إضفاء الطابع المحلي على الأخبار
القصص، سواء أكانت عن الحياة اليومية أم الأدبية منها، تخدمنا كوسائل نقل عام (دي سيرتو، ١٩٨٤).
سلَّطَ الباحثون في وسائل الإعلام والاتصالات الكثيرَ من الاهتمام على «محتوى» الأخبار، عوضًا عن الاهتمام بقضايا أخرى. وكما يشير فيرجسون (١٩٩٠)، فإن «نموذج هارولد لاسويل لعملية الاتصال (التي تحاكِي تركيبتها تركيبةَ الخبر) يغفل الملامحَ الزمانية والتاريخية/السياقية للخبر؛ فالتركيبة التي تتكون من قائل الخبر وقناة نقل الخبر والأشخاص الذين نُقل الخبر إليهم والأثر الذي تحقق من وراء نقل الخبر، هذه التركيبة لا تتضمن «متى» نُقل الخبر ولا «أين».»
يُفترَض بقصة الخبر أن تجيب على الأسئلة التالية: «مَن؟» و«ماذا؟» و«متى؟» و«أين؟» و«لماذا؟» لكن «فهم الأخبار بوصفها ثقافةً» يتطلَّب سؤال أي فئة من الأشخاص يمكن أن يندرجوا تحت فئة «مَن»، وأي فئة من الأشياء تندرج تحت فئة «ماذا»، وأي جغرافيا وأي مفهوم للوقت يمكن أن يندرجَا تحت سؤالَيْ «أين» و«متى»، وما الذي يُعَدُّ شرحًا يجيب عن «لماذا».
لم يتجاهل الباحثون في حقل الاتصالات عنصرَ «المكان» فحسب، بل تبنَّوا أيضًا مفهومًا تقليديًّا له — بتعبير هالين (١٩٨٦) — «يبدو «المكان» للباحثين في حقل الاتصالات حقيقةً بسيطة، هي مباشِرة بقدر ما هي غير مهمة.» غير أن حقل البحث في مجال الاتصالات شمل حالات درس فيها الباحثون المكان. تطرَّقَ كاري (١٩٨٩) بشكل غير مباشِر إلى المكان في فصله فصلًا مؤثِّرًا بين النقل ووجهات النظر التقليدية عن عملية الاتصال، عندما أشار إلى المقاسمة والمشاركة والاشتراك وتشاطُر اعتقاد مشترك على أنها السمات المميزة للاتصال التقليدي، ويرى كاري (١٩٨٩) أن نموذج التواصُل ليس قائمًا على «اكتساب المعلومات»، لكنه فِعل «مفعم بالحركة ينضَمُّ فيه القارئ إلى عالم من القوى المتصارعة كمشاهد لمسرحية»، وإحدى الطرق التي ينضمُّ بها القارئ لهذا العالم هي الشعور بالمكان.
من ثَمَّ فإن مفهوم المكان لا غنى عنه للدراسات الإعلامية ودراسات الاتصال، وتشير الأعمال النظرية للعديد من المنظِّرين حول العولمة (من بينهم جيدينز، ١٩٩٠؛ وهارفي، ١٩٨٩) إلى أن مفهوم المكان صار أكثر أهميةً من أي وقت مضى؛ بتعبير جيدينز (١٩٩٠): «يمكن تعريفُ العولمة على أنها تكثيف العلاقات الاجتماعية القائمة حول العالم التي تربط بين «البقاع المحلية» البعيدة بعضها عن بعض على نحوٍ تتشكَّل فيه الوقائع المحلية بأحداث تقع على بُعْد أميال كثيرة، والعكس.» لكن يُغفَل بسهولة أن الأخبار المنقولة إلكترونيًّا بالقرن التاسع عشر قد أسهمَتْ بالفعل في حركة العولمة، وزادت من ثَمَّ شعور قارئ الخبر بالمكان، فبدأت الأخبار المنقولة إلكترونيًّا في القرن التاسع عشر في بناء الجسور بين شتى الأماكن، بتقريب الأماكن التي وقعت فيها الأحداث من قارئ الخبر.
تفتقر الأبحاث حول وسائل الإعلام والاتصالات في كثير من الأحيان للبُعْد التاريخي؛ إذ تسلِّط أغلب أبحاثها الضوءَ على القرن العشرين، ومن ثَمَّ تغفل أن الوسائط الإلكترونية الأولى التي ظهرت في القرن التاسع عشر — أيْ وكالات الأنباء — هي ما غيَّرَ مفهومَيِ الزمان والمكان، وأصبحت أداة مبكرة للعولمة، وقد كانت وسائل الإعلام الإلكترونية في القرن التاسع عشر هي الأولى في فصل الزمان عن المسافات بنقل الأخبار من البقاع النائية آنيًّا (رانتانن، ١٩٩٧).
لسوء الحظ، عندما خضع المكان للدراسة الفعلية في حقل الأخبار، انحصرَتْ دراسته في الدراسات الجغرافية التقليدية؛ فبدأت دراسات حركة تدفُّق الأخبار منذ خمسينيات القرن العشرين (منها على سبيل المثال دراسة «تدفُّق الأخبار» ١٩٥٣، لسريبيرني-محمدي وآخَرين) في دراسة جغرافيا الأخبار، فتأمَّلتْ مسألة «المكان» في إطار الدول التي اشتملت عليه، وتتبَّعتِ الحدود الجغرافية للدول (القومية) كما رسمتها على الخرائط. بعبارة أخرى، اهتمَّتْ دراساتُ حركة تدفُّق الأخبار بالدرجة الأولى بالكيفية التي تمثَّلت بها مختلف الدول في الأخبار مقارَنةً بأحجامها وتعدادها، وحتى هذا الاهتمام تحدَّدَ في إطار النسب المئوية. وتجاهلت عادةً دراساتُ حركات تدفُّق الأخبار أهميةَ المكان ودورَ الخبر في تشكيله، ولم ينتقل المكان لاحتلال أهمية بحثية إلا بفضل الجدل الدائر حول تضاؤل هيمنة الدول القومية في ظلِّ حركة العولمة.
(١) منهج بديل: جغرافيا العقول
يتوقَّف الاختلافُ بين تفسير الجغرافي للعالم وبين تفسير الفرد له في الحياة اليومية بالدرجة الأولى على درجة الوعي الذاتي لواضِع التفسير واختياره لمعايير تفسيره؛ ومن ثَمَّ قد لا يلتقي اهتمامُ الجغرافي بوضع وصف دقيق للعالم مع أهداف الفرد الذي يعنيه لعب دور في العالم.
(٢) لا شعور بالمكان
أثَّرَتِ التغييرات التي طرأت على الأماكن في الماضي في العلاقة بينها على الدوام؛ فقد أثَّرت في المعلومات التي يجلبها الأفراد إلى الأماكن، وفي المعلومات التي يمتلكها الأفراد في بعض الأماكن، غير أن وسائل الإعلام الإلكترونية زادَتْ على ذلك درجةً؛ فهي تقود تقريبًا إلى انفصالٍ شبه تامٍّ عن المكان المادي والمكان «الاجتماعي»؛ فعندما صرنا نتواصل عبر الهاتف أو الراديو أو التلفاز أو الكمبيوتر لم يَعُدْ مكاننا المادي يحدِّد «مكانَنا» الاجتماعي و«هويتَنا» الاجتماعية.
كتب مايروفيتز كتابه في أوان يسبق بكثير هذا الجدل الدائر حول العولمة، وتجاهَلَ فيه عنصرَ الزمان، غير أنه أشارَ في الواقع إلى الظاهرة نفسها، إلا أنه يزيد على جيدينز وهارفي بافتراضه أن تبعة انضغاط الزمكان هي «اللاشعور بالمكان». لقد عزَّزت الأخبارُ المنقولة إلكترونيًّا في القرن التاسع عشر في بادئ الأمر شعورَ قارئِ الخبر بالمكان من خلال جلب الأخبار في الوقت نفسه من العديد من الأماكن، فبدأ القارئ يغدو أكثر وعيًا بالمكان، وقد وعى به على نحو جديد؛ إذ قرأ الأخبار في منزله في حين أنها أتَتْ من بقاع نائية.
كما يتحدَّد تعريفُ الأخبار الأجنبية بعلاقتها بالعديد من جوانبها؛ فتُعرف (١) كأخبار محلية خارج البلاد، (٢) وكأخبار أجنبية داخل البلاد، (٣) وكأخبار أجنبية خارج البلاد (سريبيرني وآخرون، ١٩٨٥). وقد يكون مصدرُ القصة الإخبارية أجنبيًّا والعناصر التي تدور حولها أجنبية، وعادةً ما يكون مصطلحَا «الأخبار الأجنبية» و«الأخبار المحلية» مكافئين لمصطلح «الأخبار الأجنبية» في مقابل «الأخبار القومية». ويستند هذا المنهج إلى اعتبار الدول القومية نقطةَ بدء بديهية للدراسة، وإلى القبول بلا تحفُّظٍ بأن القصة الإخبارية الجديدة إما قصة «أجنبية» وإما «محلية»، بناءً على معرفة إن كانَتْ أحداثها قد وقعَتْ خارجَ الدولة التي يوجد بها وسيطُ نقلِ الخبر أم لا. وقد أوضحْتُ في عمل آخَر لي (رانتانن، ١٩٩٢) أنه منهج خاطئ؛ لأن الأخبار الأجنبية والمحلية تتشابكان بقوة بقدر ما يلتقي «العالمي» مع «المحلي»، وتُعَدُّ هاتان الفئتان من الأخبار مهمتَيْن؛ لأنهما تؤثِّران في تحديد العناصر التي تجعل الخبر خبرًا.
التمييز بين الأجنبي والمحلي خاطئ على اعتبار أن هذا التمييز يقتضي مُسبَقًا أن الأخبار الأجنبية وحدها تَرِدُ من المسافات البعيدة، أو من مكان «مجهول» الثقافة، لا لسبب إلا أنه أجنبي. غير أننا إن تأمَّلْنا المسافات الفاصلة بين البقاع داخل دولة قومية واحدة، فسنجد أنها تكون في كثير من الأحيان أكبر من المسافات الفاصلة بين بقعتين في دولتين قوميتين مختلفتين؛ فعلى سبيل المثال، قياسًا بالأميال، تبعد لندن عن إدنبرة أكثر مما تبعد عن باريس، مع ذلك تُعَدُّ الأخبارُ من إدنبرة أخبارًا «محلية»؛ لأنها تَرِد من المملكة المتحدة، فيما تُعَدُّ الأخبارُ من باريس «أجنبيةً». من ثَمَّ، عندما نتحدَّث عن المسافات والتغلُّب عليها، لا نشير إلى فاصل تقني فحسب، بل نشير كذلك إلى فاصل ثقافي. وهكذا، ذكَّرَتِ الصحفُ والأخبارُ بصفة دورية ومتكررة أبناءَ البلد الواحد بأنهم ينتمون إلى نفس الدولة القومية، كما أشار أندرسون (١٩٩١) في تنويهٍ شهيرٍ له.
غير أن الانتماءات لا معنى لها إلا إنْ كان الخبر يطرح للقارئ نقطةً تعيِّن هويته، وهي ما أتاح للقرَّاء — وما زال يتيح لهم — أن يكونوا بشتَّى الأماكن في وقت واحد؛ مما يعزِّز شعورَهم بالمكان. ويستخدم بيك (٢٠٠٠) مصطلحَ تعدُّد الأماكن للتعبير عن موقف يُتاح به للأفراد الوصولُ إلى العديد من الأماكن لا إلى مكان واحد فحسب؛ إذ يشير لمَن يسافرون فعليًّا، لكن بإمكاننا بسط نطاق مفهومه لجمهور الخبر، ووجه الاختلاف بالطبع هو أن جمهور الخبر يمكث بمنزله بينما تكون الأخبار هي ما يسافر.
من هنا نتطرَّق إلى مسألة العلاقات الاجتماعية التي تتوسَّطها وسائلُ الإعلام الجماهيرية (طومسون، ١٩٩٥؛ توملينسون، ١٩٩٤)، فإن قَبِلْنا بأن جميع العلاقات تقوم عبر وسيط (كاللغة على سبيل المثال)، تظل أمامَنا مسألةُ الاختلاف بين العلاقات التي تقوم على وساطة وسائل الإعلام الجماهيرية والعلاقات غير القائمة على وساطتها؛ فيرى توملينسون (١٩٩٤) أن الرئيس الذي نراه على شاشات التلفاز لا يمكنه أبدًا أن يغدو مألوفًا لنا كما يكون جيراننا أو حتى كما يكون شخص في نقطة نائية نتحدَّث إليه عبر الهاتف، وأحد الأسباب التي يسوقها توملينسون لذلك هو أن الرئيس الذي نراه على شاشات التلفاز لا يبدو لنا أبدًا كشريك في محادثة، ومن جهة أخرى حتى عندما يتشارك شخصان في محادثة على الهاتف، يكونان على وعْيٍ كبير بالاختلاف بين موقعَيْهما. وفي العلاقات التي لا تقوم على حوارٍ كقراءة الأخبار، تغدو الفجوةُ بين موقع الخبر وموقع قارِئه أكبرَ؛ فقارئ الخبر يرتبط ارتباطًا وثيقًا بموقعه فيما يقرأ الخبر؛ ومن هنا لم يتوهَّم قرَّاءُ الأخبار المنقولة إلكترونيًّا المطبوعة في الصحف بالقرن التاسع عشر أنهم في مكانين بالوقت نفسه؛ إذ تجلَّى الفارق بين ما هنا وما هناك من خلال المكان والتاريخ الخاصين بكل قصة إخبارية، ولم تَقُمْ محادثة بين الأخبار وقرَّائها، بل قامت العلاقة على عقد ضمني بأن يعيَ القرَّاءُ الاختلافَ بين موقعهم وموقع الخبر.
لكن لأن الأخبار تقع بمكانٍ ما، فهي تحثُّ القرَّاءَ على الانشغال بمكان آخَر، ويستخدم روبوثام (٢٠٠٠) تعبيرَ أوكلي «تغيير المشهد» (أو «الانحراف عن الوجهة») في وصفه لقراءة سيمون دي بوفوار للكتب في صغرها كوسيلة للانتقال إلى عوالم أخرى، ليعبِّرَ عن أثر الكتب على سيمون دي بوفوار. ويشير روبوثام إلى أن دقة اللغة الفرنسية تجعل كلماتها تحثُّ على عمليات ذهنية لا تزال غامضةً في الوعي الإنجليزي، وأفضل تعبير يصِفُ فكرةَ تغيُّرِ المكان مع قراءة الخبر في تحليلي هو تعبير «تغيير المشهد» (عوضًا عن الانحراف عن الوجهة الذي يُوحِي بالتباس المكان)، مع أنه حتى هذا المصطلح يفوِّت التعبيرَ عن قدرة الوعي بالأماكن الجديدة دون تغيير المكان ماديًّا في الواقع، التي تتيحها قراءةُ الخبر.
(٣) الموطن كمكان
وحتى إن كانت مواطن الأفراد/أماكنهم هي أكثر مكان يعرفونه، فالزيارات للأماكن الجديدة تُشعِرهم بالقرب أكثر من مواطنهم، وكثيرًا ما يتحدَّثون عن شوقهم للعودة إلى الأماكن التي زاروها، ويختزنون صورًا ذهنية لهذه الأماكن و/أو يعودون حاملين الصور أو التذكارات لها لتذكِّرهم بها، وحتى إن لم يزوروها بأنفسهم، فقد تساعدهم معرفتهم بشخص من هناك (سواء أكان قريبًا أم صديقًا أم صديقًا بالمراسلة) على بناء رباط يجمعهم بها. ومع أنهم قد تجمعهم روابطُ بأماكن بخلاف مواقعهم، فإن مواقع وجودهم والبقاع النائية عنهم تشكِّلان فئتين مختلفتين، مع أن كلتا الفئتين قد تستحضرهما أذهانهم؛ فالأفراد يحتاجون للشعور بالأمن حيث موطنهم، بَيْدَ أنهم في الوقت نفسه قد يساورهم فضولٌ تجاه الأماكن الجديدة. كتب كرانج (١٩٩٨) أن كل قصص الأسفار تعكس بناءَ وطنٍ إما يُفتقَد وإما نعود إليه، ومع ألفة موطن المرء، فقد يغدو مقيَّدًا ومملًّا؛ ومن هنا يشتاق الأفراد إلى الأماكن الأخرى لتحرير أنفسهم، وبتحديد مواطنهم يمكنهم أيضًا تحديد موقعهم في الفضاء المكاني الذي يدركونه بالتمييز بين المعلوم والمجهول.
(٤) السمات الخارجية للمكان في الخبر
كتب شابار (١٩٢٩) أن المسافرين كانوا يتعرضون لوابل من الأسئلة المتلهفة عن الأخبار التي حملوها من المناطق التي زاروها؛ إلى حد أن نقل المسافر للأخبار التي جمعها عُدَّ على أقل تقدير ضربًا من حُسْن الخلق — إن لم يكن واجبًا — كمقابل لحُسْن ضيافته. ومن الطرق القياسية التي استدلَّ بها المرء على الطريق إلى وجهته عبر أوروبا القرون الوسطى الاحتفاظُ بيوميات للرحلة يدوِّنها على مخطوطة سُجل فيها على الترتيب الأماكن التي جرى المرور بها، مع إشارةٍ إلى المسافات التي فصلت بينها (سبافورد، ٢٠٠٢). وأشارت الخطابات والبطاقات البريدية دومًا إلى الفارق بين مكان صدورها والمكان المُرسَلة إليه؛ لأنها بدأت في كثير من الأحيان بإشارة إلى مكان وتوقيت صدورها (على سبيل المثال: «هلسنكي، ٦ يونيو، ١٨٥٩»، مثال آخَر على ذلك: البطاقاتُ البريدية التي طُبِعت عليها أسماء الأماكن التي وردت منها، ولم تُطبَع بها أسماء البلدان التي وردت منها قطُّ تقريبًا). وقد سارت على النهج نفسه كتب الأخبار والرسائل والصحف، مع ذلك لا تحوي المسارد التاريخية الإعلامية القياسية الكثيرَ من المعلومات عن أهمية المكان، وكأنه ليس عنصرًا بالخبر، مع أن كل قصة إخبارية بدأت بمكان وتوقيت صدورها؛ مثال على ذلك كتابُ أخبار بعنوان «نسخة من خطاب مزدوج من نبيل إنجليزي من خلف البحار … يشمل الأحداث الحقيقية … لوفاة ريتشارد أتكينز في حريقٍ بروما، في الثاني من أغسطس عام ١٥٨١»، أو كتاب من عام ١٦٠١ بعنوان «أخبار من أوستند، الهجوم والحصار الشديد الذي ضربه الأرشيدوق ألبيرتوس وقواته … وأخبار أخرى من أوستند»، أو أخبار منشورة في كورونتوس تحت عنوان يشير إلى مكان وتوقيت صدورها جاءت كالتالي: «من البندقية، ١٣ يناير» (شابار، ١٩٢٩). وتضمَّنَ اسمُ العديد من الصحف — منها على سبيل المثال صحيفة لندن جازيت التي صدرت أول مرة عام ١٦٦٥، وكانت تصدر مرتين أسبوعيًّا — مكانَ طباعتها (هاريس، ١٩٧٨).
هذا التدفُّق للأخبار من شتى الأماكن، والمنشورة عشوائيًّا، التي لا يفصل بينها سوى التاريخ والزمان والمكان يستأهل نظرة عن كثب بشكل أكبر. لا شك أن الأخبار لم تَرِد جميعها عبر التلغراف، فقد ظلَّ بعضها يَرِد على متن السفن؛ فاستغرق على سبيل المثال وصولُ الأنباء من القسطنطينية وأثينا إلى مكتب وكالة رويترز في لندن سبعة أيام، فيما وصلت من برلين وتريستي في اليوم نفسه، وغدا الزمان والمكان أكثر ارتباطًا أحدهما بالآخَر في الأخبار على نحوٍ أكثر وضوحًا من أي وقت مضى، فولَّدت حركة تدفُّق الأخبار الإلكترونية انطباعًا بوجود فضاء عالمي تتصل فيه على الدوام وفي آنٍ واحد جميعُ الأماكن بعضها ببعض، وهذا يُعَدُّ أهم الإنجازات التي تمخضت عن نقل الأخبار إلكترونيًّا؛ فقد أَوحى بأنه أُتي بالعالم ليكون بين يدَيِ المرء في الحال.
لم تجمع الأماكن التي وردت منها هذه الأخبار قواسِمَ مشتركة إلا أنها كانت جميعًا جزءًا من شبكة رويترز، وبالرغم من الفوارق المسافية بينها، فقد اتصل بعضها ببعض لتشكِّل فضاءً عالميًّا من الأخبار. تدفَّقت الأخبار بغزارة دون انقطاع يوميًّا، وبعدما تسارعت وتيرة نقلها، تدفَّقت بغزارة كل ساعة، وتعددت أسماء الأماكن التي وردت منها، غير أنها تدفَّقت بلا نهاية وعلى نحوٍ متكرِّر بدرجة ما.
وقد كان هذا التكرار من أهم اكتشافات دراسات حركة تدفُّق الأخبار؛ فمع أن أغلب هذه الدراسات ينصبُّ اهتمامه على الحقب المعاصرة، فقد أظهرت الدراسات للحقب السابقة عليها كالقرن التاسع عشر على سبيل المثال أن مدنَ لندن وباريس وفيينا وبرلين كانت آنذاك مراكزَ نقل الأخبار الرائدة الجديدة (رانتانن، ١٩٩٠)، وأكَّدت هذه الدراسات على أن تركُّز الأخبار في هذه العواصم الهامة زادَ من أهمية هذه العواصم كأماكن؛ ولا شك في صحة هذا، وفي أنه كان من المؤشرات الأولى على قيام «مجتمع شبكي عالمي» (كاستيلز، ١٩٩٦) يتشكَّل بالدرجة الأولى من المدن الكبرى، لكن بدأت بالوقت نفسه أسماءُ هذه الأماكن تفقد أهميتها لأنها تكرَّرت مرارًا وتكرارًا.
تجمع اللاأماكن قواسِمَ مشتركة مع الفئة الأولى لدينا من الأماكن العامة ظاهريًّا، لكن التي لا توحي بألفة مع ذلك، والتي تثني العزم عن «الاستقرار» بها؛ مما يجعل فكرة الإقامة بها أو اتخاذها مقرًّا مستحيلةً بكل الصور.
للمكان دلالة رمزية من ثلاث نواحٍ؛ فهو يتصل بالهوية وبالعلاقة مع الآخَر وبالتاريخ؛ فيدل على علاقة مَن يحتلونه بأنفسهم، وعلى علاقتهم مع الآخرين بالمكان نفسه، وعلى علاقتهم بتاريخهم المشترك. وتضاعُف أعداد «اللاأماكن» هو سمة من سمات عالمنا المعاصر، ومن سمات أماكن المرور (كالطرق السريعة، والممرات الجوية) وشبكات الاستهلاك (كمتاجر التسوُّق الكبيرة) وشبكات الاتصال (الهاتف والفاكس والتلفاز)، ووضع المستهلك أو المتنقل الوحيد ينطوي على علاقة تعاقدية مع المجتمع، وهذه اللاأماكن المعيشة التي تولد اتجاهات عقلية وأنواعًا من العلاقات مع العالم هي من سمات عالمنا المعاصر التي تتكشف وتُعرَف باختلافها عن مراحل العصر الحديث الأبكر.
(٥) السمات الداخلية للأماكن في الأخبار
لفهم أهمية المكان في الخبر، من المهم الغوص في قلب الخبر وسَبْر سماته الداخلية لنرى كيف يُبنَى الخبر. تقع الأحداث بمكان في موقع محدَّد؛ مما يجعل المكان جزءًا لا يتجزَّأ من البناء الإخباري للحدث، ويرى بيل (١٩٩١) أن المكان والزمان يشكِّلان معًا خلفيةً للحدث الإخباري. ومع أن بيل يضع تحليله للأخبار الإذاعية اليوم، فإن منهجه يمكن تطبيقه على أخبار القرن التاسع عشر؛ فهو منهج يتيح فرصةً للذهاب لما وراء البقاع المهمة بالخبر كالمدن والبلدان على غرار التحليل الذي سلكناه في الجزء السابق. والمثال التالي برقية من السيد رويتر بمناسبة زيارة دوق روسيا الأكبر قسطنطين لباريس عام ١٨٥٨.
سأتبع نهج بيل لإيضاح بناء الزمان والمكان في هذه البرقية.
أول مكان يَرِد ذكرُه هو مكتب السيد رويتر دون الإشارة إلى مكانه بلندن؛ لأنه معروف بديهيًّا. في الواقع، يمثِّل مكتب السيد رويتر ما يشار إليه في حقل بحوث حركة تدفُّق الأخبار ﺑ «المصدر»، أو الوكالة التي تنقل الخبر، أما أول موقع جغرافي يَرِد اسمه مع «التوقيت» (التاريخ) ويبدأ به الخبر فهو باريس؛ لا شك أن المكان في الخبر يختلف باختلاف الشخص. وكما أشرت من قبل، تتناول دراسات حركة تدفُّق الأخبار الخبرَ على مستوى الدول (القومية)، وتفصل بين أنماط الأخبار الأجنبية المختلفة على أساس موقعها، وأول مكان يَرِد ذكرُه في القصة الإخبارية يُعرِّف الخبرَ إما كمحلي وإما كأجنبي؛ ومن ثَمَّ إنِ استخدَمْنا في هذه الحالة أنماطَ الخبر التي تستخدمها دراساتُ حركة تدفُّق الأخبار، فستُصنَّف البرقيةُ على أنها نبأ محلي بالخارج لدى القارئ الروسي (الدوق الروسي الأكبر يزور باريس)، فيما ستُصنَّف كنبأ أجنبي في بلد القارئ الفرنسي (دوق روسي في بلده)، وتُصنَّف لدى القرَّاء الآخرين كنبأ أجنبي يشمل مدينةً أجنبية وفاعلًا أجنبيًّا؛ إذ تعبِّر أسماءُ الأماكن في كثيرٍ من الأحيان — كما يشير هالين (١٩٨٦) وبيل (١٩٩١) — عن الفاعل عوضًا عن الإشارة إلى المكان؛ فاعل سياسي وليس منطقة جغرافية.
المكان | الزمان |
---|---|
مكتب السيد رويتر | ٢٠ من ديسمبر |
باريس | مساء الإثنين، ٢٠ من ديسمبر |
(قسطنطين دوق روسيا الأكبر) | اليوم في الساعة الواحدة والنصف |
(الإمبراطور) | الساعة الثانية مساءً |
(الأسرة الإمبراطورية) | بعدها |
السفارة الروسية | بعد ذلك |
قصر تويليري | هذا المساء |
الأوبرا | فيما بعدُ |
السفارة الروسية | غدًا |
مارسيليا | مساء الغد في الثامنة مساءً |
بالمثل يعبِّر الفاعل في الخبر في كثير من الأحيان عن مكان ما؛ ومن ثَمَّ يعبِّر في هذه الحالة الدوقُ قسطنطين الأكبر أو أفرادُ الأسرة الإمبراطورية عن فاعل ومكان، ويعبِّر الدوق الأكبر في الوقت نفسه عن روسيا الإمبراطورية في فرنسا.
اسم مكان الحدث يعبِّر عن المستوى الأعم من المكان، فالأخبار تبني في الأذهان أماكنَ أصغر تسمح للقارئ بتحديد موقع الحدث من حيث علاقته به، ولا شك أن الأماكن على المستوى الأعم تحمل مدلولًا مختلفًا لكل قارئ؛ فمَن يقيم في باريس أو مَن زارها يعرف مكانَ الأوبرا أو قصر التويليري، أما القرَّاء الآخَرون فقد يألفون أو لا يألفون هذه الأماكن من القراءة أو السماع عنها، والقارئ المقيم بباريس أو الذي سبقت له زيارتها يَعِي على الأرجح مكانَ السفارة الروسية، مع أنه قد يكون لا يعرف أنها مرادفة للدولة الروسية كما هي في هذه الحالة، وكما يُعَدُّ قسطنطين دوق روسيا الأكبر مرادفًا للدولة الروسية. تنتمي مارسيليا لنفس فئة الأماكن مثل باريس، وهي مألوفة للعديد من القرَّاء كمدينة فرنسية، لكن لا يعلم المزيدَ عنها إلا القليلُ جدًّا من القرَّاء ممَّنْ لم يُقِيموا بها أو يزوروها أو تجمعهم علاقةٌ بها؛ فلا تجعل الأخبارُ للمواقع معنًى إلا ببناء أماكن في الأذهان كالأوبرا وقصر التويليري والسفارة الروسية في هذه القصة، وهذه عناصر اللامكان التي أضحَتْ بالواقع معالِمَ لأي عاصمة، فجميعُ العواصم تحوي أماكنَ يميِّزها الجميع.
ما تجدر ملاحظته هو أن جميع الأماكن في البرقية (عدا مدينتَيْ باريس ومارسيليا) هي أماكن عامة تُكوَّن في الذهن وتُعرَف عبر التجارب المشتركة وعبر دخولها في تشكيل رموز ومعانٍ مشتركة (رالف، ١٩٧٦)؛ فالأوبرا والسفارة الروسية وقصر التويليري تشترك جميعها في أنها رموز للسلطة والنفوذ، ومدى اشتراكها في تكوين رموز هو مسألة مختلفة لكنها تشتهر كمعالم باريسية حتى لمَن لم يزوروا باريس، وتتيح الأخبارُ بذكر أسماء الأماكن العامة فرصةً للتعرُّف عليها.
من المهم أيضًا ملاحظة كيف يتَّحِد الزمان والمكان في الخبر معًا؛ إذ يتداخلان تداخُلًا وثيقًا ويتشابكان عبر الخبر بأسره. أول توقيت يَرِد هنا هو تاريخ وصول البرقية بمكتب السيد رويتر، وبما أنه التاريخ نفسه الذي يَرِد في السطر التالي من الخبر (باريس، الإثنين، ٢٠ من ديسمبر)، فهو يدل على أن البرقية صدرت في اليوم نفسه، ولا شك في أن هذا كان أمرًا شديدَ الأهمية في حقبة سعَتْ فيها وكالاتُ الأنباء إلى إقناع عملائها بأن بإمكانها نقل الخبر بأسرع ما يمكن. والقصة الإخبارية بأسرها بُنِيت حول مفهوم الحاضر، فبعضُ الإشارات في القصص الإخبارية تؤرِّخ الحدث — كما كتب بيل (١٩٩١) — في الزمان المطلق أو في توقيت قائم على التقويم التاريخي (كتاريخ ٢٠ ديسمبر في هذه الحالة)، فيما يؤرِّخ بعضُها الآخَر الحدثَ وفقَ علاقته بالأحداث الأخرى (مثال على ذلك: كلمة «ثم»، و«فيما بعدُ»)، وبعضها الآخَر يؤرِّخه بحسب علاقته بالحاضر، فيجعل من الحاضر نقطةً مرجعية له («هذا المساء»، «غدًا»). وتوحي التواريخ والأوقات وظروف الزمان المستخدَمة بأن القصة الإخبارية حدثَتْ في ماضٍ قريب جدًّا، إن لم تكن تحدث الآن بالفعل؛ ومن هنا تستخدم القصة الإخبارية الزمنَ الماضي غير أن التعابير المستخدَمة بها توحي إلى القرَّاء بأنهم يتتبعون الدوق خطوةً بخطوة، وهذا يشدِّد على الطابع الآني لبرقيات التلغراف.
(٦) المكان واللامكان
أوضحتُ في هذا الفصل أن الأخبار المنقولة إلكترونيًّا تخلق الإحساس باللامكان، وتخلق إدراكًا جديدًا للمكان بالوقت نفسه؛ فعندما نتأمَّل الأماكنَ في سطر تاريخ الإصدار في مقدمة القصص الإخبارية الإلكترونية، ونلاحظ الكيفية التي تتدفَّق بها الواحدة تلو الأخرى، سيكون من السهل أن نتَّفق مع مفهوم رالف وأوجيه عن انعدام المكان أو اللامكان. يزعم رالف (١٩٧٦) أن الهويات الجمعية للمكان هي المستوى الأكثر سطحيةً من هويته، الذي لا يَدَعُ مجالًا لإظهار سماته الداخلية التشاركية ويبلي أي سمات داخلية للمكان بتدمير أسس هويته. كما يتحدث رالف عن اتجاه غير أصيل في تصوير المكان عبر وسائل الإعلام التي تشجِّع بصورة مباشِرة أو غير مباشِرة الشعورَ باللامكان، ويعرف رالف أثر وسائل الإعلام بأنه تأثير يقوض من هوية المكان إلى حدٍّ تبدو عنده الأماكن متشابهة بالرغم من اختلافها، وتقدم التجربة الخاوية من المعنى ذاتها.
تدفُّقات الأخبار لا تفسح تقريبًا مجالًا لتعريف المكان إلا من خلال تعرُّف القارئ الذي يعرف اسمَ المكان على هذا المكان. تبدو جميع الأماكن التي تثيرها القصص الإخبارية متشابهة وتوحي بانطباع مشابه، لكنها تشكِّل معًا فضاءَ الأخبار العالمي المتاح للقارئ في مختلف المواقع. أهم مزايا الأخبار المنقولة إلكترونيًّا التي يتم تجاهُلُها في الكثير من الأحيان هي أنها تضع العالم بين يدَيِ القارئ؛ ومن ثَمَّ فهي تعمل بوصفها أولى أدوات العولمة. كتب دي سيراتو (١٩٨٤) عن السكك الحديدية أنها تسمح لنا بالتنقُّل عبر المكان، وأن قطاراتها تسمح لنا برؤية العالم من مسافة بعيدة. الأخبار الإلكترونية — شأنها شأن سائر القصص الإخبارية — تفيدنا كوسيلة نقل، غير أن قرَّاءها لا ينتقلون (إلا إنْ كانوا مسافرين)، بل يمكثون بأماكنهم، ويسمح اسم مكان الحدث الذي يَرِد بالقصة الإخبارية للقارئ بتصوُّر المكان، لكنه — كما يشير دي سيراتو عن السفر — لا يتيح لمسه؛ فكلما زادَ مجال الرؤية قلَّ ما نلمسه به، غير أن الأخبار بعكس رحلات السفر ليست لها إلا نقطة مغادرة ونقطة وصول. وتختفي الأماكن البينية — كما يسمِّيها شيفلبوش (١٩٧٨) — التي تنتقل عبرها الأخبار؛ لأن الأخبار نفسها هي التي تسافر وليس القارئ، ويتيح انتفاء الزمان والمكان في الأخبار المنقولة إلكترونيًّا محاكاةَ الحدث كما لو أنه يحدث في الحاضر، والذي يصنع الفارق بين الأخبار ونقطة بدئها هو القارئ الذي يقف في المكان البيني بين الاثنتين.
عندما نتأمَّل الأماكنَ في الأخبار، نرى كيف تطرح الأخبارُ نقاطًا للتعريف عن طريق إرشاد القارئ عبر الأماكن بتسميتها. أسماء الأماكن في الأخبار هي في الأغلب أسماء لأماكن عامة مهمتها أن تكون وسيلة لإزالة الفواصل للقارئ، وتمحو المسافات بين المكان هناك وبين القارئ هنا. الأماكن التي تَرِد في الأخبار هي في كثير من الأحيان أماكن عامة يمكن العثور عليها في كل المدن الكبرى تقريبًا، وهي رمز للنفوذ كالمباني الحكومية والسفارات. هذا التعميم للأماكن يشبه تعميمها في أدلة المسافرين، غير أن وجه الاختلاف بين الأخبار وأدلة المسافرين يتمثَّل من جديدٍ في تنقُّل القارئ أو عدم تنقُّله؛ لأن المسافرين يقصدون بالفعل أماكنَ جديدةً، بينما تحاكِي قصصُ الأخبار السفرَ فحسب ويبقى قرَّاؤها في أماكنهم.
نجد في الأخبار المنقولة إلكترونيًّا تناقُضًا بين مصدر الأخبار ومكان القارئ؛ فقرَّاء هذه الأخبار يكونون في أماكنهم، لكن الأخبار تَرِدهم من بعيد. وتسعى هذه الأخبار إلى بناء الجسور بين الأماكن بالإيحاء باللحظة الراهنة، وبالرغم من سعيها هذا تكون حياةُ القرَّاء اليومية في مكان آخَر، في موطنهم، وهم يَعُون ذلك. هذا «الوجود المنقسم» (سوجا، ١٩٨٩)، الذي زادت منه قصص الأخبار في محاكاتها للسفر، يبيِّن الجوهرَ الوجودي للبشر في العصر الحديث أو ما بعد الحداثي، وهي ظاهرة بدأت مبكرًا مع ظهور أول الأخبار المنقولة إلكترونيًّا في القرن التاسع عشر.