشكيل منظومة الأخبار العالمية، غير أن الكثير من أبحاث العلوم الاجتماعية تتسم بالتسليم بحتمية تاريخية إلى حدٍّ واضح ومؤسِف؛ ومن ثَمَّ أسهم هذا المنهج في إضافة بُعْدٍ تاريخي مهم لأبحاث وكالات الأنباء.
كلٌّ من المناهج الثلاثة التي عرضتُها لدراسة وكالات الأنباء تتميَّز بالطبع بمواطن قوة خاصة بها في تحليل عملية العولمة، غير أنها أغفلَتْ كذلك بعضَ الأبعاد الهامة؛ إذ تفتقر دراسات حركة تدفُّق الأخبار للمفاهيم النظرية المترابطة وتصبُّ اهتمامها على محتوى الأخبار. أما الدراسات التي تُعنى بالاقتصاد السياسي لوسائل الإعلام فقد صبَّتِ اهتمامها بالدرجة الأولى على ظروف إنتاج الأخبار المعاصرة والهيكلين الاقتصادي والسياسي الأوسع للمجتمعات. أما المنهج التاريخي في دراسات وكالات الأنباء فسلَّطَ الضوءَ بالدرجة الأولى على شركات بعينها.
وقد أشار شليزينجر (١٩٩٥) إلى أن الدراسات التي تتناول تاريخ وسائل الإعلام تهتم عمومًا اهتمامًا جمًّا بتبيان الكيفية التي تسهم بها المؤسسات الإعلامية في تشكيل الثقافة القومية والاقتصاد والحكومة. وقد تزايد الإقرار بالإطار العابر للقوميات — بل العالمي أيضًا — للتحليل الإعلامي، لكن من المؤسف أن الدراسات التاريخية لوسائل الإعلام لم تتطرَّق للأبعاد العالمية لتطوُّر وسائل الإعلام.
لا يشكِّل أيٌّ من المناهج المذكورة أعلاه منهجًا كاملًا وافيًا لإجراء دراسة من المنظور التاريخي لوكالات الأنباء وعملية العولمة، والمطلوب هو تجاوز الحدود القاصرة على حقول دراسة بعينها؛ تلك الحدود التي فصلَتْ بين المناهج البحثية المختلفة لدراسة وكالات الأنباء؛ فالفصل بين دراسات وكالات الأنباء وتقسيمها إلى حقلَيْ دراسة منفصلَيْن كما أوضحت في أعمالي السابقة — إلى دراسات تعنى بالاتصالات الدولية ودراسات تعنى بتاريخ الصحافة — قاد إلى تشكيل مفاهيم خاطئة عن أنشطتها (رانتانن، ١٩٩٢). من المستحيل دراسة وكالات الأنباء على أنها مؤسسات إعلامية عالمية تبيع الأخبار لا لشتى وسائل الإعلام فحسب، بل لشركات الأعمال والمصارف والحكومات أيضًا، دون أن تلتقي الحدودُ الفاصلة بين حقول دراستها بعضها ببعض. ولا يمكن فهم طبيعة وكالات الأنباء بالنظر إلى محتوى الأخبار أو من حيث اقتصاداتها السياسية أو تاريخ مؤسساتها، بل يجب لفهم طبيعتها المعقدة تبنِّي منظور شامل، يلتقي به مختلف المناهج القائمة، يدرج وكالات الأنباء في سياق عناصر العولمة المختلفة كالتسليع، والتركيب الوطني والدولي، والزمان، والفضاء والمكان. ولم يفلح أي من المناهج المطروحة هنا في الجمع بين هذه العناصر، مع أن جميعها تسهم في فهم الكيفية التي تتحوَّل بها الأخبار إلى سلعة في تجارة عالمية.
(١) الأخبار كنشاط تجاري
طالما تبادَلَ الناس الأخبارَ متى اجتمعوا، وقد كتب ستيفنز (١٩٨٨) أنه نشأت بالأسواق بين الأخبار والتجارة علاقة تكافلية؛ أما الأخبار فتساعد التجار في الأسواق على تخطيط استراتيجياتهم، وأما السلع المتداولة هناك فتجذب الزبائن، ومن ثَمَّ تجذب الأخبار. إذن نشأت العلاقة بين الأخبار والسوق في مرحلة مبكرة جدًّا.
كتب بينيديكت أندرسون (١٩٩١) أن الكتب كانت أولى السلع الصناعية الحديثة المنتجة على نطاق واسع، ويرى أن الكتب يمكن مقارنتها بأوائل المنتجات الصناعية الأخرى التي يمكن قياسها بكميات رياضية كالرطل أو الشحنة أو القطعة، مثل المنسوجات والطوب اللبن والسكر، كما يرى أن الكتاب هو سلعة منفصلة مستقلة يعاد إنتاجها بالصورة نفسها على نطاق واسع، وهو في هذا كان مبشرًا بالسلع المعمرة في زماننا، ويذكر أن الصحف ليست إلا «صورة استثنائية» من الكتاب؛ هي كتاب يمكن أن يباع على نطاق ضخم لكن يتمتَّع برواج سريع الزوال.
شهد القرن التاسع عشر تحوُّل الأخبار إلى سلعة تجارية، فيشير بالداستي (١٩٩٢) إلى أن محرِّري الصحف الذين ناصروا حزبًا ما نظروا إلى قرَّائهم باعتبارهم ناخبين، وبنهاية القرن لم يَعُدِ المحررُ والناشر ينظران إلى القارئ كناخب فحسب، بل كمستهلك أيضًا؛ ومن هنا وُلدت الصحيفة «الحديثة» بكثير من البلدان بحلول النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وقد عرَّف جروث (١٩٢٨) الصحيفة «العالمية» بأنها: (١) صحيفة تُنشر بصفة دورية. (٢) طباعتها مميكنة. (٣) تتاح للعامة. (٤) تتسم بمحتوًى شامل جامع. (٥) يحمل محتواها أهمية عامة. (٦) تضم معلومات عن الأحداث الحالية. (٧) يجري تشغيلها كنشاط تجاري. في هذا الصدد كتب هابرماس (١٩٨٩) أن تاريخ كبرى الصحف اليومية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر يُثبِت أن الصحافة في حدِّ ذاتها باتَ بها من التلاعب إلى درجة أن «اصطبغت بطابع تجاري»؛ ومن هنا تغيَّرت العلاقة بين الناشر والمحرر، وأضحى عمل التحرير متخصِّصًا تحت ضغط نقل الأخبار بتقنيات فنية متطورة، وأمسى تحرير الصحف عملًا صحفيًّا بعدما كان عملًا أدبيًّا (بالداستي، ١٩٩٢). أما شودسون (١٩٧٨) فكتب أن الصحف حتى ثلاثينيات القرن التاسع عشر خدمت الأحزاب السياسية ورجال التجارة؛ إذ باعت — مع «الصحافة الرخيصة» — منتجًا لجمهور قرَّائها بوجه عام من ناحية، ومن ناحية أخرى باعت جمهور القرَّاء لشركات الدعاية، والمنتج الذي باعته للقرَّاء هو «الأخبار».
مع أن اكتساب الأخبار لطابع تجاري بدأ متزامنًا بالعديد من البلدان، فقد أغفل الباحثون دورَ «وكالات الأنباء» في عملية تحوُّل الأخبار إلى سلعة عالمية تُباع وتُشترَى على نطاق جماهيري؛ فيشير هابرماس (١٩٨٩) إلى مجانسة الأخبار على يد الوكالات الصحفية التي يسيطر عليها التنظيم الاحتكاري، لكنه لا يلتفت فيما عدا ذلك إلى وكالات الأنباء. أما شودسون (١٩٧٨) فيقرُّ أولًا بأن ظهور وكالة أسوشيتد برِس يفسِّر على نحو واضح سببَ تحوُّل الخبر بمجرد ظهوره إلى «خبر واقعي تمامًا غير منحاز»، لكنه فيما بعدُ يرفض هذا التفسير. لكن السؤال المهم هنا ليس: هل أضحَتِ الأخبار أكثر موضوعيةً مما كانت من قبلُ أم لا؟ أتفق مع الباحثين الذين ينظرون إلى الخبر على أنه تركيبة اجتماعية وليس انعكاسًا طبيعيًّا لما يجري في العالم (بالداستي، ١٩٩٢)، وتمييزه على هذا النحو مهم لأغراض هذا الفصل؛ فقد غدَتِ الأخبارُ — كما كتب بالداستي (١٩٩٢) — في القرن التاسع عشر مُنتَجًا مصنوعًا يعكس متطلبات الأطراف التي تدخل في إنتاجه وتوزيعه واستهلاكه.
لم تغدُ الصحفُ وحدها في القرن التاسع عشر مُنتَجًا مصنوعًا، بل صارت الأخبار بدورها مُنتَجًا يُصنع ويشبه الكتب من العديد من النواحي، وعنى إكسابها طابعًا تجاريًّا — من بين ما عناه — أنها أضحت أكثر أهميةً للصحف؛ ومن ثَمَّ شغلت المزيدَ من عواميد الصحف أكثر من أي وقت مضى، غير أنها اختلفت عن الكتب من جانب واحد؛ وهو أنها لم تكن معمِّرة، وقد استمدَّتْ قيمتها من ميزة مقابلة؛ لأنها كانت غير معمِّرة وتُستهلَك على الفور.
باتت الصحف قصيرةَ الديمومة لأن الأخبار بدورها باتت قصيرةَ الأجل؛ ومن ثَمَّ احتاجت الصحف الحديثة العالمية التجارية إلى الأخبار وتنافست على الوصول إلى أحدثها، فصدرت في بادئ الأمر عدة مرات بالأسبوع، ثم باتت تصدر يوميًّا؛ ومن هنا تطلَّبت مزيدًا من الأخبار عن سابقاتها. وقد كانت وكالات الأنباء هي ما أطلق حركة إنتاج الأخبار على نطاق واسع عالمي، فباعت الأخبار للصحف التي قدَّمتها بدورها لعملائها. وكما كتب بالمر (١٩٧٦)، لم يكن من الممكن أن تغطِّيَ أيُّ صحيفة كلَّ أصناف المعلومات — من المعلومات السياسية إلى الاقتصادية إلى الأخبار الأجنبية — على وجه تامٍّ، وبالسرعة والموثوقية اللتين تميَّزت بهما وكالات الأنباء التي أضحت شركات تجارة بالجملة تبيع الأخبار للبنوك والتجار وللدوائر الحكومية والصحف. بدأ تأسيس أولى وكالات الأنباء منذ ثلاثينيات القرن التاسع عشر حتى الآن، ومع تأسيس وكالة الأنباء الأولى حاكَى العديدون نموذجَها بمختلف الدول، حتى غدَتْ وكالات الأنباء موجودة بأغلب دول أوروبا المتقدمة بحلول سبعينيات القرن التاسع عشر، وتزامَنَ هذا مع ظهور الصحف العالمية.
يتعيَّن علينا دراسة وكالات الأنباء إنْ أردنا فهمَ الكيفية التي تتحوَّل بها الأخبار إلى سلعة، وعلينا هنا أن نطرح بعض الأسئلة: كيف جعلت وكالات الأنباء من الأخبار سلعةً؟ وما الذي تطلَّبه تحديدًا تحوُّلُ الأخبار إلى سلعة تجارية؟ وما الذي اختلف بتأسيس أولى وكالات الأنباء؟ هنا نصل إلى مفهومَيِ الزمان والمكان اللذين خلَتْ منهما المناهج التقليدية السابقة في دراسة وكالات الأنباء.
(٢) الأخبار والزمان
أخذ العصر الحديث بشكل متزايد مع بدايته يخلص الفضاء من قيود المكان بتعزيز العلاقات مع الآخرين «الغائبين»، البعيدين مكانيًّا عن أيِّ تفاعُل وجهًا لوجه. يأخذ المكان في العصر الحديث في التحوُّل بشكل متزايد إلى صورة وهمية؛ بعبارة أخرى تخترق الأمكنةَ مؤثراتٌ اجتماعية بعيدة تمامًا عنها وتشكِّلها.
نشأَتِ العلاقة الوثيقة بين الأخبار والزمان في القرن التاسع عشر، ولا شك أن الأخبار كانت دومًا جديدة؛ أي أنها لم تتوافر من قبلُ. لكن من جهة أخرى لطالما احتاجت الأخبار قبل ابتكار التلغراف إلى حامل لها؛ فسافرت بسرعة حاملها، ثم طرأت نتيجةً للتقدُّم الذي شهدته وسائلُ النقل تغيُّراتٌ كبرى على عملية انضغاط الزمكان، بعبارة أخرى تقلَّصت المسافة من حيث الوقت المستغرَق للانتقال من مكان لآخَر (مايروفيتز، ١٩٨٥). فعلى سبيل المثال، استغرقت الرحلةُ من الساحل الشرقي إلى الساحل الغربي للولايات المتحدة الأمريكية عامين سيرًا على الأقدام، وأربعةَ أشهر على ظهر عربات الجياد، وأربعةَ أيام فقط على متن القطار (لاش وأوري، ١٩٩٤).
كان التلغراف هو ما فصل بين الرسالة وحاملها، وعزَّزَ العلاقة الوثيقة بين الأخبار والزمان، علاوةً على أن استخدامَ إشارة التلغراف أتاح التزامُنَ بين التوقيتات المحلية وتوقيت جرينيتش؛ فأُبرِمت أولُ اتفاقية دولية حول توحيد المناطق الزمنية عام ١٨٨٤ (لوي، ١٩٨٢). وأدى التلغراف إلى تغييرات كبيرة طرأت على العلاقة بين الزمان والأخبار؛ لأن قيمة الأخبار أمكن قياسها نسبةً إلى الزمان الذي بات يُقاس كمًّا.
يقدم تاريخ وكالات الأنباء العديدَ من الأمثلة على الكيفية التي أضحَتْ بها السرعة شديدةَ الأهمية مع استخدام التلغراف في نقل الأنباء، ففيما مضى قبل ظهور التلغراف، كان يمكن أن تكون الأخبار قديمةً تمامًا؛ على سبيل المثال، في بداية القرن الثامن عشر استغرق نقل الرسائل من إنجلترا إلى ماساتشوستس على أقل تقدير ٤٨ يومًا، ولم تبلغ الأنباء غير الرسمية بوفاة الملك ويليام عام ١٧٠٢ رعاياه الأمريكيين إلا بعد مرور ثلاثة أشهر تقريبًا على وفاته (ستيفنز، ١٩٨٨). غير أن وكالات الأنباء بمساعدة التلغراف اختصرت الأسابيع إلى ساعات.
بعالم الصناعة، حيث تشكِّل المنافسة على الأسواق والمنافسة داخل الأسواق ضغوطًا متزايدة على المؤسسات، أضحت السرعة إحدى أهم ركائز مؤسسات الإعلام الإخباري، ومن المحتم إمداد الأسواق بالمعلومات قبل المنافسين. وتؤثِّر ضرورةُ جمع المعلومات ومعالجتها ونشرها على جناح السرعة على نوع السلع المنتجة.
(٣) الأخبار والمكان
كما أشرتُ آنفًا، ارتبطَتِ الأخبار بالمكان ما دامت الحشود تجتمع بالأسواق لتبادلها، فالأخبار كانت مرتبطة بالأماكن، وكان يمكن أن تتقادم الأخبار أو أن تَرِدَ من نقاط نائية، غير أن مَن تبادَلَها هم الناس، وأغلب الأخبار كانت عن أماكن مألوفة لديهم؛ ومن ثَمَّ كانت عملية تبادل الأخبار علاقة اجتماعية تقوم على التواصل وجهًا لوجه، تقع في سياق مجتمعي وترتبط بالمكان.
من المهم أيضًا الإشارة عند هذه النقطة إلى العلاقة الوثيقة بين المكان والأخبار؛ فيرى ساك (١٩٩٢) أن المكان والاستهلاك مرتبطان لسببٍ واضح؛ أَلَا وهو أن عملية الاستهلاك يجب أن تقع في مكان، بعبارة أخرى يجري استهلاك السلع بموقع ما. وأغلب الأخبار التي تُوزَّع على الأسواق تتسم بعلاقة واضحة بينها وبين حياة موزِّعِيها ومُستقبِلِيها بمواقعهم؛ فالمكان — بعكس الفضاء — مألوف وواقعي وملموس؛ ومن هنا جاء التعبير الإنجليزي «ما من مكان كالمنزل» (رالف، ١٩٧٦). كانت الأخبار محليةً من حيث إنها اتصلت بالحياة اليومية بمحل معيشة الناس.
كتب أوجيه (١٩٩٥) أن مصطلح الفضاء المكاني هو مصطلح أكثر تجريدًا من مصطلح المكان الذي يوحي غالبًا للذهن بحدث محدَّد وقع بمكان ما. وعندما بدأ إرسال الأخبار من الأماكن النائية عبر وسائل الإعلام الجماهيرية، بدأت الأخبار تفقد صلتها المباشِرة بحياة الأفراد العادية؛ فكما يشير شيفلبوش (١٩٧٨)، السلع لا تغدو بلا وطن إلا عندما تخلق وسائلُ النقل الحديثة فاصلًا مكانيًّا محدَّدًا بين مكان إنتاج السلعة ومكان استهلاكها، وأضاف أن السلع تفقد هويتها المحلية وحاضرها في الفضاء الفاصل الذي تغطِّيه السلعةُ في طريقها من محل إنتاجها إلى السوق.
أوجد استخدام التلغراف ارتباطًا حقيقيًّا ليس بين الأخبار والزمان فحسب، بل بينها وبين المكان كذلك؛ فعلى الرغم من أن التلغراف نقل الأخبار كما تُنقَل السلع على متن القطارات أو السفن، فقد كان ابتكارًا ثوريًّا من حيث إنه نقل الأخبار دون حامِل لها وبسرعة الكهرباء الآنية.
اختلفت الأخبار الإلكترونية عن غيرها من المنتجات من جانبين؛ أولهما: أنها لم تَعُدْ بحاجة إلى حامل لها، وثانيهما: أنها لم تُنقل بكميات كبيرة كالطوب أو الذُّرة، وإنما أمكن إرسال كل رسالة إخبارية عبر التلغراف في الوقت نفسه إلى عدة أماكن مختلفة حول العالم؛ حيث تنسخها وكالات الأنباء في نشراتها الإخبارية لعملائها. كان التلغراف آنذاك تقنية شديدة الأهمية، غير أن وكالات الأنباء هي ما حوَّلت رسائله إلى مُنتَج إعلامي جماهيري؛ وهي الأخبار.
من هنا، باتَ تبادُل الأخبار في بادئ الأمر «تفاعُلًا وسيطًا». ويصف طومسون هذا النوع الجديد من العلاقات بأنه «شبه تفاعل» يجري عبر وسيط (طومسون، ١٩٩٥)؛ إذ إن الأخبار التي تبادَلَها الأفراد سابقًا وجهًا لوجه باتَتْ تنتقل الآن عبر وسائل الإعلام. بَيْدَ أن كلمة «شبه» قد تعني: «يمكن القول» أو «تقريبًا» أو «على وجه التقريب» أو «نادرًا»؛ مما يوحي بأنه تفاعل أدنى من أن يكون حقيقيًّا، غير أنني أشدد على أنه كان بمنزلة نوع جديد من العلاقات الاجتماعية لم يحلَّ محلَّ التواصُل وجهًا لوجه، وإنما أبرز الوساطة كمفهوم مهم؛ فالأخبار عينها غدا مُستقبِلوها للمرة الأولى أناسًا لم تجمعهم معرفة شخصية بعضهم ببعض، وإنما جمعتهم علاقة اجتماعية تتوسَّطها وسائل الإعلام الجماهيرية (هارفي، ١٩٩٣)، وبات مكانُ تبادُلِ الأخبار الذي جمعت فيه بين الأفراد معرفةُ بعضهم ببعض فضاءً إلكترونيًّا مجرَّدًا تربط بين أطرافه وسائلُ الإعلام الجماهيرية؛ فشبه التفاعل الذي يجري عبر وسيط — على حدِّ ما كتب طومسون (١٩٩٤) — هو تفاعُلٌ في طبيعته أحادي الحوار، بمعنى أن التواصُل يتدفق في الأغلب باتجاه واحد. لكن إن نظرنا إلى كلمة «شبه» على أنها تعني بالمقام الأول «كما لو يمكن القول» لأمكننا فهم هذا النوع الجديد من التبادُل على أنه علاقة «اجتماعية»، حتى إن لم تَعُدْ مُباشِرة وجهًا لوجه.
من هنا أضحَتِ الأسواق المحلية أسواقًا قومية تحوَّلت بدورها إلى أسواق عالمية، فتجاوزت الأخبار بإرسالها من بلد إلى آخَر الحدودَ القومية وأصبحت عالمية إذ أمكن الانتفاع بها في أي مكان؛ فترجمتها وكالات الأنباء في كافة الدول التي استقبلت البرقيات للغة الدولة القومية ونقلتها لعملائها بعد مراجعتها وتحريرها، وبالتالي أدَّتْ كافة وكالات الأنباء دورًا مزدوجًا بالسوق العالمية؛ فمن ناحية لعبت دورَ الموزِّع للأخبار القومية، ومن ناحية أخرى استقبلت الأخبار العالمية، وتنطوي هذه العلاقة على نقاط اتصال وانفصال بين الأخبار المحلية والدولية.
ربط التلغراف بين الدول الأوروبية في خمسينيات القرن التاسع عشر، غير أن المحيطات فصلَتْ بين القارات، لكن جرى تجاوُز هذه العقبة لأول مرة عام ١٨٥١، عندما تمَّ تركيب كَبْل بحري بين مدينتَيْ كاليه ودوفر. بعد عشر سنوات، تمَّ الربط بين أوروبا وأمريكا بكَبْل تلغراف يمتدُّ تحت المحيط، وأعقب هذا تركيب كَبْلات تصل بين القارة الأفريقية والهند في ستينيات القرن التاسع عشر، ثم بين الصين وأمريكا الجنوبية واليابان في سبعينيات القرن التاسع عشر.
من هنا خلقَتْ تقنية التلغراف الجديدة حلقاتِ اتصال فورية بين القارات التي تواصلت من قبلُ على نحوٍ غير منتظم مع فترات تأخُّر طويلة. لكن يجدر تذكُّر أن هذا التواصل انحصَرَ بين المراكز الكبرى أو العواصم أو المدن الصناعية الكبرى، وأضحت وكالات الأنباء الأوروبية الثلاث الأبرز — وكالة هافاس بفرنسا ووكالة رويترز ببريطانيا ووكالة وولف بألمانيا (كونتيننتال تليجرافن كومباني) — وكالاتٍ عالميةً في الأعوام الأولى من نشاطها، فيما واصلَتْ وكالات الأنباء الأخرى نشاطَها في إطار محلي، وهو اختلاف جوهري؛ فوكالات الأنباء المحلية عملت في نطاق بلادها، فيما اتسع نشاط وكالات الأنباء العالمية لتمتد إلى خارج بلادها. صادف أن فرنسا وبريطانيا وألمانيا تمتعت بشبكات تلغراف واسعة النطاق؛ فبلغت حصة الشركات الخاصة من كَبْلات التلغراف على مستوى العالم ٨٩٫٦٪ عام ١٨٩٢ (بلغت حصة بريطانيا من هذه النسبة ٦٣٫١٪)، وامتلكت الإمبراطوريتان البريطانية والفرنسية ما يربو على ٦٠٪ من إجمالي كَبْلات التلغراف الحكومية (هيدريك، ١٩٩١).
اعتمدت الصحف على وكالات الأنباء التي اعتمدَتْ بدورها على اتساع شبكات التلغراف، فاتبعت من ثَمَّ امتداد كَبْلات التلغراف. ولا شك أن وكالتَيْ أنباء رويترز وهافاس استفادَتَا أكبرَ استفادة من شبكات الكَبْلات المحلية التي امتلكَتَاها، أما وكالة وولف فمدَّتْ نشاطها لقارات أخرى. فقد أسَّس جوليوس رويتر على سبيل المثال وكالته في لندن عام ١٨٥١ قبل شهر من افتتاح كَبْل التلغراف الممتد بين كاليه ودوفر، الذي يُعَدُّ أول حلقة وصل تحت البحار يشهدها العالم، كما افتتحت وكالة رويترز — بناءً على تتبُّعها لتقدُّم امتداد خطوط كَبْلات التلغراف — مكاتبَ لها في الإسكندرية عام ١٨٦٥، فبومباي عام ١٨٦٦، ثم في ملبورن وسيدني عام ١٨٧٤، فكيب تاون عام ١٨٧٦، وكانَتْ وكالةَ الأنباء الوحيدة التي تموِّل كَبْلات التلغراف؛ ومن هنا كان شعار جوليوس رويتر «تتبع كَبْلات التلغراف» (ريد، ١٩٩٤).
كتب إليوت وجولدينج (١٩٧٤) أن مفهوم حصرية السلعة يقوم على ملمحين متصلين من ملامح عملية الإنتاج؛ وهما السرعة والابتكار، ويريَان أن الابتكار تستتبعه آثارٌ مهمة على عملية إنتاج الإعلام الإخبارية؛ فبقدر ما يُعَدُّ ابتكار السلعة في مجال الصناعة مزيةً في مناخٍ تسوده المنافسة، يتيح ابتكارُ قصة إخبارية مزايا لمؤسسات الإعلام الإخباري؛ ومن ثم تهدف كل مؤسسة إعلام إخباري إلى إمداد عملائها بقصة إخبارية لا يتسنَّى لمؤسسات الإعلام الإخباري المنافسة تقديمها.
لم يرتبط الابتكار عادةً إلا بمحتويات قصة إخبارية؛ قصة عن حدث لم يكن معروفًا من قبلُ، غير أن ثمة عاملًا آخَر أغفلته الأبحاث السابقة، وهو المكان. تطرَّقَتْ في الواقع دراساتُ حركات تدفُّق الأخبار بشكل غير مباشِر لهذه المشكلة عن طريق تكويد مصادر الأخبار، لكن من المؤسف أنها سلَّطت اهتمامها على الدول القومية (فدرست على سبيل المثال نسبةَ الأخبار التي تصدر من الولايات المتحدة الأمريكية، راجع سريبيرني-محمدي وآخرون، ١٩٨٥)، ولم تركِّز على الأماكن التي وردت منها الأخبار؛ فيمكن أيضًا أن يشمل مفهومُ حصرية السلعة الأماكنَ أيضًا.
عنصر المكان مهم في الخبر؛ لأن الأحداث تقع بمكان، وأسوق مثالًا على ذلك: نقل الأخبار في روسيا الإمبراطورية في القرن التاسع عشر؛ إذ لم تحمل نشرات الأخبار التي قدَّمتها وكالات الأنباء الروسية آنذاك عناوينَ أخبار، بل ظهرت بترتيب عشوائي لا يفصل بينها إلا إشارة لمكان نقل الخبر (وليس الدولة) والتاريخ (على سبيل المثال: تورينو، ١٠ ديسمبر، ١٨٦٦)، واتبعت الصحف النهجَ نفسه ونشرت في كثير من الأحيان نشراتِ الأخبار كما وردَتْ بالضبط؛ من هنا أضحى المكان والتاريخ هما الملمحين الأهم والأبرز لكل برقية إخبارية (رانتانن، ١٩٩٠)، وأصبحَا المعيارَ الجديد لتقييم الأخبار.
لا يعدو تعريف إليوت وجولدينج لمكونات الخبر الجديد ذلك؛ فالخبر الجديد في أبسط صوره هو خبر يفتقر إليه المنافسون. وقد كانت وكالات الأنباء في القرن التاسع عشر أول مَن صنع حركة العولمة الإلكترونية بنقل الأخبار من أماكن بعيدة، وأضحى من المهم نقلُ الأخبار بسرعة أكبر من المنافسين، ليس من المناطق المحلية فحسب، بل من المناطق البعيدة أيضًا.
أسوقُ مجدَّدًا أمثلةً على ذلك من روسيا الإمبراطورية؛ فعلى سبيل المثال، في الأيام الأولى لم تنشر الصحفُ الروسية في كثير من الأحيان البرقياتِ، بل اكتفَتْ بإعلان «لم نتلقَّ اليومَ برقياتٍ». كانت الصحف الروسية تتلقَّى البرقياتِ من المدن خارج أوروبا، وكانت أبعد نقاط وردَتِ البرقياتُ منها، هي ماكاو وطنجة وهونج كونج ونيويورك، غير أن الأنباء ظلَّتْ تصدر بصورة متقطعة نسبيًّا من هذه البقاع، ووردت غالبية البرقيات من أبرز مدن بثِّ الأخبار كلندن وباريس وبرلين وفيينا، وأسرعها ورد من نيويورك (عبر كَبْل المحيط الأطلنطي)، غير أنها تطلَّبت فترة تتراوح ما بين يوم وثلاثة أيام لتسليمها؛ لكن تقلَّصَ تدريجيًّا متوسطُ الوقت المستغرَق لنقلها إلى يوم واحد. وانخفض عدد البرقيات التي تَرِدُ من أبرز مدن نقل الأخبار بأوروبا مع بداية القرن العشرين، وظهرت مراكز غير أوروبية جديدة لنقل الأخبار (رانتانن، ١٩٩٠).
كتب مايروفيتز (١٩٨٥) أن وسائل الإعلام الإلكترونية تخلق مجتمعاتٍ لا تتمتع «بحس المكان»، لكن تكشف دراسات عملية إنتاج الأخبار عن مفهومٍ للمكان أضحى في القرن التاسع عشر أكثرَ أهميةً في إنتاج الأخبار الإلكترونية عن ذي قبل؛ إذ ولَّدَ انتقالُ الأخبارِ من البقاع النائية وتغلُّبها بذلك على عقبات المكان صورةً جديدة من الابتكار فيما يتصل بالحصرية السلعية للأخبار، وتنافست وكالات الأنباء بعضها مع بعضٍ على نقل الأخبار من البقاع النائية بأسرع ما يمكن؛ فباتَ المكان سلعةً يُتاجَر بها.
(٤) تسليع الفضاء الإلكتروني العالمي
كما أشرتُ من قبلُ، كانت وكالات الأنباء هي ما بدأ تبادُل الأخبار على نطاق عالمي بالتغلُّب على عقبات الزمان والمكان؛ فبينما امتلأ الزمان والمكان بالعقبات، ظلَّ الفضاء الإلكتروني الجديد عَصِيًّا على تلك العقبات؛ ومن هنا كتب ساك (١٩٩٢) أنه عندما يجري التحكُّمُ بالفضاءات المكانية، تنشأ المناطق الإدارية. ومع استيلاء القوى العالمية المسيطرة بنهاية القرن التاسع عشر على فضاءات «مفتوحة» شاسعة بالقارات الأخرى، أضحَتِ الأخبار عالميةً. وفي هذا الصدد، يرى كاري (١٩٨٩) أن تقنية الكَبْل والتلغراف، مدعومة بالأسطول البحري، هي ما حوَّلَتِ الاستعمارَ إلى حركة إمبريالية؛ ومن هنا تتبعت وكالات الأنباء خطوطَ الكَبْل والتلغراف، ولا عجب أن وكالات أنباء القوى العالمية كانت الأولى في بدء نقل الأخبار للقارات الأخرى.
مع استعمار القوى العالمية لمناطق شاسعة من العالم، استعمرَتْ وكالات الأنباء هي الأخرى أخبارها عبر تشكيل مناطق إدارية محظورة على غيرها. أولى الاتفاقيات القائمة التي يمكن التثبُّت منها في هذا الشأن وُقِّعت بين وكالات الأنباء العالمية الثلاث — هافاس، ورويترز، ووولف (كونتيننتال تليجرافن كومباني) — عام ١٨٥٩. عُدِّلت الاتفاقية ورُوجِعت بصفة دورية وشكَّلتِ الأساسَ لاتحاد احتكاري قوي احتكَرَ سوق الأخبار، وقسَّمَ بين أعضائه سوقَ الأخبار العالمية، ودام لأكثر من سبعة عقود.
كان المصطلح الأهم آنذاك، الذي يرجع استخدامه إلى اتفاقية عام ١٨٦٧ المبرَمة بين وكالة هافاس ورويترز ووولف (كونتيننتال تليجرافن كومباني) — والذي تكرَّرَ بالاتفاقيات كافة من بعدها — هو «حق الانتفاع الحصري» لترويج الأخبار في المناطق الإدارية لكل وكالة أنباء. وسارت الاتفاقيات بين الوكالات الثلاث على نهج محدَّد يقضي بأن تتمتَّع وكالات الأنباء العالمية بحقوق انتفاع حصرية بالنسبة إلى الأخبار في مناطقها الإدارية، وكانت الاتفاقيات — كما كتب إنجمار (١٩٧٣) — احتكارًا للمبيعات يقضي بأن يتمتَّع الطرف الذي يبسط سيطرته على المنطقة بحق حصري لبيع الأخبار هناك.
تمنحنا اتفاقية عام ١٨٧٠ فكرةً عن الكيفية التي قسَّمَ بها هذا الاتحاد الاحتكاري سوقَ الأخبار العالمية. أفردَتِ الاتفاقيةُ لوكالة رويترز حق السيطرة الحصري على إنجلترا وهولندا ومستعمراتهما؛ بينما شملت حصة وكالة وولف من الاتفاقية ألمانيا وإسكندنافيا ومدينتَيْ سانت بطرسبرج وموسكو؛ أما وكالة هافاس فتمتَّعَتْ بحقوق حصرية في فرنسا وإيطاليا وإسبانيا والبرتغال. ثم اتَّسَعَ نطاقُ مبدأ حق الانتفاع الحصري ليشمل مناطق أخرى؛ فلم تتناول اتفاقية عام ١٨٧٤ مناطقَ العالم القديم فحسب، لكنها شملت أيضًا العالَمَ بأسره. وخصَّصت اتفاقية عام ١٨٧٦ بين هافاس ورويترز أمريكا الجنوبية لوكالة هافاس، فيما خصَّصَتِ الهند والصين واليابان لوكالة رويترز. بحلول عام ١٩٠٩، كانت مناطق العالم كافة قد جرى تقسيمها بين وكالة هافاس ورويترز ووكالة وولف (كونتيننتال تليجرافن كومباني) إضافةً إلى وكالة أسوشيتد برِس الأمريكية ومكتب كوريزبوندانز بيورو النمساوي المجري كشريكَيْن بحصة صغرى، وكانت المناطق الوحيدة التي لم تخضع للتقسيم هي ألاسكا وروسيا (باستثناء موسكو وسانت بطرسبرج بهما) والحبشة والكنغو والجزيرة العربية وأفغانستان وفارس وسيام (رانتانن، ١٩٩٠). في الوقت نفسه، تخلَّتْ وكالات الأنباء المحلية عن حقِّ نقل الأخبار للخارج إما بصورة مباشرة وإما عبر أي وكالة منافِسة، وتعيَّنَ عليها عوضًا عن ذلك أن ترسل الأخبارَ وتستقبلها عبر وكالة الأنباء العالمية (أو نظيراتها) الموقعة على الاتفاقية، كما اضطرت لدفع عمولات طائلة للوكالات العالمية، وليس العكس.
من هنا لم يَعُدِ الفضاءُ الإلكتروني — شأنه شأن الزمان والمكان — سلعةً يُتاجَر بها فحسب، بل أضحى أيضًا فضاءً محتكرًا قُسِّم إلى مناطق إدارية، وهذا التقسيم الإداري — على حدِّ تعبير ساك (١٩٩٢) — استراتيجية ترتكز على المكان لتجعل منه أداةَ نفوذٍ؛ فلم يَعُدْ يجري تبادُل الأخبار علانيةً بالسوق المفتوحة، أو تتاح بيسر لمتناول الجميع، بل بات يُنظَر إليها كغيرها من السلع، وكان هناك حرص أكبر على حمايتها؛ ومن هنا فُرِضت قيودٌ على الوصول لمصادر الأخبار، إضافةً إلى أماكنها. وبتشكيل اتحاد احتكاري للأخبار، حصرَتْ بشكل كبير وكالات الأنباء الجديدة العالمية المنافَسةَ بتثبيت أسعار الأخبار وتقاسم أسواقها وحصد أرباحها. ويصادف أن حركة الاتحادات الاحتكارية الحديثة في مجال الصناعة تعود إلى سبعينيات أو ثمانينيات القرن التاسع عشر، عندما أدَّتِ التحسينات التي شهدتها وسائلُ النقل والتصنيع ونمو التجارة الحرة إلى اتحاد الشركات المنفصلة جغرافيًّا بعضها مع بعض (خان، ١٩٦٨). باستعمار الفضاء الإلكتروني، احتكرت وكالات الأنباء العالمية نقلَ الأخبار في مناطقها الإدارية، وغدت نموذجًا أوليًّا لمؤسسات الاتصالات العالمية بالمستقبل.
(٥) الفضاء الإلكتروني العالمي
يرى هارفي (١٩٨٩) أن حركة انكماش الخارطة العالمية الأبرز وقعت في الفترة ١٨٥٠–١٩٣٠ من خلال الابتكارات التي طرأت على وسائل النقل، والتي حطَّمت حواجزَ المكان عبر الزمن، وهو ما تزامَنَ جزئيًّا مع المرحلة الثانية من العولمة في أوروبا، التي يصفها روبرتسون (١٩٩٢) بالمرحلة الأولية (١٧٥٠–١٨٧٥). ومع أنه لا يأتي على ذكر الاتصالات الدولية إلا متأخرًا في سياق ما يسميه بمرحلة الانطلاق (١٨٧٥–١٩٢٥)، وكانت وكالات الأنباء قد بدأت بالفعل تمارس نشاطَها في وقت سابق على هذه المرحلة، ولعبَتْ دورًا مهمًّا في الوصل بين الأماكن حول العالم لتشكِّلَ بذلك فضاءً إلكترونيًّا عالميًّا جديدًا.
كانت وكالات الأنباء، بمساعدة التلغراف، أولَ وسيط عالمي يطلق نشرَ الإمكانات الإلكترونية؛ فقد نجحَتْ في التغلُّب على العقبات الجغرافية التي أعاقت من قبلُ نقلَ الأخبار بسرعة من البقاع النائية، وعندما شرعت في استخدام التلغراف — ولا سيما الكَبْلات البحرية — أحرزَتْ إنجازًا غير مسبوق؛ فأطلقت حركةَ تبادُلِ الأخبار الإلكترونية من بقاع مختلفة بصفة دورية، وكانت هذه البقاع تتواصَلُ من قبلُ بعضها مع بعض لكن بوتيرة أقل؛ فأبحرت السفن بين القارات غير أنها واجهَتْ على الدوام عامِلَ التأخُّر المفاجِئ الذي كان يمكن أن يستغرق أيامًا أو أسابيع أو شهورًا؛ أما في العهد الإلكتروني الجديد، فقد اختلَفَ مفهومُ الزمان والمكان.
نتج هذا الفضاء الإلكتروني العالمي الجديد عن علاقات اجتماعية قائمة على وسائل الإعلام الجماهيرية، وارتكَزَ على هذه العلاقات؛ ومن هنا كتب ليفيفر (١٩٩١) أن الأنشطة المكانية تدخل فيها علاقة المحلي بالعالمي. وقد ولَّدت وكالات الأنباء علاقةً قائمة على وساطة إلكترونية بين بقاع في مختلف أرجاء العالم، غير أن هذه البقاع تبايَنَتْ من حيث قِيَم تبادُلها وفقًا لموقعها وزمن النقل (أي الزمن المستغرَق بين «الحدث» ونقل خبره)؛ فتعيَّنَ أن يكون الزمن المستغرَق لنقل الخبر من البقاع النائية قصيرًا نسبيًّا، وتعيَّنَ بالطبع أن يكون أقصر من المدن الرائدة في نقل الأخبار على مستوى العالم كلندن وباريس وبرلين وفيينا. ومن المهم أن نتذكَّرَ أن وكالات الأنباء العالمية أرسَتْ قواعدَها لتبادُل الأخبار في الفضاء الإلكتروني العالمي بالربط بين هذه الأماكن. من جهة أخرى، تعيَّنَ على وكالات الأنباء القومية توفير الأخبار عن البقاع الواقعة داخل حدودها القومية تبعًا للمواقيت الإخبارية التي تحدِّدها وكالات الأنباء العالمية؛ أي تنتج الأخبار سريعًا وبصفة دورية باتِّبَاع النهج العالمي لإنتاج الأخبار، أيًّا كانت المواقع الجغرافية أو الاختلافات الثقافية أو الإمكانات التكنولوجية، وإنْ فشلَتْ عُدَّتْ غيرَ مواكبة للعصر الحديث، ووُصِمت بالتخلُّف أو الرجعية، وطُرِدت من الفضاء الإلكتروني العالمي الجديد. يستخدم أوجيه (١٩٩٥) مصطلح اللامكان لوصف بعض الأماكن كالمطارات أو مراكز التسوق غير العلائقية أو التاريخية التي لا صلة لها بالهوية. ويرى رالف (١٩٧٦) أن وسائل الإعلام الجماهيرية تنتج هويات واسعة النطاق من أماكن لا تضم إلا انتماءات سطحية لأبعد الحدود؛ مما لا يُفسح مجالًا للداخلية التشاركية، ويقضي على الداخلية الوجودية بتحطيم قواعد الهوية الخاصة بالمكان. وفي حركة تدفُّق الأخبار العالمية، يغدو المكانُ بسهولةٍ لا مكانًا وهميًّا يُشار إليه فقط في سياق حدثٍ وقع فيه، وقد يفقد هويته المحلية الأصلية.
هذا يقودنا مجدَّدًا لقضايا التفاوت والهيمنة بين وكالات الأنباء التي تُهمَل بسهولة عندما نتحدَّث عن أشياء «مجردة» كالزمان والمكان؛ فنجد على سبيل المثال مورلي وروبينز (١٩٩٥) يتحدثان عن «فضاء عالمي تغدو فيه الفواصل والحدود غيرَ مُحكَمة». وفي الدراسات التي تتناول وكالات الأنباء، أبرَزَ منهجَا الاقتصاد السياسي وحركةُ تدفُّق الأنباء مفهومَيِ التفاوت والهيمنة اللذين ينبغي ألا يُغفلَا في مناقشة الفضاء العالمي الإلكتروني الجديد في القرن التاسع عشر، فلم يَعُدِ الفضاءُ الإلكتروني مفتوحًا عندما غَدَا الزمان والمكان سلعةً في عالم الأخبار كما تبيِّن الاتفاقيات بين وكالات الأنباء الدولية، وبات بدوره سلعةً. ثم أطلقَتْ عولمةُ الأخبار الإلكترونية حركةَ تسليعها المكثفة، وأضحى الفضاء العالمي فضاءً مقصورًا تحدُّه فواصلُ وحدود محكمة.