التسليع
ما المانع من بيع الأخبار؟ كيف يختلف بيع الأخبار عن بيع الكحوليات أو المخدرات أو الماء؟ وإنْ حسمتَ أمرك ببيعها، فما الذي يجعلها صالحةً للبيع؟ ما الذي نشتريه عندما نشتري الأخبار؟ هل المهم هو «موضوعية» الأخبار كما يزعم الصحفيون والباحثون في مجال الصحافة؟ أم المهم هو رغبة الجماهير في الاطِّلَاع على أحدث الأنباء؟
متى خضعتِ الأخبار للدراسة كان محتواها هو أكثرَ ما يجذب اهتمام الدارسين، وأودُّ في هذا الفصل أن أصبَّ اهتمامي على استكشاف اقتصاديات الأخبار، وعندما نحوِّل اهتمامنا إلى دراسة هذه الاقتصاديات، يغدو هدف الدراسة مختلفًا؛ فتكون المؤسسات المنتجة للأخبار ذات الأهمية الأولى.
بالمثل، عند السعي لدراسة اقتصاديات الأخبار، علينا أن نفهم ماهية الأخبار. تناول الكثير من الدراسات السابقة الأخبارَ كلَوْنٍ أدبي، لكن من جديد أكرِّر أن هذه ليست غاية هذا الفصل؛ فالأخبار كلونٍ أدبي وشكلها لا علاقة لهما بمقاصدي إلا «ككلٍّ» بوصفهما ما يميِّز الخبر عن غيره من السلع الثقافية. علينا أن نفهم «السببَ» الذي يجعل الأخبار تتطلَّب شكلًا محدَّدًا، أن نفهم مجموعة الخصائص الشاملة التي تحوِّلها إلى سلعة يمكن أن تُباع وتُشترَى.
(١) اقتصاد الأخبار
أحرز تشارلز هافاس وبرنارد وولف وجوليوس رويتر — شأنهم شأن الشركات التي تعتمد على الإنترنت اليوم — إنجازًا غير مسبوق لا يتصوَّره عقلٌ، بالمزج بين تقنية التلغراف الناشئة في أوائل القرن التاسع عشر — التي تُعَدُّ بمنزلة الإنترنت في زمانهم — وبين فكرة الأخبار كعمل تجارة بالجملة. وكأنَّ هذا لم يكن إنجازًا ثوريًّا بالدرجة الكافية، فقد بدأ ثلاثتهم بيعَ منتجهم الجديد — وهو الأخبار المنقولة إلكترونيًّا — لا على الصعيد المحلي فحسب، بل على الصعيد العالمي أيضًا، وبذلك أسَّسوا لممارسات الأعمال التي دامت إلى اليوم، وأثَّروا على كل منظمة إعلامية عالمية جديدة انطلقت منذ تأسيسهم شركاتهم. بدأ ثلاثتهم في عصر التصنيع حقبةً اقتصادية جديدة — يسمِّيها كواه (٢٠٠٣) حقبةَ «الاقتصاد العديم الوزن» — حيث تبلغ الأهمية الاقتصادية للمعلومات مبلغها في الوقت المعاصر.
كانت الأخبار المنقولة إلكترونيًّا في القرن التاسع عشر مقارَنةً بالأخبار في العصور السابقة سلعة ثقافية جديدة في زمانها، غير أنها اختلفت عن السلع الأخرى؛ لأنها غدَتْ سريعًا سلعةً حصرية لا يمكن للجميع الاستفادة منها، وتأمُّلها من هذا المنظور هو منهج مختلف جدًّا عن مناهج الدراسات الصحفية التي تُعنى بدرجة كبيرة بمحتوى هذه الأخبار، سواء أكان بموضوعيته أم باتباعه أفضلَ مبادئ الكتابة الصحفية. أما هنا فنحن نسعى لاكتشاف ما الذي حوَّل الأخبار إلى سلعة عديمة الوزن يمكن بيعها وشراؤها على نطاق واسع.
يمكن إرسال رسالة إخبارية واحدة بالتلغراف لعدة بقاع مختلفة من العالم في وقت واحد بعكس السلع الثقيلة التي يتعيَّن نقلُ كلٍّ منها على حدة لوجهة مختلفة، ويمكن بعدها بالطبع نسخ هذا المنتَج المعلوماتي الجديد العديم الوزن — الأخبار الإلكترونية — لعدد غير محدود من المرات حول العالم مقابل تكلفة إضافية بسيطة (كتكلفة الترجمة إن دعَتِ الحاجة إليها) ليستخدمه عددٌ لا حصر له من العملاء (رانتانن، ١٩٩٧).
سلعة قيِّمة ما دامت جديدة، ولِتحتفظ بهذه السمة يجب أن يعقب نشرُها الحدثَ نفسه مباشَرةً.
(٢) السلع الخاصة والعامة
يمكن تصوُّر الأخبار الإلكترونية سلعةً ثقافيةً بقدر ما نَعُدُّ نواتجَ أخرى للصناعات الثقافية المعاصرة كذلك. تُعرَّف الصناعات الثقافية عادةً على أنها مؤسسات تشترك أغلبها بصورة مباشِرة في إنتاج المضمون الاجتماعي؛ إذ إنها تنتج محتوًى يمكن مشاركته (هيزموندهيج، ٢٠٠٢). وثمة نوعان من السلع الثقافية؛ السلع العامة والخاصة، وتميِّز النظريةُ الاقتصادية عادةً بين النوعين. تُعرَّف السلع العامة على أنها سلع لا يُتنازَع عليها؛ لأنه بالإمكان تكرار استخدامها من قِبَل مستخدمين عديدين في شتَّى المواقع دون أن تنخفض قيمةُ المعلومة الأصلية (كواه، ٢٠٠٣)، وهي سلع غير حصرية؛ أي أنه يستحيل منع مستخدِمِيها من الوصول إليها فورَ إنتاجها. كما أن ثمة خيارًا ثالثًا من السلع، هو مزيجٌ (بين السلع العامة والخاصة)؛ إذ يتسم بإحدى سمات السلع العامة (كأنْ لا يُتنازَع عليها أو تكون غير حصرية) دون سماتها الأخرى (هوسكينز وماكفادن وفين، ٢٠٠٤).
كانت الأخبار الإلكترونية في بادئ الأمر سلعًا لا يُتنازَع عليها؛ إذ أمكن أن يستخدمها شتَّى جمهورها الكُثُر دون أن يتنازعوا عليها، ولا يمكن استخدام الأخبار بصفة متكرِّرة من قِبَل الشخص نفسه؛ لأنها لا تحتفظ بقيمتها إلا إذا كانت جديدة؛ ومن ثَمَّ فهي سلعة جمعية تسمح بالتشارك في استهلاكها عندما لا يؤثِّر استهلاك شخص إضافي على تكاليفها خَلَا تكلفة إرسالها (هوسكينز وماكفادن وفين، ١٩٩٧)، فأمكن لشتى المستهلكين الانتفاعُ بالأخبار في الوقت نفسه في مواقع شتَّى في مناطق زمنية مختلفة؛ فالأخبار كانت لا تزال جديدة لهم، وحتى إن علم بها مستهلكون في مواقع أخرى فلم تتراجع قيمتها.
لهذا السبب عُرِّفت الأخبار دومًا كسلعة عامة، غير أنها كانت سلعة خاصة أيضًا؛ لأن الشركات أنتجتها وباعتها لعملائها الذين لم تكن غالبيتهم جمهورًا من الأفراد، بل شركات ومؤسسات أخرى دفعت لقاء الحصول على خدماتها، ثم باعتها مجدَّدًا أو أعادَتْ نشرها. كانت الأخبار سلعة يُتنازَع عليها؛ لأن هذه الشركات دفعَتِ الأموال لقاء الحصول عليها ولم تُرِدْ نشرَها قبل الانتفاع منها. أضحت الأخبار حصريةً لأن هذه الشركات اتخذت جميع التدابير لحمايتها، وما إن يتم تسليمها لجمهورها، حتى تغدو من جديد سلعة غير حصرية لا يُتنازَع عليها.
غير أن الأخبار كسلعة عامة لم تكن ما هدَفَ إليه هافاس ووولف ورويتر، بل على العكس، عندما بدأ نقل الأخبار إلكترونيًّا في القرن التاسع عشر، كان ما قام به ثلاثتهم هو تحويل الأخبار إلى منتج صناعي وإلى سلعة، وهي عملية بدأت بالفعل مع ظهور الطباعة عندما بدأ الدجَّالون ومن بعدهم الصحف في بيع القصص الجديدة. غير أن هذه العملية بلغَتْ مستوًى جديدًا تمامًا مع عمل وكالات التلغراف؛ فصارت الأخبار المنقولة إلكترونيًّا «سلعةً خاصة» حصرية يُتنازَع عليها، تملكها شركاتٌ معروف ملَّاكها، وسُمِّيت تيمُّنًا بأسماء مؤسِّسيها؛ رويتر وهافاس ووولف، وما إلى ذلك. وجمعت وكالات التلغراف الأخبار الإلكترونية وباعتها لعملائها من الشركات والصحف والحكومات.
كانت الأخبار الإلكترونية تفقد عنصرَ الحداثة بها أو «يذهب عنها»، لكن على نحوٍ مختلف عمَّا قد يحدث عندما تفقده منتجات الألبان على سبيل المثال؛ لأن ثمة مَن قد استهلكها بالفعل. فيرى كواه (٢٠٠٣) أنه مع أن المنتجات المعلوماتية يمكن نشرها إلى ما لانهاية، فإن الأخبار الإلكترونية تفقد قيمتَها وتصبح غير قابلة للنشر وتتناقص قيمتها إنْ استهلكها شخصٌ قبل الآخرين؛ ومن ثَمَّ تشبه الأخبارُ الإلكترونية غيرَها من السلع من حيث إنها قد تفقد قيمتَها إنْ استقبلها مستهلِك قبل الآخَرين. ومن ناحية أخرى، إن أُرسِلت لجميع المستهلكين في آنٍ واحد — سواء في ذلك الشركات والبنوك والصحف والحكومات والأفراد — فلا تفقد قيمتها؛ لأن بإمكان العديدين استخدامها بالوقت نفسه.
كانت الأخبار المنقولة بالتلغراف مبتكرةً من حيث طريقة استخدامها، فأمكن للكثيرين استخدامها بعدة طرق. وقد تغدو الأخبار جديدةً من ناحيتين مختلفتين، كلٌّ منهما يسهم في قيمتها كسلعة يُتاجَر بها؛ أولًا: يُفترَض بالأخبار أن تُعلِم مُستقبِلِيها بأمرٍ لم يُعرَف من قبلُ، غير أن هذا لا يعني ضرورة الجهل التام به، بل يعني أن كل خبر يجب أن يضيف معلومةً ما لم تُعرَف من قبلُ. ثانيًا — وهو ما يتحقَّق بصورة متزايدة، غير أن الحال كان كذلك بالفعل في القرن التاسع عشر: يُفترَض أن يكون الخبر مستجدًّا، بمعنى أن يكون الفاصل الزمني بين «الحدث» الذي يرتكز عليه الخبر وبين استقبال الخبر أقصرَ ما يمكن، وقد أسهم التلغراف في هذا باختصار المكان والزمان؛ فمع استخدامه بدأَتِ الأخبارُ تسافِر بنفسها، وأضحَتْ من ثَمَّ جديدةً على نحوٍ لم يسنح قطُّ من قبلُ.
احتاج عملاء أولى وكالات التلغراف إلى استقبال الخبر مبكرًا، وآثروا استقباله قبل سواهم، وبعد استقباله سنح لهم إجراء التعديلات عليه وإضافة المعلومات إليه، وسنح لهم — في حال الصحف — نشره، وباتت الأنباء المنقولة عبر التلغراف منتجًا متداولًا على نطاق واسع؛ لأنه بلا وزن ويمكن بسهولة نسخه عدة مرات عبر التلغراف، واضطر عملاء وكالات التلغراف إلى القبول بمعاملتهم جميعًا على قدم المساواة؛ فلم يكن بإمكان أيٍّ منهم الحصول على الأخبار بسرعة أكبر. أمكن نشر الأخبار التي أرسلتها وكالات التلغراف كما هي، كما كان الحال كثيرًا في أيامها الأولى، غير أن الصحف سنح لها استخدام النبأ كمادة خام تجعل منه خبرًا خاصًّا بها ليصبح بعد ذلك ملكًا لها.
اتسمت السلع الإلكترونية التي أنتجتها وكالات التلغراف بالكثير من مواطن الضعف؛ أولًا: اختلفت الآراء حول أوجه الخلاف بين المعلومة والخبر؛ إذ عُدَّتِ المعلومةُ سلعةً عامة، ومن ثَمَّ لا يُتنازَع عليها وتكون غير حصرية. من جهة أخرى، مع أن وكالات التلغراف الأولى أقَرَّتْ بأنه لا يوجد حق حصري أو احتكار للمعلومات — أي أن الجميع يتمتَّع بحق جمع المعلومات — فإنها زعمت أن لها حقوقًا حصرية على الأخبار؛ السلعة التي أنتجَتْها من المعلومة. ثانيًا: اختلفَتِ الآراءُ حول حجم حقوق حصرية الخبر؛ إذ كانت وكالات الأنباء مهددة بفعل بيعها الأخبار إلى عملائها بفقدان تلك الحقوق الحصرية على الخبر؛ لأنه عندئذٍ يغدو ملكًا لمشتريه الذي قد يفعل به أي شيء يحلو له، بما في ذلك بيعه لطرف ثالث. ثالثًا: غدَتِ الأخبار سلعة عامة عند شراء الأفراد للصحف، وتملَّكَ الجميع حقًّا بالانتفاع منها؛ فكانت الطبيعة الحصرية للأخبار محل نزاع في كل مراحل إنتاج الأخبار المنقولة إلكترونيًّا وفي نهاية المطاف فُقدت تمامًا.
حاولت وكالات التلغراف الأولى بيع الأخبار لأكبر عدد ممكن من عملائها الذين تشكَّلوا بالأساس من المصارف والشركات والأفراد والحكومات، غير أنها سرعان ما بدأت في البيع للصحف، ولم يَعُدْ ثمة ما يدعو لأن تتوقَّف أنشطتهم عند بلد واحد، فعلى العكس أمكن استخدام الأخبار المنقولة إلكترونيًّا في عدة مواقع إن تُرجِمت. وكان أصحاب وكالات التلغراف الأوروبية الأولى متعددي المشارب الثقافية في زمانهم؛ فتنقَّلوا بسهولة بين البلدان الأوروبية، وفور تأسيس مكاتب الأخبار الخاصة بهم في باريس وبرلين ولندن، تابعوا بيع الأخبار عبر حدود البلدان، وسنح هذا عبر التلغراف الذي اختصَرَ المكان والزمان، وقلص أهمية المكان، حتى لو كانت تكلفة إرسال الأخبار إليه أعلى.
اكتشف مبكرًا أصحابُ أولى وكالات الأنباء التي تُنقَل إلكترونيًّا في إطار سعيهم لإيجاد حلٍّ للطبيعة المتناقضة للأخبار الإلكترونية؛ أن بإمكانهم بيْعَ منتجهم لأسواق أخرى خارج سوق بلادهم أو خارج سوق مسقط رءوسهم، حيث يمكنهم إعادةُ بيع الخبر في هذه المواقع التي ظلَّ بها الخبر جديدًا لأنه لم يُستخدَم من قبلُ؛ ومن هنا أصبحت الأخبار المنقولة إلكترونيًّا سلعةً عالمية في مرحلة مبكرة، وأمكن لأصحاب وكالات التلغراف عن طريق إرسال الخبر بمساعدة التلغراف لسوق أخرى — من لندن إلى نيويورك على سبيل المثال — أن يُعِيدوا بيعَه لمجموعة أخرى من العملاء الذين تنافسوا للحصول على أحدث الأخبار؛ ومن ثَمَّ غدَتِ الأخبارُ منتجًا دوليًّا يمكن بسهولة نقله من سوق إلى أخرى، وتأكَّدت وكالات التلغراف بقيامها بذلك من أن يسنح نَسْخ الأخبار بهذه السمة الأساسية — حداثتها — في مناطق زمنية مختلفة.
(٣) التكاليف
الميزانية سنويًّا بالدولار | النسبة المئوية | |
---|---|---|
٧٩٧٠٠٠٠ | ||
رسوم الكَبْلات والبث اللاسلكي | ١٤٠٠٠٠٠ | ١٨ |
معدات التلغراف والأسلاك المؤجرة | ٢١٠٠٠٠٠ | ٢٦ |
رسوم التلغراف والهواتف المحلية | ٥٥٠٠٠٠ | ٧ |
رواتب عمال الميكانيكا والإدارة | ٩٠٠٠٠٠ | ١١ |
رواتب الصحفيين | ١٦٠٠٠٠٠ | ٢٠ |
رواتب المراسلين العاملين بدوام جزئي وباعة المعلومات السرية | ٥٠٠٠٠٠ | ٦ |
الضرائب (الفيدرالية والحكومية والأجنبية) | ٢٠٠٠٠٠ | ٣ |
ضرائب دخل الموظفين الأمريكيين بالخارج | ٢٠٠٠٠ | |
الإيجارات | ٢٥٠٠٠٠ | |
تكاليف السفر | ٢٠٠٠٠٠ | ٣ |
التوريدات والمستلزمات المكتبية (بما فيها الطابعات التلغرافية) | ٢٥٠٠٠٠ |
(٤) الشركات
عندما يغدو إجراء الصفقات أرخصَ عبر المؤسسات منه عبر الأفراد، تنشأ المؤسسات (سيلي براون ودوجويد، ٢٠٠٢). يمكن تطبيق القاعدة نفسها على إنتاج الأخبار؛ فمتى كان شراء الأخبار أرخصَ من إنتاجها ذاتيًّا، تنشأ وكالات الأنباء، وعندما يغدو إنتاج الأخبار أرخص لمؤسسةٍ منه لفرد (مثل ميسرز هافاس ورويتر ووولف)، تنشأ المؤسسات. دعت الضرورة لوجود وكالات الأنباء لأداء مهمة جمع المعلومات وتحويلها إلى خبر، وكان يمكن للأفراد أو مؤسسات الصحف القيام بذلك بأنفسها، غير أن تكاليف إنتاج الأخبار كانت أقل عندما اضطلعت بذلك وكالات الأنباء التي أُتِيحت لها المعلومات، وأُتِيحت لها العمالة المؤهَّلة لجمع المعلومات وتحريرها، وأُتِيحت لها التقنيات الحديثة.
أمكن لوكالات الأنباء أيضًا «تجميع» مصادرها بشراء الأخبار بعضها من بعض، ومن ثَمَّ ادِّخَار تكاليف جمع المعلومات ونقلها؛ ولهذا السبب جمع هافاس ورويتر ووولف في البداية بين مصادرهم، إذ كان من المنطقي ألَّا تغطي خدماتهم جميعًا بالضرورة المنطقةَ ذاتها، فاعتمدوا على تبادُل الأخبار فيما بينهم لتوفير خدماتهم لعملائهم، غير أنه كان من الضروري أن يتشاركوا جميعًا مفهومَ الخبر ذاته، وهو توحيد منتجهم بحيث يُعَدُّ في كل مكان خبرًا.
(٥) التقنيات الحديثة
تؤثِّر التكنولوجيا من خمس نواحٍ على الأقل على الأخبار؛ فأولًا: تُضفِي على الخبر أحدَ عناصره الضرورية، وهو حداثته، والمسألة هنا لا تنحصر في الوقت المستغرَق بين وقوع الحدث الذي يتناوله الخبر ونشره، بل يدخل فيها أيضًا فقْدُ الخبر لقيمته على نحوٍ أسرع من غيره من السلع الثقافية. ثانيًا: تسمح التقنيات الحديثة ببيع الأخبار في مناطق زمنية مختلفة؛ ومن ثَمَّ تتيح بيعها عدة مرات في أسواق مختلفة. ثالثًا: تسمح التكنولوجيا بنقل الأخبار عن البقاع النائية وكأنها قريبة. رابعًا: تؤثِّر التكنولوجيا على تسعير الخبر، فلتكاليف نقل الخبر تأثيرٌ مباشِر على آلية تحديد سعره؛ الأمر الذي احتلَّ أهميةً كبيرة في الأيام الأولى من ظهور كَبْلات التلغراف، عندما توقَّفت تكاليف نقل الخبر على المسافة التي يقطعها. خامسًا: تؤثِّر التكنولوجيا على شكل الخبر، فتعيَّن في الأيام الأولى من ظهور التلغراف أن يصبح الخبرُ قصيرًا قدرَ الإمكان توفيرًا لبعض تكاليف إرساله؛ مما أسَّسَ ما يُدعَى ﺑ «أسلوب البرقية» الذي تعيَّنَ بموجبه صياغة الخبر على أقصر نحو ممكن.
علاوة على ذلك، تحتاج الأخبار لتقنيتين تخدمان شكلين من أشكال دورة توزيعها؛ فما إن تُصنَع السلعة — أي الخبر — حتى يجب أن تنتقل إلى عملائها — أي الصحف — وهنا تُستخدَم تقنيةُ التلغراف والتلغراف اللاسلكي ﻟ «بث» الخبر، ثم «ترسل» الصحفُ الخبرَ لجمهور قرَّائها بطباعته و«نقله» ليُبَاع أو يُوزَّع مباشَرةً على المشتركين بها. احتاجت السلع الإلكترونية في عصر حركة التصنيع — على العكس من عصر المعلومات — إلى بثها ونقلها، وأدَّى هذان المطلبان كلاهما معًا إلى تأخُّر وصول الأخبار مقارَنةً بطبيعتها الآنية التي تميِّز عصر المعلومات.
(٦) الشكل
يجب التعرف على الخبر بوصفه خبرًا، فهذا يضفي عليه وضعًا خاصة تفتقر إليه ألوانُ الأدب الأخرى، ويجب أيضًا الفصل بينه وبين المعلومات التي يمكن الحصول عليها مجانًا، وينبغي أن يلزم أسلوبًا محدَّدًا (مَن قال ذلك؟ ومتى قاله؟ وأين قاله؟) لأنه يُستخدَم على نطاق عابر للقوميات. كما يجب أن يتكوَّن الخبرُ على نحوٍ يتيح بسهولة لشتى وسائل الإعلام في شتَّى بقاع العالم أخْذَ المقتطفات منه ونسخه وإعادة صياغته كليًّا أو جزئيًّا، وهذا يتصل في واقع الحال بما يُسمَّى بالموضوعية التي لا تتعلَّق بمدى موضوعية الخبر نفسه، بل بالكيفية التي يعبر بها عن آراء مختلفة، بحيث تستخدمه وسائل إعلام شتى في مختلف أنحاء العالم. وفوق كل شيء يجب أن يتَّسِم الخبر بموثوقيته، فبهذه السمة يتَّصف هذا المنتج الثقافي عينه؛ فلا يمكنه أن يزيِّف الحقائق (كأنْ يزيِّف إعلانَ انتهاء الحرب العالمية الأولى)، حتى إنْ سنح له الانحياز (وفقًا للمنظور الذي يمثِّله).
(٧) الأسواق
يمكن بسهولة بفضل التقنيات الحديثة إعادة إنتاج الأخبار وإرسالها إلى العديد من العملاء في آنٍ واحد، غير أن هذا عامل يولد صراعًا، فالكل يرغب في الحصول على الأخبار أولًا، ومن جهة أخرى لا يملك الجميع الحصول عليها أولًا؛ إذ عندما يغدو جمع الأخبار وتحريرها وإرسالها أرخص للعملاء من الأفراد، يضطلع هؤلاء الأفراد بأنفسهم بذلك (مثال على ذلك الأخبار المحلية). وعندما تغدو تكلفة جمع الأخبار وتحريرها وإرسالها باهظةً، تنشأ المؤسسات المشتركة أو تُشترَى الأخبار من مورِّد لها، أي من وكالة أخبار؛ لتصبح سوق الأخبار في نهاية المطاف — شأنها شأن أي سوق أخرى — مرتهنةً بحجم الطلب، وعندما تتشبَّع السوق بالأخبار، فلن تستمر إلا المؤسسات التي يمكنها إنتاج أنواع مختلفة من الأخبار (الأخبار المالية، على سبيل المثال).
تمتَّعَتْ وكالات الأنباء عادةً بسوق مزدوجة تخدم فئتين مختلفتين تمام الاختلاف من العملاء؛ تتشكَّل الفئة الأولى من الأفراد كالمصرفيين وسماسرة الأسهم والتجار الذين ينصَبُّ اهتمامهم بالدرجة الأولى على المعلومات المالية، إضافةً إلى الدبلوماسيين وحاشية الملوك الذين ينصَبُّ اهتمامهم على الأخبار الأجنبية. وكانت الأخبار المالية في الأساس معلوماتٍ ماليةً عن الأسعار في أسواق الأوراق المالية. أما الفئة الثانية من العملاء، فهي الصحف التي لم تكن بحاجة إلى الأخبار المالية فحسب، بل إلى الأخبار السياسية أيضًا، ويتضح من إمكان تمتُّع الأخبار بفئتين من العملاء مدى مرونتها كمُنتَج؛ إذ يمكن استخدامها لأغراض متعدِّدة بعدة أشكال. وقد وُجِدت هذه السوق المزدوجة منذ نشأة وكالات الأنباء، وأدَّت إلى تأسيس وكالات الأنباء المالية كَبْلومبيرج، أو وكالات الأنباء المالية بالدرجة الأولى كوكالة رويترز التي تصف نفسها اليوم بأنها وكالة معلوماتية.
لا تزال أغلب الوسائل الإعلامية تتمتَّع بسوق محلية تحدِّدها حدود الدولة، وتتمتَّع الأخبار المحلية بمكانة خاصة بالسوق؛ ومن هنا يمكن للأخبار أن تتمتَّع بعدة أسواق محلية، ويمكن أن تُستخدَم عدة مرات في مختلف الأسواق؛ لأن أسواقها تقع في مناطق زمنية مختلفة، ولأن كل وسيط محلي يقع في بقعة مختلفة يمكن أن يضيف عنصرًا أو منظورًا محليًّا للأخبار، وهو ما يُعرَف بعملية «تدويل» السوق بالمعنى المبتكر للكلمة؛ فلا تغدو السوق في الواقع دولية، وإنما تتشكَّل من سلسلة من الأسواق المحلية المختلفة، بَيْدَ أن هذا يعني أن كل وكالة أخبار تتمتَّع بعدة أسواق محلية وأجنبية، وأن الأخبار يمكن أن تُستخدَم بها جميعًا.
(٨) الأسعار
ينطوي تسعير الأخبار على مشكلات بسبب طبيعتها المزدوجة بوصفها سلعةً عامة وخاصة؛ إذ تتغيَّر طبيعة الأخبار خلال عملية إنتاجها، فتكون بدايةً سلعةً عامة لأن معلوماتها كانت في أغلب الأحوال مجانيةً، مع أن توقيتها قد يشكِّل فارقًا في سعرها (الأولوية الأولى). وعندما تغدو المعلومة خبرًا تصبح حصريةً وسلعةً خاصة، وتبقى كذلك حتى نشرها أو إلى أن تغدو من جديد سلعةً عامةً وينتفي عنها وصفها كخبر لتتحوَّل من جديد إلى معلومة.
يتوقَّف تسعير الأخبار أيضًا على المنافسة، فقد اعتاد الكثير من وكالات الأنباء احتكارَ الأخبار؛ ومن ثَمَّ لا تواجه منافَسةً في سوقها المحلية، ويُبرَّر هذا اللجوءُ للاحتكار كثيرًا بالحاجة إلى الأخبار كسلعة عامة يمكن للصحف كافة شراؤها، ويمكن من ثَمَّ للجماهير بصورة غير مباشِرة شراؤها، وللسبب نفسه تُدعم الأخبار وتقنيات الأخبار بصور مباشِرة وغير مباشِرة. وإن لم تُحتكَر — كما في السوق الأمريكية — تُتَّخَذ عادةً تدابيرُ احتكارية تمنع المنافَسةَ الحرة (على سبيل المثال، لا يُسمَح لأعضاء وكالة أسوشيتد برِس بشراء الأخبار من شركات أخرى، ولا يُسمَح لهم ببيع الأخبار لغير الأعضاء بالوكالة).
(٩) حصرية الأخبار
عندما ابتكَرَ ميسرز هافاس ورويتر ووولف نشاطَهم التجاري الجديد، يرجح أنه لم تكن لديهم أدنى فكرة عن مدى صعوبة حماية السلعة المعلوماتية الجديدة التي أوجدوها؛ إذ اتسمت الأخبار المنقولة إلكترونيًّا بعمر أقصر من غيرها من المنتجات الثقافية كالكتب أو الصور الفوتوغرافية؛ ومن ثَمَّ وُصِفت بأنها سلعة مرتهنة بالزمن لا قيمةَ لها إلا إنْ كانت جديدة (بوشر، ١٩١٥). وهي السلعة الأكثر قابليةً للهلاك من بين السلع (رينجز، ١٩٣٦)، وتفقد قيمتها أسرع كثيرًا من غيرها من السلع الثقافية؛ ولذا فليس هناك ما يُسمَّى بأخبار الأمس.
تحتاج الأخبار المنقولة إلكترونيًّا في العديد من مراحل دورتها — حسبما يرى مالكوها — إلى حمايتها؛ إذ تباع أثناء هذه الدورة وتُشترَى ويختلف مالكها، لكن بكل مرة يختلف بها مالكها، تختلف هيئتها ليتعيَّن علينا من جديد إثارة قضية حصريتها؛ فهي تتسم بطبيعة متقلِّبة، وتتبدَّل هيئتها على الدوام لتتحوَّل إلى شيء لا يشبه بالضرورة هيئتها السابقة.
في الوقت الراهن … لا يُسمَح لأية صحيفة بإعادة نشر البرقيات التي ظهرت على صفحات صحيفة أخرى، إلا بعد مضي اثنتين وسبعين ساعة، أو مرور ثلاثة أيام من أول نشر لهذه البرقيات في الصحيفة التي استقبلَتْها ودفعت الأموال لقاء الحصول عليها. غير أن هذا الشرط على ما يبدو لا يمنع بعضَ الصحف المحلية من استخدام البرقيات التي تستقبلها صحف العاصمة دون الدفع مقابلها أو الإقرار بأخذها منها بأية صورة؛ فتقرصِن ببساطة هذه البرقيات التي تُبرَق إليها بواسطة مراسلين فور صدورها في صحف بيرث، ويُعِيدون نشرها ضمن أعدادها المعتادة بعد انقضاء فترة حماية الخبر التي تدوم لثلاثة أيام (بوتنيس، ٢٠٠٢).
لم تحظَ الأخبارُ — كما يشير بوتنيس (٢٠٠٢) — بحماية خاصة في التشريعات المتصلة بحقوق النشر في كثير من البلاد، ولا عجب في ذلك بما أن تلك لم تكن الحالةَ الأولى التي تسبق بها التقنيات الحديثة التشريعات. وثمة منظوران متعارِضان هنا حول حصرية الأخبار؛ يَعُدُّ المنظورُ الأول الأخبارَ سلعةً عامة عند نشرها، ولا يمكن أن تلحق بها أي حقوق نشر (بوتنيس، ٢٠٠٢). وعلى هذا النهج سارت الأمور في عهد ما قبل التلغراف، عندما نسخت الصحف إبَّانه أخبارَها من صحف أخرى، فلم تُول أهمية لكون الأخبار مستخدمة من قبلُ، بما أن الصحف التي نشرتها أولًا تمتَّعت بموقف متفوِّق ببساطة؛ لأنها كانت الأولى في نشر الخبر. من هنا لم تكن أغلب الأخبار الأجنبية في الصحف بعهد ما قبل التلغراف إلا أخبارًا «مستعارة» من صحف أخرى مُلحَقة بإشارة إلى مصدرها سيرًا على نهج الممارسات الصحفية السليمة (على سبيل المثال، رانتانن، ١٩٩٠).
أما المنظور الثاني — حقوق الملكية الفكرية في الأخبار — فقد نُوقِش في الكثير من البرلمانات والمؤتمرات المتخصِّصة، وسيستمر النزاع حوله في المحاكم لأعوام حول العالم؛ إذ جعلت تقنية العصر الجديدة آنذاك — التلغراف — مسألةَ حصريةِ الأخبار أكثر تعقيدًا؛ لأن الرسائل كانت تنتقل فورًا إلى عدة أماكن في الوقت نفسه مجاوزة الحدود القومية. ومع الاتصالات الإلكترونية، باتَتْ إعادة إنتاج الأخبار ونقلها أكثر سهولةً من ذي قبلُ، لكن للسبب نفسه تحديدًا أضحَتِ السيطرةُ عليها أكثر صعوبةً بكثير من ذي قبلُ.
تتصل مسألة حقوق الانتفاع الحصرية بالأخبار غالبًا بملكيتها، وقد عُدَّ «شكل» ملكيتها يومًا ما عاملًا مهمًّا في هذا الشأن؛ فعندما كانت الأخبار ملكيةً خاصةً، كان يُنظَر إليها كأيِّ سلعة تُباع وتُشترَى، لكن مع تملُّك الدول لها أضحَتْ تابعةً للدولة؛ ومن ثَمَّ باتَتْ ملكية «عامة»، ولم تَعُدْ تستهدف بالدرجة الأولى جنْيَ الأرباح. لكن مع ظهور الملكية التعاونية، باتَتْ ملكيةً يتقاسمها أعضاءُ الاتحاد وحدهم دون غيرهم.
مع أن أغلب وكالات الأنباء — أيًّا كانت صورة ملكيتها للأخبار — اتَّفَقَتْ على حماية أخبارها بموجب قوانين حقوق النشر، فقد اختلفت فيما بينها اختلافًا جوهريًّا حول طبيعة الأخبار؛ حول إن كانت سلعةً تُصنَع بالدرجة الأولى لجنْيِ الأرباح لملَّاكها، أم سلعةً يتقاسمها الجميع. غير أن هذين المنظورين لم يكونَا بالضرورة متناقضين تمامًا، بل عُدَّا أيضًا مكملين أحدهما للآخَر، لكن عندما عُدَّا كذلك تطلَّبَ الأمرُ إجراءاتٍ أخرى لحماية حصرية الأخبار.
(١٠) احتكار الأخبار عالميًّا ومحليًّا
من المثير للدهشة أن احتكار الأخبار — الذي كان يُنظَر إليه عادةً على أنه يتصل بالدرجة الأولى بمؤسسات احتكارية خاصة أو حكومية — قد شكَّلَ مشكلة في سوقين من كبرى الأسواق المحلية على مستوى العالم؛ في سوق الولايات المتحدة الأمريكية وأستراليا (رانتانن، ١٩٩٧)، حيث جرَتِ العادةُ منذ وقت طويل على اتهام وكالات الأنباء التعاونية باحتكار سوق الأخبار المحلية؛ فليس هناك — كما أوضح شمانسكي (١٩٨٦) — ما ينبئ عن تفوُّق أخلاقي على الإطلاق في نمط الملكية التعاونية؛ إذ كانت ببساطة الوسيلة التي مارَسَ بها أعضاءُ أسوشيتد برِس الأمريكية سياسةَ التمييز في الأسعار وسياسة العضوية المقصورة.
من جهة أخرى، لا يمكننا فهم احتكار الأخبار إنْ فصلنا بين السوقين الأجنبية والمحلية؛ فعندما أضحت الأخبار المنقولة إلكترونيًّا سلعةً محتكرة بالسوق العالمية، تكرَّرَ المنوال نفسه في السوق المحلية. بعبارة أخرى، النقطة المشتركة الحاسمة بين كلتا السوقين هي تحوُّل الأخبار إلى سلعة حصرية، ليس بالسوق العالمية فحسب بل بالسوق المحلية أيضًا، وقد فشلت الدراسات السابقة على ذلك في استيعاب أن هذه العملية تحدث في الوقت نفسه بكلتا السوقين.
الاضطلاع بصناعة الأخبار على نطاق عالمي يزيد من المخاطر التي تتعرَّض لها؛ فرغم أن وكالات التلغراف الأولى باعت الأخبارَ أحيانًا للصحف المستقلة مباشَرةً، فإنها لم تستطع حماية حصرية منتجها. ومنذ تأسيس وكالات التلغراف في شتى المواقع، وضع هافاس ورويتر ووولف نظامًا لبيع الأخبار المنقولة إلكترونيًّا على نطاق عالمي، وبما أنه لم يكن هناك آنذاك نظام لحماية حقوق النشر، وضعت وكالات الأنباء نظامًا لتبادُل الأخبار عبر الحدود القومية، وهو نظام وُصِف فيما بعدُ باتحاد إخباري احتكاري دولي، وقام على اتفاقية بين هافاس ورويتر ووولف طرفًا، وبين وكالات الأنباء الأخرى طرفًا آخَر.
قام هذا النظام على مبدأ عدم التنافس وعدم حصرية الأخبار بين الوكالات الثلاث، وعلى مبدأ التنافس وحصرية الأخبار بينها وبين الشركات الأخرى؛ فعُدَّتِ الأخبارُ المنقولة إلكترونيًّا في البداية غيرَ حصرية لا يُتنازَع عليها، وأمكن تبادُلها بحرية بين وكالات هافاس ورويتر ووولف، ثم باتَتْ تُعتبَر حصريةً يُتنازَع عليها وتُباع للأطراف الأخرى. وقد وقَّعت الوكالات الثلاث بصفة دورية اتفاقياتٍ أُبرِمت فيما بينها ومع الأطراف الأخرى لتنظيم حركة البيع العالمية للأخبار المنقولة إلكترونيًّا والرقابة عليها، ووُقِّعت أولى هذه الاتفاقيات في باريس عام ١٨٥٩، ووُقِّعت آخرها عام ١٩٣٢، ثم أنهى العقدُ المُوقَّع بين وكالة رويترز والأسوشيتد برِس في نيويورك عام ١٩٣٤ اتفاقَ الوكالتين على الانتفاع الحصري بالأخبار العالمية.
مع أن ميسرز هافاس، ورويتر، ووولف قد أسَّسوا جميعًا شركاتهم الخاصة، فإن ملكيتهم الخاصة شهدت تحديًا منذ البداية؛ ومن هنا كانت فكرة إنشاء وكالة أخبار تعاونية مهمة (على سبيل المثال، بويد-باريت، ١٩٩٨؛ بويد-باريت ورانتانن، ٢٠٠١)؛ لأن هذه الوكالات أمَدَّتْ عملاءها بالأخبار المحلية والدولية بسعر أقل من السعر الذي سيتكبده العملاء لتوفير الأخبار لأنفسهم؛ مما قلَّصَ بالمقابل تكلفةَ توفير الأخبار للجمهور، وأسهم في تشكيل الشعب الواعي، وهو المطلب الضروري للديمقراطية. أيضًا خدمت هذه الوكالات نطاقًا عريضًا من العملاء؛ إذ خدمت وسائل الإعلام (من الإعلام المطبوع إلى الإلكتروني، ومن الكبيرة إلى الصغيرة، ومن المؤسسات والأفراد المحدودة النطاق إلى المؤسسات والأفراد المتعددة الثقافات والجنسيات، تلك المؤسسات السياسية والحكومية والاقتصادية والمالية)، وقدَّمَت هذه الوكالات الأخبارَ في شكل يمكن تنقيحه والإضافة إليه وإعادة استخدامه في الوقت ذاته بالعديد من الدول؛ مما لا يسهم فحسب في عولمة الأخبار، بل أيضًا في التجربة العالمية التي خاضتها الجماهير حول العالم.
نجحت الحكومات في العديد من الدول الأخرى في السيطرة على حركة نقل الأخبار، مبرِّرة في الكثير من الأحيان إجراءاتِها بالإشارة إلى أنها تصبُّ في الصالح العام؛ وسيطرت على وكالات الأنباء التي عملت في كثير من الأحيان كوكالات قومية احتكرت سوقها المحلية وتملكتها، فقامت روسيا وألمانيا والإمبراطورية النمساوية المجرية والعديدُ من دول البلقان قبل الحرب العالمية الأولى، بضمِّ وكالات أنباء حكومية؛ تمتعت — شأنها شأن وكالات الأنباء الخاصة والتعاونية — بعملاء من الدول الأجنبية دفعوا مقابل الحصول على خدماتها، وكانت وكالاتِ أنباء مملوكةً للحكومات التي سيطرت عليها أو موَّلتها أو مارست كل هذا، وحصلت في كثير من الأحيان على رسوم خاصة مقابل نقل الأخبار من وكالة تلغراف حكومية. وبفضل المكانة المتميزة التي تمتَّعت بها باتَ من الصعب على الوكالات الخاصة أو التعاونية منافستها على الصعيدين الوطني والدولي.
تصاعَدَتْ أصوات في أستراليا وفي العديد من الدول الأخرى بأن الحكومات تحتاج إلى الاضطلاع بدور ريادي في توفير الأخبار المنقولة عبر التلغراف وفي نشرها، بتأسيس خدمات إخبارية مجانية يموِّلها القطاعُ العام (بوتنيس، ٢٠٠٢). وغازلَتْ عدة حكومات أسترالية العقولَ بفكرة أن تتيح الحكومةُ الأخبارَ الخارجية المهمة للجمهور انطلاقًا من كونها الوسيلةَ الوحيدة لضمان التوزيع العادل للمعلومات الهامة، غير أنها — كما يوضِّح بوتنيس — لم تنجح في مساعيها؛ لأن الملكية الخاصة للأخبار كانت ضرورةً هامة كفلها قانون حقوق النشر (بوتنيس، ٢٠٠٢).
(١١) الاحتكار المحلي
يقوم نموذج وكالات الأنباء التعاونية — حيث تشترك الصحف في ملكية وكالة أنباء — على فكرة عدم التربُّح، ولكن يتشارك أعضاءُ هذه الشراكة الأخبارَ. وقد كانت أولى مؤسسات الأخبار التعاونية على مستوى العالم هي وكالة أسوشيتد برِس الأمريكية التي تأسَّست عام ١٨٤٦ (بلوندهايم، ١٩٩٤)، عندما أسَّست ستُّ صحف بمدينة نيويورك مؤسسةً لتقاسُم تكاليف جمع الأخبار عبر «زوارق الأخبار» التي التقَتْ بالسفن القادمة من أوروبا. خضعت وكالة أسوشيتد برِس لاحقًا للتنظيم بموجب قوانين الشركات في ولاية نيويورك؛ إذ كانت مؤسسة تعاونية غير هادفة للربح، لا يتشارك في ملكيتها حَمَلَةُ أسهم، وانتفت عنها صور الملكية التجارية الأخرى، ويُنتخَب أعضاؤها في الأساس بالحصول على موافقة ما لا يقل عن أربعة أخماس أعضاء المؤسسة، لكن بإنهاء عمل الأعضاء، تسقط عنهم جميع الحقوق والمزايا (نيوز أجانس، ١٩٥٣). وقد صُدِّر هذا النموذج بحماس لسائر دول العالم مع توسُّع الولايات المتحدة؛ فصُدِّر أولًا إلى أمريكا الجنوبية بعد الحرب العالمية الأولى، ثم انتقل إلى سائر العالم بعد الحرب العالمية الثانية (كوبر، ١٩٤٢).
أُبرِمت اتفاقيةٌ رسمية لجمع الأخبار بصورة تعاونية عام ١٨٤٨، عندما اتفقَتْ ستُّ صحف صباحية بنيويورك (صحيفة ذا كوريير آند إنكوايرر، إكسبرِس، هيرالد، جورنال أوف كوميرس، صن، تريبيون) على تقاسُم تكلفة الأخبار المنقولة عبر التلغراف، غير أن هذا التحالُف بمصادفةٍ ما صارَ يُعرَف باسم أسوشيتد برِس — أو باسم نيويورك أسوشيتد برِس في السنوات اللاحقة (روزووتر، ١٩٣٠؛ سويندلر، ١٩٤٦). اتضح منذ البداية، كما يشير سويندلر، أن الصحف التي أسَّست هذا الاتحاد أرادَتْ أن تُبقِي الأخبارَ قيدَ سيطرتها المحكمة، وقد صرَّح رئيسٌ للاتحاد فيما بعدُ: «لا ننوي تفويضَ أيِّ سلطات … جمْعُ الأخبار هو نشاطنا، ولا نعتزم أن يشاطرنا إياه أحدٌ» (جراملينج، ١٩٤٠؛ انظر أيضًا ستون، ١٩٢١).
- (١)
جميع الأخبار المنقولة عبر التلغراف — عدا بعض الاستثناءات المنصوص عليها — تُتاح لجميع الأعضاء.
- (٢)
لا يتم قبول أعضاء جدد بالاتحاد دون الموافقة بالإجماع.
- (٣)
يمكن بيع الأخبار التي يحصل عليها الأعضاءُ أو وكلاؤهم لأطرافٍ أخرى بغرض تحقيق النفع العام للاتحاد.
- (٤)
لا يحقُّ للصحف الأعضاء الحصولُ على الأخبار من الصحف غير الأعضاء أو من أي اتحاد إخباري آخَر، ولا تُفصِح عن الأخبار لهذه الصحف (سويندلر، ١٩٤٦).
- (١)
نصَّتْ قوانينه الخاصة على العضوية الحصرية، وعلى عدم تأسيس العلاقات مع الصحف أو وكالات الأنباء الأخرى.
- (٢)
ولا يتم قبول أعضاء جدد به في النطاقات التي يتمُّ نشر صحف الاتحاد بها بالفعل، إلا بموجب القوانين الخاصة بالأعضاء المحليين أو مجالسهم.
- (٣)
يُحظَر على أي عضو قبول الأخبار أو تقديمها لأي أطراف خارجية أو نشرها قبل موعد النشر.
رُفِعت دعوى قضائية أخرى عام ١٩١٥ عندما علَّق اتحادُ أسوشيتد برِس عضويةَ صحيفة شيكاجو إنتر أوشن بعد تبادُلِها الأخبارَ مع صحيفة نيويورك صن التي أُعلِن من قبلُ كونها خصمًا للاتحاد؛ مما دفع صحيفة شيكاجو إنتر أوشن إلى السعي للحصول على أمر زجري وطلب تعويض، واستئناف القضية من المحكمة الأصلية، حيث أيَّدت محكمةُ الاستئناف إجراءاتِ الاتحاد، فرفعت الصحيفةُ القضيةَ إلى المحكمة العليا (انظر: روزووتر، ١٩٣٠؛ سويندلر، ١٩٤٦؛ بلانشارد، ١٩٨٧). وقد رفعَتْ وزارة العدل عام ١٩٤٢ دعوى مدنية ضد الأسوشيتد برِس بناءً على قانون شيرمان لمكافحة الاحتكار، بدعوى أن أنشطة الوكالة مثَّلت جمعًا للعقود وتآمُرًا يقيِّد الأخبارَ والمعلومات والاستخبارات التجارية بين الولايات العديدة، في محاولةٍ لاحتكار جزء من هذه التجارة، ومثَّلت أيضًا جمعًا للعقود وتآمُرًا لاحتكارها (بلانشارد، ١٩٨٧؛ رانتانن، ١٩٩٨). وقد أوضحَتْ كلُّ هذه الدعاوى القضائية بالأمثلة أن الأخبار أضحَتْ نشاطًا تجاريًّا، وقد غَدَا تحديدُ إنْ كانَتْ تجب مساواتها بأي نشاط تجاري آخَر؛ مثارَ خلاف.
(١٢) هل هي نهاية عهد اقتصاد الأخبار؟
غيَّرَتْ حركة تصنيع الأخبار القصصَ الجديدة وحوَّلتها إلى أخبار يمكن أن تُشترَى وتُباع على نطاق واسع، وقد شملت هذه العملية حركةَ المهنية، وفيها انفصلت أدوارُ ناقلِي الخبر وموفِّرِي محتوى الخبر ومحرِّريه بعضها عن بعض. وفي الوقت نفسه، صار للأخبار محتوًى وشكل وإطار زمني فريد. كان المنتَج الجديد — الأخبار — جاهزًا للانتقال إلى الأسواق العالمية الجماهيرية.
كانت الأخبار منذ البداية مُنتَجًا يصعب تسعيره. ومع أنه كان من الممكن بيعها للكثيرين، فقد كانت سلعةً خفيفةً فقدت قيمتها بسهولة. كذلك كان من الصعب تبيانُ السمة الفريدة جدًّا للأخبار التي جعلَتْها مختلفةً عن غيرها من السلع المعلوماتية. لِمَ كان المرء يشتري الأخبار؟ من أجل محتواها، أم سرعتها، أم موثوقيتها، أم علامتها التجارية، أم مكانتها؟ المؤسسات الجديدة التي وقفت خلفَ الأخبار — أيْ وكالات الأنباء — أضفَتْ عليها مكانةً وانتظامًا وعلامة تجارية، فلم تَعُدْ أخبارًا من أيِّ مصدر، بل من مصدر مميَّز وموثوق به.
عندما اتَّسَع نطاق التكنولوجيا وسيطرت عليها الدول أو الشركات الكبرى كان تحوُّل الأخبار إلى أخبار حصرية أسهل، ومع تطوُّر أحدث تقنيات الإعلام والاتصالات باتَتْ «سرقة» الأخبار في الطريق أسهل كثيرًا؛ ففي العصور الوسطى كانت القصص الإخبارية في الغالب قصصًا يتشاركها الناس، أما الأخبار التي يحملها الرسلُ فكانت حصرية وسهلة السرقة. وفي عصر التصنيع، أُرسِلت الأخبار عبر خطوط التلغراف، وكانت سرقتها في الطريق أصعبَ بكثيرٍ؛ لأنها كانت تُرسَل عبر سلك، لكنها في كثيرٍ من الأحيان كانت تتعرَّض للسرقة لدى نشرها. أما في عصر المعلومات، فباتَتِ الأخبار متعددةَ المشارب وتنتقل بطرق كثيرة من مصادر عدة إلى درجة أنها صارت تقريبًا تفقد طبيعتها الأبدية وأصالتها على الفور؛ صارت الأخبار تتمتَّع بعمر أقصر، وفقدت قيمتها على نحو أسرع من ذي قبلُ، وفوق كل شيء بات من السهل سرقتها لأنها متاحة إلكترونيًّا.
تزايدَتْ صعوبة الفصل فصلًا واضحًا بين الأحداث والمعلومات والمصادر والأخبار؛ فأغلب الأحداث منظَّمة وتغدو «إخبارية» حتى قبل أن تقع، وتتوافر المعلومات من حولنا بكل مكان، وتشبه في شكلها الأخبار. ومصادر الأخبار متنوعة بشكل ضخم، ويمكن لأيٍّ مَن كان أن يصبح مصدرًا للأخبار بفضل تقنيات الإعلام والاتصالات الجديدة، علاوةً على أن الأخبار متاحة مجانًا على نواصي الشوارع، وفي نقاط الالتقاء على شبكة الإنترنت. وعلى المرء أحيانًا أن يرفض المزيدَ من الأخبار في دورتها القائمة على مدار الأربع والعشرين ساعة المزدحمة بالأحداث والأخبار والمصادر والمعلومات.