الخاتمة
يقول الشباب إنهم يتجنَّبون الوقائعَ الجادة، ومن اللافت أنهم يشاهدون أخبارًا أقل؛ فقد تضاءَل عددُ المشاهدين من الشباب لنشرات الأخبار على جميع القنوات على مدى الأعوام الخمسة الماضية.
إحدى البقاع الأخرى التي أمضيتُ بها وقتًا في كتابة هذا الكتاب عام ٢٠٠٦ أيضًا كانت ولاية لوس أنجلوس في الولايات المتحدة الأمريكية؛ حيث كنتُ أرى يوميًّا فوق رأس سائق الحافلة رقم ١٤ ساعةً رقمية تحمل تاريخَ اليوم والتوقيتَ، ويتغيَّر عليها الوقت بمرور الدقائق؛ ومع هذا كنتُ أرى العديدَ من الراكبين معي ينظرون في ساعاتهم، ويفكِّرون في التوقيت الخاص بهم وأحداث حياتهم الخاصة التي حدَّدت الزمانَ لهم.
كنَّا نسمع على متن الحافلة رسالةً مؤتمتة تخبرنا بالمحطة التالية، أو إذا طلبها أحد الراكبين، وكان بعض الراكبين معي يستمعون إلى الموسيقى عبر سماعات الرأس، وبعضهم يقرأ الصحف، والبعض الآخَر ينظر في شاشة التلفاز التي تعرض موادَّ ترفيهيةً لأجهزة التلفاز المتنقلة من قناة ترانزيت تي في، وخريطةً حية لمسار الحافلة تحمل نقاطًا حمراء توضِّح محطات وقوف الحافلة التالية. عرضت قناة ترانزيت تي في الإعلاناتِ ومقاطعَ عن الطهي وأحجيات الكلمات المتقاطعة والأخبارَ بالإسبانية والإنجليزية، وعُرِضت نشرات الأخبار من وكالة رويترز، وظهر ببداية كلِّ قصة إخبارية محلُّ وقوع أحداثها. لم يصدر عن التلفاز صوتٌ، لكنني قرأت على شاشته خبر الزلزال الذي وقع في الفلبين مؤرَّخًا بالتاريخ والساعة.
كيف اختلفت تجربتي عن تجربة المسافر بمكان آخَر أو عنها في عصر سابق كالعصور الوسطى؟ لم تكن المسافرة لتنتقل عبر الحافلة، لكنها كانت لتسافر بين حشد إما على الأقدام وإما محمولة على عربة جياد؛ وستتحدث — على العكس مني — إلى المسافرين معها، وتتبادل المعلومات معهم حول المكان وحول التجارب التي ربما يكونون قد خاضوها هناك، ولعلها تسلي المسافرين معها بابتكار قصص مسلية، ستكون «قصصًا جديدة» بالطبع لأن المسافرين معها سيفضِّلون القصصَ الجديدة على القديمة.
من آنٍ لآخَر قد يلتقِي هؤلاء المسافرون بآخَرين في الحانات أو مع تغيير الجياد ليتبادلوا معهم الأخبار الجديدة، وقد يصغون إلى منشدي الأخبار في أركان الشوارع بالبلدة، غير أنهم لن يفطنوا بالضرورة لمدى قِدَم هذه الأخبار؛ لأن الزمان آنذاك لم يكن يقاس على فترات قصيرة كما يقاس اليوم؛ فكانت حداثة الخبر تقاس بما إن كان قد سُمِع من قبلُ أم لا.
لن تكون هناك صور متحركة أو قصص تتحدَّث من تلقاء ذاتها كتلك التي تُعرَض على الشاشة في رحلتنا على متن الحافلة في زماننا؛ فالقصص الإخبارية لم تَرِد آنذاك بين المسافرين دون سابق إنذار أو دون دعوة، كما لم تطرح إطارًا زمنيًّا آخَر يختلف عن حاضر المسافرين. وكان المسافرون يَهْنَئون بجهلهم بالمناطق الزمنية المختلفة، وبغفلتهم عن الأحداث التي تقع في اللحظة نفسها في بقاع نائية عن موقعهم؛ وعندما وعوا تلك الأحداث كان هذا عبر قصص تحكي عن أشياء وقعت قبل زمان طويل بالفعل، وكان تأثير الأحداث على حياة الأفراد المباشِرة تأثيرًا ضئيلًا، بما أنه لم يكن هناك زمانٌ مشتركٌ يجمع بين حياتهم وبين الأحداث التي تقع في البقاع النائية.
اختلفَتِ الأخبارُ وآليات انتقالها اختلافًا كبيرًا مع ظهور أحدث تقنيات الإعلام والاتصالات كالإنترنت، وبالرغم من اختلاف الباحثين حول آثار هذا التغيير على الصحافة، فهم يتفقون بوجه عام على أن اختلافًا جوهريًّا قد بدأ يطرأ عليها. يحيا الكثير منَّا اليومَ في ظلِّ العصر الرقمي، مع أن جميع صور الأخبار السابقة ما زالَتْ حيةً؛ من الأخبار الشفهية إلى المكتوبة إلى المطبوعة إلى الإلكترونية. وقد ضاعَفَ التقاربُ التكنولوجي طُرُقَ جمع الأخبار ونقلها، ومزَجَ بين جميع صورها السابقة مع أحدث صورها، لينشأ مع طرح التقنيات الجديدة كمٌّ من الأخبار يربو على أي وقت مضى. تخلق قابليةُ التواصُل بتكلفة زهيدة بين المجموعات بعضها مع بعض، أو الفرد مع آخَر أو الفرد مع الجماعة أو الجماعة مع الفرد؛ المشكلاتِ لمَن يحاولون التكسُّبَ ببيع الأخبار، ومَن يحاولون استهلاكَ الأخبار المتزايدة بلا توقُّف. كان التأثير الأكبر على نقل الأخبار عبر الإذاعات والأقمار الصناعية في السنوات الأخيرة هو التأثير الذي ولَّده ظهورُ تقنيات جديدة، ولا سيما الإنترنت والتلفاز الرقمي.
يمكننا بالمقارنة بين حقبتين متباعدتين هما العصور الوسطى وعصر المعلومات؛ إيضاح أوجه الاختلاف والشبه بينهما، والاستفهام عمَّا اختلف وما لم يختلف، وقد كرَّسْتُ هذا الفصلَ لهذه المهمة ولمهمة إيضاح الخيارات التي تنشأ عن التطورات الحالية. ويذهب الفصل إلى أننا بحاجة إلى إعادة تشكيل مفهوم الأخبار لأنها انعدمت بمفهومنا القديم عنها؛ فحاضرنا اليوم يتحدَّى مفهومَنا عن الأخبار من أربع نواحٍ مختلفة؛ فأولًا: أخذَتِ الأخبارُ بصورتها التقليدية تفقد جمهورَها. ثانيًا: أخذت التقنيات الجديدة تُستخدَم في جمعها ونقلها وإبداء الآراء حولها. ثالثًا: بدأ مفهوم الزمان في الأخبار يتغيَّر. وفي النهاية، يؤدِّي كلُّ هذا إلى تغيير الدور الذي يلعبه الخبر في المجتمعات المعاصرة.
(١) الأخبار القديمة تخسر جمهورها
فوق ذلك، توضِّح الأبحاث أن الأفراد «يتصفَّحون» بصورة متزايدة العديدَ من مصادر الأخبار عوضًا عن الاعتماد على الدوام على مصدر أخبار واحد، ويرون أن منطقتهم المحلية هي أقل المناطق التي تَرِدهم الأخبارُ عنها، ولا ترى إلا نسبة ضئيلة من الأفراد قوامها ٤٣٪ منهم أن الأخبار التليفزيونية تمثِّل جميع قطاعات المجتمع على نحوٍ عادل (هارجريفز وتوماس، ٢٠٠٢). بعبارة أخرى، نحن نشهد نهايةَ عهد جمهور الأخبار التقليدية، ولا سيما بين الشباب (هارجريفز وتوماس، ٢٠٠٢).
صارت الصور الأخرى من الأخبار — كنشرات الأخبار التليفزيونية التي تُعرَض على مدار ٢٤ ساعة والأخبار على الإنترنت، وحتى الأخبار الشفهية — تلعب دورًا أكبر؛ ففي المملكة المتحدة لا يزال التلفاز إلى حدٍّ كبير المصدرَ الأول للأخبار لدى الغالبية (لدى الثلثين من تعداد السكان). وقد تضاعفَتْ ثلاث مرات نسبةُ مَن يرون أن الإنترنت هو مصدرهم الأول للأخبار، إلا أنها لم تبلغ إلا ٦٪، فيما انخفضت نسبةُ مَن يعتمدون على الراديو كمصدرهم الأول للأخبار بنسبة الثلث، بينما يقل احتمال مشاهدة الجماعات العِرْقية الآسيوية والسوداء لأخبار شبكات التلفاز وسماع أخبار محطات الراديو بالأخص، عنه بين تعداد السكان بوجه عام، ومن جهة أخرى، تزيد احتمالات أن تشاهد كلتاهما أخبارَ التلفاز ٢٤ ساعة، في حين يحتمل بدرجة أكبر بكثير أن تستهلك الجماعاتُ العِرْقية الآسيوية الأخبارَ التي تَرِد من شبه القارة الهندية عبر محطات التلفاز وعبر الإنترنت (فيليبس، ٢٠٠٧). ويحظى الإنترنت بشعبية كبيرة بين الشباب (١٨٪)، وبين النساء (١٢٪)، كما يتمتع بشعبية كبيرة جدًّا بين أبناء العِرْق الآسيوي؛ إذ يستخدمه ٣٧٪ منهم. ولما كانت الأخبار المنقولة شفهيًّا مصدرًا أكثر انتشارًا بين النساء والشباب؛ يصف ٤٣٪ من الشباب من عمر ١٦ عامًا إلى عمر ٣٤ عامًا التواصُلَ الشفهي بأنه مصدر مفيد للأخبار. ويرى الباحثون أن الإنترنت بدأ يبرز ﮐ «موطن» للأخبار لمَن يشعرون بأن وسائل الإعلام الجماهيرية التقليدية لا تخدمهم على المستوى المطلوب (هارجريفز وتوماس، ٢٠٠٢).
وتشير كل هذه البحوث إلى أنه طرأ العديدُ من التغيُّرات الجذرية مؤخرًا، ليس على استهلاك الأخبار فحسب، بل على إنتاجها كذلك.
(٢) هل من أخبار جديدة؟
منذ بداية الثمانينيات، أخذت الصحف اليومية الأمريكية في تجربة أجهزة الكمبيوتر الشخصية وأجهزة التلفاز والفاكس وحتى المخابرات الهاتفية المنتظمة كبدائل لتوفير المعلومات لعموم الأفراد (بوشكوفسكي، ٢٠٠٤). وقد استُخدِمت الشبكة العنكبوتية العالمية منذ نشأتها في أوائل التسعينيات بصورة متزايدة كوسيط إخباري؛ فبدأت موجة الصحافة الثانية عبر الإنترنت عام ١٩٩١ عندما صدرت النسخة المعيارية من الشبكة العنكبوتية العالمية من قِبَل منظمة سيرن، أو — وهو الأهم — عندما بدأت الشبكة العنكبوتية العالمية تتاح عبر متصفح مجاني قائم على نظام ويندوز في عام ١٩٩٣، هو متصفح موزايك (بريك، ٢٠٠٨). غير أن الشبكة العنكبوتية العالمية لا تنتج الأخبارَ، لكنها تمثِّل صورةً جديدة من صور استخدام التقنيات الحديثة في نقل الأخبار واستقبالها، أما إتاحة محتوى الأخبار فهو دور منفصل. وأناقش هنا الطرقَ المختلفة التي تخدم بها الشبكة العنكبوتية العالمية كأداة للأخبار، ومنها: (١) إتاحة الأخبار على الإنترنت كخدمة إضافية عبر وسائل الإعلام الإخبارية التقليدية. (٢) محركات البحث. (٣) المدونات.
(٣) وسائل الإعلام الإخبارية القديمة في ثوبها الجديد
لم تكن الأخبار التي استقبلتها تلك المواقع جديدةً بالضرورة؛ على سبيل المثال: عندما انطلق موقع نيويورك تايمز على شبكة الإنترنت عام ١٩٩٦، عرض بالدرجة الأولى مقالاتٍ من صحيفة نيويورك تايمز المطبوعة (بوشكوفسكي، ٢٠٠٤). وكان المحتوى الذي عرضته هذه المواقع في جزء كبير منه مجرد تكرار للمحتوى الذي وُجِد في منتجات وسائل الإعلام الإخبارية ذاتها خارج الإنترنت، ولم تتقاضَ إلا نسبةٌ قوامها ٣٪ من مصادر الأخبار على الإنترنت رسومَ اشتراكٍ نظيرَ عرض محتوياتها (تشياي وسيلفي، ٢٠٠١). خلصت دراسة فان دير فورف لأربع دول أوروبية إلى أن الصحف على الإنترنت ما زالت تبحث عن دور لها، وهي تؤدِّي عدةَ وظائف في الوقت نفسه؛ فالصفحات الأولى بها «تروِّج» للصحيفة المطبوعة، وتطرح موادَّ إخبارية مختصرة، وترشد القارئ إلى المحتويات الأخرى على الموقع نفسه، كما ترشده أحيانًا إلى مواقع أخرى، وتغطِّي الموادُّ الإخبارية التي تُعرَض في الصفحة الأولى بصورة أو بأخرى المناطقَ الجغرافية نفسها التي تغطِّيها الصفحةُ الأولى للصحيفة المطبوعة لكن بصورة أقل تنوُّعًا. وتختلف صحف الإنترنت عن الصحف المطبوعة من حيث الوظائف التي تؤدِّيها، أكثر مما تختلف عنها من حيث المحتوى (فان دير فورف، ٢٠٠٥).
ما الجديد إذن في استخدام وسائل الإعلام القديمة للشبكة العنكبوتية العالمية؟ يخلص بوشكوفسكي (بوشكوفسكي، ٢٠٠٤) إلى أنه على ما يبدو هناك ثلاثة آثار محتملة على أقل تقديرٍ لبيئة الإنترنت على شكل الخبر ومحتواه؛ أولًا: عوضًا عن التوجُّه الصحافي، تبدو الأخبارُ على الإنترنت ذات توجُّهٍ يركِّز على المستخدم. ثانيًا: عوضًا عن كونها بالدرجة الأولى خطابًا فرديًّا أحاديًّا، يبدو أنها بدأت بصورة متزايدة تتجه لأَنْ تشمل الأخبارَ الأحادية الخطاب في إطار حوار مستمر أوسع نطاقًا. ثالثًا: تبدو الأخبار على الإنترنت — علاوةً على تسليطها الضوءَ على المحلي والوطني — ذاتَ طابع محلي. رابعًا: أضيفُ أن مفهومَ ما كان يُعرَف على نحوٍ محض بأنه خبر — أو مصدر خبر — سواء أكان دوليًّا أم قوميًّا أم محليًّا؛ قد أخذ في التغيُّر سريعًا.
(٤) محركات البحث
لا يوجد منتج إخباري منفصل عن مستهلك الخبر، بل توجد قاعدة بيانات من القصص الإخبارية ينتقي مستهلك الخبر منها من خلال التنقيب بين العناوين؛ مما يطرح نشاطًا على مستوًى جديد لجمهور الخبر، مع اختياره موضوعًا وقصصًا تتناول الموضوع الذي يختاره من اللائحة التي يجلبها محرك البحث؛ تحضُّ هذه العملية على إعادة التفكير في دور جمهور الخبر في الصحافة. يتضمَّن مفهوم سلطة العرض ضمنًا أن يفرض الصحافي تسلسلًا تأويليًّا على الخبر، لكن على النقيض؛ فإن تشديد جوجل نيوز على حرية الوصول إلى المعلومات، وعلى تعدد صور الخبر، يقوم على النظر إلى جمهور الخبر على أنه يشكِّل بنفسه بيئةَ الخبر الخاصة به. وهذه الفجوة بين جمهورٍ ينتقي الأخبار من مُنتَج مشكل مسبقًا، في مقابل جمهورٍ يبحث عن الأخبار بموجب شروط بحث مساعدة، هي أساس التعارُض بين وسائل الإعلام التقليدية ومحركات البحث عن الأخبار.
يتجلَّى بصورة غير مباشرة اعتماد شركة جوجل على وكالات الأنباء التقليدية عبر القضايا العديدة التي رُفِعت على الشركة (باترسون، ٢٠٠٦)؛ فأعلنت وكالة الأنباء الفرنسية عام ٢٠٠٥ مقاضاةَ شركة جوجل في الولايات المتحدة وفي فرنسا لتعدِّيها على حقوق نشرها باستمرار؛ إذ زعمت وكالة الأنباء الفرنسية أن خدمة جوجل نيوز أدمجَتْ ضمن منتجاتها الصورَ وعناوينَ الأخبار والمقتطفاتِ الإخبارية التي تَرِد في بداية المقالات الخاصة بوكالة الأنباء الفرنسية، كما احتجَّتِ الوكالة بأن شركة جوجل أزالت إشعارات حقوق النشر وتعليقات الملكية على الصور من على موادها، مُنتهِكةً بذلك القانون الفيدرالي. رُفعت القضية نظير تعويض قيمته ١٧٫٥ مليون دولار، وزعمت جوجل من جانبها أن عناوين أخبار وكالة الأنباء الفرنسية لم تكن «جديدة ومبتكرة» بالدرجة الكافية لحمايتها بموجب قانون حماية حقوق النشر، قائلة: «عناوين الأخبار التقليدية لوكالة الأنباء الفرنسية تعبِّر عن حقيقة واقعية وتتسم بالبساطة، ولا تحمل إلا فكرة واحدة ليست خاضعة للحماية من الناحية القانونية.» غير أن شركة جوجل سرعان ما قبلت بإزالة المحتويات الإخبارية الخاصة بوكالة الأنباء الفرنسية من موقعها، كذلك زعمت جوجل أن الروابط التي تعرضها والتي تؤدِّي إلى المحتويات الخاصة بوكالة الأنباء الفرنسية تدرُّ الأرباح على وكالة الأنباء الفرنسية لا الخسائر؛ مما يرفع احتمال نظر المحاكم الأمريكية إلى جمع وكالة جوجل للأخبار ﮐ «استخدام عادل» لمواد الوكالة الفرنسية الخاضعة لحقوق النشر (باترسون، ٢٠٠٦). توصَّلت شركة جوجل ووكالة الأنباء الفرنسية إلى اتفاقية حول استخدام مواد وكالة الأنباء الفرنسية في أبريل عام ٢٠٠٧، وصرَّحَ بيان الشركتين عن الاتفاقية بأنها «ستسمح باستخدام المحتويات التي تعرضها وكالة الأنباء الفرنسية بطرق جديدة ومبتكرة تحسِّن بصورة كبيرة تجربةَ المستخدم للمحتويات الإخبارية الخاصة بوكالات الأنباء على الإنترنت» (أوتس، ٢٠٠٥). ويشير فان كوفرينج (٢٠٠٨ب) إلى أنه لا عجب على الإطلاق في أن وكالة الأنباء الفرنسية قبلت بالتسوية نظرًا للأهمية المتزايدة التي تحتلها حركة المرور على الإنترنت — التي توجِّهها محركات البحث — لأغلب مؤسسات الأخبار، وأمكن لجوجل أن تكون نظريًّا بمثابة رقيبٍ فعليٍّ على الأخبار.
من ثَمَّ لا عجب في أن وكالة الأسوشيتد برِس آثرت التفاوض مع جوجل عوضًا عن مقاضاتها لاستخدامها لموادها الخاضعة لحقوق النشر، وقد زعمت جوجل أنها ليست مضطرة لتعويض منافذ الأخبار على وضع الروابط المؤدية إلى محتوياتها؛ لأن جوجل نيوز هو جامع للأخبار. لكن في النهاية وافَقَتْ جوجل على تعويض وكالة أسوشيتد برِس نظيرَ استخدام قصصها الإخبارية وصورها، بَيْدَ أنها زعمت أن المحتويات الإخبارية لوكالة أسوشيتد برِس ستكون الأساس لمنتج جديد يغدو مكملًا فقط لجوجل نيوز؛ وهكذا ارتأت جوجل أن الصفقة تدعم موقفها الأساسي وهو استخدامها العادل للمحتويات الإخبارية (ماكارثي، ٢٠٠٦).
١ | أسوشيتد برِس |
٢ | نيويورك تايمز |
٣ | فويس أوف أمريكا |
٤ | رويترز |
٥ | سي إن إن |
٦ | بي بي سي نيوز، المملكة المتحدة |
(٥) المدونات
المدونات هي شكل من أشكال الكتابة تنفرد به شبكة الإنترنت، وتعتمد على ما يمكن أن يُعَدَّ السمةَ الرئيسية لها؛ وهي الروابط التَّشعُّبيَّة. كتب ماثيسون (٢٠٠٤) أن المدونات تتسم بامتلائها بالروابط التشعُّبية المؤدية إلى مواقع أخرى، وأن مصطلح «مدونة» وإفادات المدونين الأوائل تشير إلى أن هذا النوع من صفحات الإنترنت نشأ كسجلٍّ لأحدث عمليات التصفُّح التي يُجرِيها مستخدم المدونة، وهو سجلٌّ يُتاح لعناية الآخرين، وأبرز صورة لتنسيق مادته على صفحة الإنترنت كانت الترتيب القائم على التسلسل الزمني لا الترتيب الهرمي (ماثيسون، ٢٠٠٤). غير أن العديد من المدونات اليوم بالإضافة إلى تمتُّعها بتنسيق رئيسي قائم على التسلسُل الزمني، تتسم بأنها تضمُّ روابطَ في الشرائط الجانبية الخاصة بها ترتِّب محتوياتها ترتيبًا هرميًّا وبحسب موضوعاتها، وهي مهمة منشودة إلى حدٍّ كبير، ويفي بها شكل المدونة والروابط التشعبية بها على نحو جيد، ولا شك أنها كانت مزية بيعية كبيرة لبعض المدونات، بما أن مجموعة المواد نفسها أمكن الوصول إليها واستطلاعها بأكثر من طريقة (موريس، ٢٠٠٨).
الأخبار هي الملمح الأهم في التدوين؛ فكشفَتِ استطلاعاتُ رأيٍ أُجرِيت عبر الهاتف عن أن أغلب المدونين في الولايات المتحدة قد انصبَّ اهتمامُهم على وصف تجربتهم الشخصية لجمهور ضئيل من القرَّاء، وكشفت أيضًا عن أن فئةً قليلة منهم يَنصبُّ اهتمامها على تغطية أخبار السياسة والإعلام والحكومة والتقنيات. أغلب المدونين لا يرون أنهم يضطلعون بعمل صحفي، ويزعمون تغطيتهم للعديد من الموضوعات المختلفة، لكن عندما طُلِب منهم اختيارُ الموضوع الرئيس الذي يتناولونه، ذكر ٣٧٪ منهم أن «حياتهم وتجاربهم» هي الموضوع الرئيس الذي تتناوله مدونتهم. حلَّتِ الموضوعاتُ السياسية والموضوعاتُ التي تتناول الحكومةَ الأمريكية بعدها في المرتبة الثانية بفارق كبير؛ إذ ذكر ١١٪ من المدونين أن شئون الحياة العامة هي الموضوع الرئيس الذي تتناوله مدوناتهم. ثم شكَّلَتِ الموضوعاتُ المتصلة بالمجال الترفيهي نوعَ المدونات الأكثر شعبيةً بعدها، الذي اندرج تحته ٧٪ من المدوِّنين، وتلتها موضوعاتُ الرياضة (٦٪ من المدوِّنين)، فموضوعات الأخبار العامة والأحداث الحالية (٥٪ من المدوِّنين)، فالأعمال (٥٪)، فالتكنولوجيا (٤٪)، فالموضوعات الدينية والروحانية والإيمانية (٢٪)، ثم الهوايات الخاصة أو المشكلات الصحية أو الأمراض (كلٌّ منها اندرج تحته ١٪ من المدوِّنين). ومن بين الموضوعات الأخرى التي ذُكِرت، الموضوعاتُ التي تتناول الآراءَ وخدمات التطوع والتعليم وفن التصوير والقضايا والهوايات والمنظمات. وتتسم المدونات وفقًا للاستطلاع بطابع فريد شأنها شأن أصحاب المدونات، ويُعنى أغلب كاتبي المدونات بالتعبير عن ذواتهم بصورة مبتكرة، وبتوثيق تجاربهم الخاصة، وتبادل معارفهم العملية أو التواصل مع أصدقائهم وأُسَرهم (لينهارت وفوكس، ٢٠٠٦).
مواقع مدونات | مواقع أخبار | مواقع شاملة | |
---|---|---|---|
روابط تؤدي إلى مواقع مؤسسات أخبار تقليدية (صحف، تلفاز، وما إلى ذلك) | ٤٠٪ | ٢٤٪ | ٣٤٪ |
روابط تؤدي إلى مواقع أخبار مُنشَأة من قِبَل مواطنين | ٢٨٪ | ٤٨٪ | ٣٤٪ |
روابط تؤدي إلى مدونات مُنشَأة من قِبَل مواطنين | ٦٠٪ | ٥٦٪ | ٥٨٪ |
روابط تؤدي إلى مواقع أخبار تجارية | ٢٠٪ | ٤٪ | ١٤٪ |
روابط تؤدي إلى مواقع مدونات تجارية | ٢٧٪ | ٤٪ | ١٩٪ |
عدد المواقع | ٣٩ | ٢٥ | ٦٤ |
كما يشير ماثيسون (٢٠٠٤)، يكاد نص الخبر أن يكون بديلًا عن الحدث، ويصنع مكانته بادِّعَاء معرفته ﺑ «ما حدث»، ليجعل بذلك الصحف «الحَكَمَ على الأحداث في المجتمع» (زليزر، ١٩٩٣). أما المدونات، فعلى العكس هي مصدر معلومات «لم يخضع لتنقيح، يستبِدُّ بالرأي بلا خجل، ويصدر على نحو متقطع، ويتسم بأنه شخصي» (بالسر، ٢٠٠٢). ويوضِّح ماثيسون أن هذا التمييز بين الأخبار والمدونات مهم؛ لأنه يسمح لنا بالتفكير إنْ صحَّ هذا عنهما، وإن كان الخبر «محرَّفًا بصورة أقل» يتيح لنا بدرجة أكبر المشاركةَ في تصوُّر الحدث من «قصة إخبارية منمقة» (ماثيسون، ٢٠٠٤).
- (١)
إفساح مجال للتفكير الصحفي الذي لا تفسح له الصحافةُ التقليدية المؤسساتية مجالًا كبيرًا.
- (٢)
إتاحة أساليب تغذية راجعة جديدة لوسائل الإعلام الإخبارية السائدة.
- (٣)
تقليص اعتماد وسائل الإعلام السائدة على المصادر الرسمية.
- (٤)
تشكيل علاقات تفاعل جديدة بين مجموعات القراء لا تحدُّها الحدودُ المكانية، وتحدُّها الحدود الزمنية بصورة أقل.
- (٥)
عكس عمليات تنقيح الخبر التقليدية.
- (٦)
إتاحة مساحة أكثر ديمقراطيةً وأكثر إتاحةً للتفاعل.
(٦) تغيُّر مفهوم الزمان في الخبر
يمكننا أن نصف جميع الأخبار على الإنترنت بأنها تتسم باحتوائها على الروابط التشعُّبية وبتعدُّد الوسائط بها، وبأنها تسمح بالتفاعل (ديوز، ٢٠٠٣) أيًّا كانَتِ الفئةُ التي تنتمي إليها. ومن هنا فهي بشتى أنواعها تسهم في تغيير مفاهيمنا عن الزمن، ولأنها ترتبط بعضها ببعضٍ تتبدل أوجه الاختلاف بين الحدث والخبر وجمهور الخبر؛ فالروابط التشعُّبية تغيِّر بنيةَ الخبر. وثمة شبكات علاقات قائمة ليس بين الخدمات الإخبارية بعضها وبعض فحسب، بل بداخل الأخبار نفسها؛ فعلى حد تعبير بولتر فيما يتعلَّق بأوجه الاختلاف بين الكتابة التقليدية والكتابة على الكمبيوتر: «إنْ كانت التراكيب الأفقية والهرمية تسيطران على الكتابة الحالية، فأجهزة الكمبيوتر تضيف اليوم بُعْدًا تركيبيًّا ثالثًا، وهو شبكات المعلومات كهيكل تنظيمي واضح ومؤثِّر.» يقرُّ بولتر بأنه حتى شبكات العلاقات التي تنطوي عليها الكتابة التقليدية هي عامل تنظيمي خفي أشبه «بالقراءة بين السطور» (بولتر، ١٩٩١). وقد انتهجَتْ مصادر الأخبار التقليدية هياكلَ تنظيمية مماثِلة تنظِّم أخبارَها — كما يتَّضح من الفصل الخامس — كانت أكثر وضوحًا كجنس أدبي (مثل: أين، متى، مَن، ماذا)، غير أن الروابط التشعبية على الإنترنت تضيف بُعْدًا بنائيًّا ثالثًا متعدِّد الأزمنة والأمكنة.
يرى بولتر أن الزمن هو وقود الكمبيوتر بقدر ما يُعَدُّ الفحمُ وقودَ المحرك البخاري؛ فهو يرى (١٩٨٤) أن الكمبيوتر هو التقنية التي ستشكِّل عصرنا، كما كانت الساعات والمحركات البخارية التقنية التي شكَّلت أوروبا الغربية في القرن السابع عشر والقرن التاسع عشر (لي وليبناو، ٢٠٠٠). يكمن وجه الاختلاف بين الساعات وأجهزة الكمبيوتر في أن «الساعات العادية لا تنتج إلا سلسلة من الثواني والدقائق والساعات المتطابقة، أما الكمبيوتر فهو يحوِّل الثانيةَ أو الميكروثانية أو النانوثانية إلى معلومة» (بولتر، ١٩٨٤)؛ ومن ثَمَّ لم يَعُدِ الزمانُ نقطةً مرجعية ثابتة منفصلة بمعزل عن الحدث، بل صار الزمان «معلومةً» يترجمها المعالج المركزي للكمبيوتر مباشَرةً إلى البرامج (بولتر، ١٩٨٤).
لكل برنامج متتاليات وفترات استمرار وإيقاعات وزمن خاص به، ومع أن الساعة أسَّست لمفهوم الفترات الزمنية الاصطناعية كالساعات والدقائق والثواني، فإنها ظلَّتْ مرتهنةً بالإيقاع البيولوجي؛ فهي نظير لليوم الشمسي، وشاهد على أننا نشعر بتعاقُب الوقت في دائرة تحاكي دوران الأرض. في المقابل، الزمان من منظور الكمبيوتر ليس مرتهنًا بالطبيعة، فهو يخلق سياقًا خاصًّا به؛ هو ساعة رقمية تعرِض الأرقامَ في الفراغ، وزمانها غير مرتهن بنقطة مرجعية لإيقاع بيولوجي. الزمان من منظور الكمبيوتر هو زمان حسابي مجرد يسعى إلى فصلنا من تلابيب العالم الطبيعي ومتواليته.
الأخبار شأنها شأن الساعات تُستهلَك استهلاكًا عامًّا وخاصًّا؛ ففي العصور الوسطى، تَغنَّى مُنشِدو الأخبار بها لجمهورهم في الشوارع، وقُرِئت أولى الصحف جهارًا على الجماعات الصغيرة في الساحات المفتوحة وفي المقاهي. ثم أصبحت قراءة الأخبار تدريجيًّا ذات طابع خصوصي أكثر، فصارت تُقرَأ في كثير من الأحيان على موائد الإفطار قبل أن يتوجَّه قرَّاؤها إلى العمل، وتكرَّرت نشرات أخبار الراديو على مدار ساعة، وأدَّت مهمة الساعات على أبراج الكنائس وأعلَمَتْ جمهورَها بالتوقيت إلى جانب أحدث الأخبار، ثم صارت فيما بعدُ نشرةُ أخبار التاسعة بالتلفاز مؤشرًا على الساعة بكلِّ مكان حوى تلفازًا، وتجمَّعت الأُسَر لمشاهدتها. وحتى عندما استُهلِكت الأخبار بمعزل عن الآخرين في المنازل، تمتَّعَتْ بجمهور ضخم قرأ الأخبار ذاتها وسمعها وشاهدها في الوقت نفسه. ومع أن الأخبار دارت حول حدث، فقد صارت بحد ذاتها حدثًا؛ إذ حدَّدت المؤسسات الإعلامية موعدَ نشرها، ومع أنه سُنح للأفراد اختيار توقيت معرفة الأخبار، فإنه لم تسنح الأخبار طوال الوقت، وإنما أصبحت دوريةً يُرتقَب صدورها، وأشارت إلى التوقيت كما أشارت الساعات إليه.
أشار العديد من الكتَّاب إلى أن الإنترنت ولَّد مفهومًا جديدًا للزمان لا يُنظر وفقه إلى الزمان على أنه يسلك مسلكًا خطيًّا متسلسِلًا، فكتب ساندبوذي (١٩٩٨) أنْ ليس هناك وجودٌ في مناطق الالتقاء التي لا حصرَ لها على شبكة الإنترنت لزمان موحَّد يُعَدُّ بطريقة أو بأخرى زمانًا طبيعيًّا، ويمكن في إطاره لشركاء عمليات التواصُل أن يفترضوا جدلًا أنه بديهي. إن الزمان على الإنترنت لم يَعُدْ زمانًا خطيًّا متسلسلًا متناغِمَ التركيب كما كان في عهد السكك الحديدية وبرقيات التلغراف، بل يوجد كزمان متعدِّد الطبقات (هونجلادروم، ٢٠٠٢). يسوق هونجلادروم مثالًا على ذلك أجهزةَ الكمبيوتر التي تأتي مزوَّدةً بواسطة اتصال عبر الإنترنت بأحد الخوادم التي تستخدم بروتوكول توقيت الشبكة، والتي تخبر العميل بالتوقيت الزمني وفقًا للمنطقة الزمنية التي يحدِّدها المستخدم. لا تُضبَط ساعاتُ تلك الكمبيوترات بحيث تشير لأي منطقة محلية، بل تُضبَط عبر شبكة الإنترنت بالاتصال بخادم بروتوكول توقيت شبكة في نقطة نائية جدًّا (هونجلادروم، ٢٠٠٢).
يشير نيجرابونتي (١٩٩٥) إلى أن الكمبيوتر — ولا سيما البريد الإلكتروني — قد غيَّرَ إمكانيةَ وصول الأخبار إلى الأفراد؛ فأفقدَتْ شبكاتُ الأخبار التليفزيونية التي تعمل على مدار أربع وعشرين ساعة نشراتِ الأخبار في التاسعة أهميتَها؛ الأمر الذي تزايد مع ظهور الإنترنت المتاح بكل مكان وفي جميع الأوقات أيًّا كانت المنطقة الزمنية لجمهور الخبر؛ فالإنترنت بتعبير لي وليبناو (٢٠٠٠) يعمل دائمًا، ويتيح تدفق الأخبار على الدوام.
يختلف توقيت عرض الأخبار على الإنترنت عنه في سواه؛ لأن الأيام والساعات لم تَعُدْ تشير إليها الأخبار كما أشارت إليها من قبلُ على الراديو وأجهزة التلفاز. صارت الأخبار متاحة على الدوام على الإنترنت ويمكن للمستخدم أن يبدأ في قراءتها في أي وقت، وبتعبير إحدى الشابات: «يشبه انتظارُ نشرة الأخبار المسائية على التلفاز العودةَ إلى عصور الظلام، فالأخبار صارت تحيط بنا اليوم» (هارجريفز وتوماس، ٢٠٠٢).
لم يَعُدْ هناك زمانٌ للأخبار لأنها صارت متاحةً في جميع الأوقات؛ ومن ثَمَّ فقدت قيمتَها الماضية التي اعتمدت على ندرتها، وحتى لو كان الخبرُ هو التقريرَ الأول من نوعه عن حدثٍ ما، فإن تقارير أخرى تعقبه مباشَرةً؛ وكنتيجة لذلك باتَتِ الأخبارُ تَرِدُ في الوقت نفسه في كل مكان وفي اللامكان، وبتعبير أحد الشباب: «الأخبار هي التي تجدنا ولسنا مَن نجدها» (هارجريفز وتوماس، ٢٠٠٢).
طبيعة الأخبار بوصفها مليئةً بالروابط التشعبية تجعل زمانها متعدِّد الطبقات؛ إذ يتصل الخبر بالعديد من الأخبار الأخرى إلى حدِّ أن توقيته لا يكفُّ عن التغيُّر مع تحديثه؛ وهذا النوع من الأخبار له توقيته الخاص بصرف النظر عن المنطقة الزمنية التي نبع بها أو يُستهلَك بها. ومع أن الأخبار ما زالت تُؤرَّخ وتُؤقَّت، فإن توقيتها لا يتوقف عن التغيير مع تحديثها، ولا يثبت أبدًا كما كان يثبت عندما أُتِيحت الأخبارُ المطبوعة لأول مرة؛ أمكن لقارئ الأخبار المطبوعة دومًا تمييز الاختلاف بين موعد إرسال الخبر وموعد قراءته له، أما في حال الأخبار على الإنترنت، فتوقيت إرسال الخبر واستقباله لا ينفكان عن التغيير في وقتٍ واحدٍ، وليس هناك توقيت محدَّد لهما. وبعكس نشرات الأخبار التي لا يتجلَّى بها الزمان في الخبر نفسه، يضيف الإنترنت توقيته الخاص إلى الشاشة نفسها التي يُعرَض عليها الخبر.
تغيِّر الروابط التشعبية كذلك العلاقةَ بين الحدث والخبر؛ فبوجود الكمبيوتر يتقلَّص زمنُ إرسال الخبر الواقع بين الحدث وصدور خبره. وفي كثير من الأحيان يقع الحدث ويصدر الخبر عنه في وقت واحد، غير أن ثمة مجالًا أشمل ينطبق عليه هذا. بعبارة أخرى، يختفي وجهُ الاختلاف بين الخبر والحدث عندما يغدو الخبر حدثًا ويغدو الحدث خبرًا؛ فالروابط التشعبية في الخبر تصل باستمرار بين مواقع الأخبار والأحداث المختلفة ليغدو في نهاية المطاف من الصعب تمييز الحدث وتمييز الخبر.
في ظلِّ وجود الإنترنت، باتَتِ الأخبار متاحةً في جميع الأوقات، ولم يَعُدِ الأفراد بحاجةٍ لانتظار الأخبار؛ لأنها بكل مكان، حتى مع التنقل. ولم تَعُدِ الأخبار مؤشرًا على الوقت؛ لأنها تتدفق باستمرار. ولم تَعُدْ للزمان أهمية بالخبر كما كانت له من قبلُ؛ فجميع القصص تُعرَض وقت حدوثها نفسه تقريبًا، ولم تَعُدْ هناك حاجة لبناء العلاقة بين مصدر الخبر والحدث والزمن في إطارٍ متتابع متسلسل؛ فالأخبار تتصل بأخبار أخرى وهذه الشبكة من الأخبار تُحدِّث ذاتها باستمرار دون الحاجة إلى تحديد مصدرها.
(٧) الغد
لا يمكن في الحقيقة تعريف الأخبار إلا بأنها معلومات جديدة مثيرة لاهتمام الآخَرين، لكن في عصرنا الحالي، يمتلك الأفراد العديدَ من الطرق للتزوُّد بالمعلومات (هارجريفز، ٢٠٠٠).
وهنا تطرأ مشكلتان؛ أولًا: الأخبار موجودة في كل مكان، ولأنها كذلك فقد فقدَتْ جزءًا من قيمتها السابقة. فليس هناك مَن يرغب في دفع الأموال لقاء خدمة أخبار عامة، غير أن الجميع يريد التمتُّع بهذه الخدمة. ثانيًا: صار التقسيم التقليدي لباعة الأخبار بين باعة بالجملة وباعة بالتجزئة — حيث اضطلعت وكالات الأنباء ببيع الأخبار بالجملة لوسائل الإعلام — عتيقَ الطراز؛ لأن الكل تقريبًا صار ينتج الأخبار ويستهلكها؛ ومن ثَمَّ أصبح من الصعب تعريف الأخبار، إذ قد تأخذ أيَّ شكل؛ من القصص الإخبارية إلى القصص الجديدة إلى المعلومات إلى التعليقات، أو قد تأخذ كل هذه الأشكال معًا في آنٍ واحد.
أثَّرَ ما نعدُّه خبرًا في الدارسين ومراسلي الأخبار وجماهير الأخبار على حدٍّ سواء، ومع أن مفهومنا عن الخبر يعود إلى القرن التاسع عشر، فقد يحسب الجميع أنه يعرف ما هو الخبر؛ ومن هنا فلا عجب أن وسائل الإعلام بكل مكان تسأل جماهيرها أن تزوِّدَها بالأخبار أو تبيعها لها، وتتوقَّع من وراء ذلك أن جماهير الأخبار صارت تعي ماهية الأخبار ويمكنها «العثور عليها». لكن لو أصبح جمهور الأخبار جامعًا للأخبار، فماذا يكون موقف الصحفي من ذلك؟ فيما مضى، كان الصحفيون وحدهم هم المدرَّبين، ومن ثَمَّ المؤهَّلين «للعثور» على الأخبار «الموضوعية» و«تنقيحها»، لكن ماذا يكون دورهم الجديد في ظلِّ هذا الوضع الجديد الذي يطلبون في ظله من جماهير الخبر أن يزوِّدوهم بالأخبار؟ صار الجميع في يومنا هذا مُلِمِّين بحقل الأخبار إلى حدِّ أن الصحفيين المتخصصين — وفق تعريفنا لهم منذ القرن التاسع عشر — يفتحون الأبواب للجميع للانضمام إلى صفوفهم. لكن كما يشير لاوري (٢٠٠٦)، يندر جمع الأخبار في أوساط المدوِّنين، فيما كان عملًا روتينيًّا بين الصحفيين، وفوق ذلك لا يهتم أي نمط من أنماط الأخبار على الإنترنت بجمع الأخبار بالدرجة الأولى، فكلُّ هذه الأنماط تعتمد ببساطة على جامعي الأخبار التقليديين.
نحتاج إلى التفكير بجدية في الكيفية التي نعرِّف بها الأخبار؛ فإنْ لم يَعُدْ تعريفها يتمثَّل في مفهومنا الذي يعود إلى القرن التاسع عشر عن حداثة الخبر وموضوعيته، فماذا يكون تعريفها؟ إن كانت على سبيل المثال أوجه الاختلاف بين الخبر والتعليق عليه تختفي كما يحدث على المدونات، فأين يكون الخبر الذي يعتمد على «الحقائق» من ذلك؟ وهل ثمة دور جديد يضطلع به المعلِّق على الخبر الذي يثقِّفنا بالأخبار؟ أم أننا نعتمد جميعًا على الأخبار أيًّا كان مصدرها ونشكِّل عنها آراءنا؟
تقنيات الاتصال ووسائل الإعلام الجديدة تجعل الاحتمالات أوسع نطاقًا، ويتوقَّف على الكل — أفرادًا وجماعات — الوصولُ إلى هذه التقنيات إنْ لم تكن متاحةً. لعل هذا هو الصراع الذي سيشهده عصر المعلومات؛ إذ لم يَعُدِ الصراعُ يتعلَّق بالاستيلاء على وسائل إنتاج الأخبار كما كان في العصر الصناعي، بل صار يتعلَّق بالاستحواذ على أدوات تقنيات الاتصالات والإعلام. لكن ما هو المحتوى الأهم: المعلومات أم الأخبار؟
أرى أنه قد بدأت تطرأ هنا أربعة تطورات على الأقل؛ أولًا: بدأت أوجه الاختلاف بين الحدث والخبر تختفي. ثانيًا: بدأت أوجه الاختلاف بين المعلومات والأخبار تختفي. ثالثًا: بدأت أوجه الاختلاف بين الخبر والتعليق عليه تختفي. رابعًا: بدأت أوجه الاختلاف بين الأخبار والمواد الترفيهية تختفي؛ وكل هذا يغيِّر طبيعةَ الأخبار التي نعرفها.
لم يَعُدْ من المستغرب أن تغدو الأحداثُ في الخبر بصورة متزايدة مسبقةَ الإعداد، ولا سيما الأحداث العامة؛ فعلى سبيل المثال: وظَّفت حكومةُ حزب العمال في المملكة المتحدة «خبراءَ علاقات عامة» لإبلاغ الصحفيين بما تعدُّه مهمًّا وتوجيههم له، وفوق ذلك — وفقًا للتقديرات — وظَّفت مصلحة الاتصالات والمعلومات الحكومية البريطانية عام ٢٠٠٠ قرابة ١٢٠٠ مسئول إعلامي، وعيَّنت طاقمًا مساعدًا لهم، ورصدت لهم ميزانيةً تناهز مئات ملايين الجنيهات الاسترلينية (ميلر ودينان، ٢٠٠٠). وقد تزايَدَ عددُ هؤلاء في عام ٢٠٠٦ إلى ١٨١٥ مسئولًا صحفيًّا ومسئولَ علاقات عامة في الوزارات الرئيسة على مستوى الحكومة البريطانية، وأُضِيف إليهم ١٤٤٤ موظَّفًا للعمل في المنظمات غير الحكومية والوكالات التي يموِّلها دافعو الضرائب؛ ونتيجةٍ لذلك، يغدو بمقدورنا هنا التحدُّث عن سلطة خامسة، أو مجموعة محترفة جديدة من اختصاصيِّي العلاقات العامة الذين يعرفون كيف يصنعون الخبر (بيري، ٢٠٠٧)، وقد عمل كثير منهم صحفيين؛ ومن ثَمَّ يتمتَّعون بخبرة «في العمل في كلا الجانبين»؛ لذا فإن أغلب أحداث الأخبار السياسية «تُعَدُّ خبرًا» قبل أن تغدو حتى خبرًا. ويتناول الصحفيون في كثير من الأحيان موادَّ مُعَدَّة مسبقًا صِيغت بالفعل من قبلُ كخبر في صورة يسيرة الاستخدام.
ثانيًا: بسبب تناقُص أوجه الاختلاف بين الحدث والخبر وظهور صحافة المواطن، تزايَدَت صعوبةُ الفصل بين الخبر والمعلومة؛ مما يضطر باعة الأخبار الراغبين في جَنْيِ الأرباح منها إلى التأكيد على أن المنتج الذي يبيعونه هو خبر وليس معلومة؛ فإنْ صُنِّف كمعلومة، فيجب أن تكون معلومةً حصريةً تتسم بالموثوقية، تصدر في اللحظة المناسبة ولا تتاح مجانًا في مكان آخَر؛ ومن هنا تزايَدَت صعوبةُ جَنْيِ الأرباح من الخدمات الإخبارية العامة لأن معلوماتها/أخبارها متاحة بكل مكان في كل الأوقات. لكن حتى وسائل الإعلام «القديمة» كالصحف رفعت إنتاجها من الأخبار، وتُمنَح الأخبارُ في العديد من المدن الكبرى اليوم لكل من يتجشم عناءَ الْتقاط صحيفة مجانية في طريقه إلى العمل أو في العودة منه، وهذا مثال على التضخُّم في إنتاج الأخبار.
أحد حلول هذه المشكلة هو عرض أخبار بحسب الطلب تكون فريدة من نوعها، كالأخبار المالية على سبيل المثال، أو قد تُوجَّه إلى مجموعة خاصة من الأفراد كالأقليات اللغوية. لكن تتصل المشكلة في هذا السيناريو بعموم الأفراد وحقهم في المعرفة؛ ومن هنا فلسنا بالضرورة بمنأًى عن العصر الذي يملك فيه أصحابُ السطوة التمتُّعَ بخدمة إخبارية خاصة بهم، فيما يعتمد العامةُ على صورة حديثة من «القصص الجديدة» التي تعود إلى العصور الوسطى.
الاختلاف الثالث الذي بدأ يضمر هو الاختلاف بين الأخبار والتعليق عليها. لم تتسم الأخبارُ يومًا ﺑ «الموضوعية» التامة، لكنها اتسمت بالدرجة الأولى بالواقعية. أما صحافة المواطن — ولا سيما المدونات — فتمزج بصورة متزايدة بين الأخبار والتعليق عليها، ولا تزعم الحيادية، بل على العكس تقرُّ صراحةً بانحيازِ آرائها. ولا شك أنها في ذلك تقف على طرف النقيض من أغلب وسائل الإعلام الإخبارية التي تزعم «موضوعيتها» و«حياديتها»، حتى إنْ لم تكن كذلك. ومع فيضان المعلومات/الأخبار، تنشأ الحاجة إلى تعليقٍ واعٍ ومدروسٍ عليها.
الاختلاف الرابع الذي بدأ يُطمَس هو الاختلاف الكائن بين الأخبار والمواد الترفيهية، وهذا لا يعني أن الأخبار اليوم صارت تغطِّي بصورة متزايدة الموضوعات الإخبارية التافهة فحسب، بل يؤثِّر هذا أيضًا في طريقة عرضها؛ ومن هنا صار مقدِّمو الأخبار اليوم يسعَون إلى الظهور بمظهر غير رسمي، وإلى تجاذُب أطراف الحديث حول الأخبار. في الواقع، أعلنَتْ شركة ياهو مؤخَّرًا أنها ستوظِّف منشدًا للأخبار، وفي هذا الصدد صرَّح متحدِّث الشركة: «سيولِّد هذا المشروعُ سبقًا صحفيًّا إخباريًّا من نوع جديد تمامًا، فتابعونا. كلُّ ما يمكنني قوله هو أن هذا المراسِل سيترككم تتراقصون طربًا» (والينشتاين، ٢٠٠٧).
من ثَمَّ فإن استهلاك الأخبار جرى تسهيله قدر المستطاع؛ فيمكننا الوصول إلى الأخبار على متن الحافلات، وفي المحطات، وفي مقاهي الإنترنت. أضحتِ الأخبار معتادةً إلى حدٍّ كبير، ولم يَعُدِ الاختلاف بينها وبين الأجناس الأدبية الأخرى واضحًا على الدوام؛ فعندما تناوَلَتِ الأخبارُ الموضوعاتِ غيرَ الجادة، الْتبسَتِ الفواصلُ بين الأخبار والمواد الترفيهية.
(٨) الأمس كان اليوم
سوف أُنهِي كتابي بثلاثة أمثلة:
المثال الأول
بين عامَيْ ١٥٠٠ و١٨٠٠، عرض الباعة المتجولون والمشعوذون وتجارُ القصائد الغنائية القصصَ الجديدة في أزِقَّة الشوارع بجوار مدرِّبي الدِّبَبَة والبهلوانات والمهرجين والممثلين الكوميديين والدجَّالين (بيرك، ١٩٩٤). لم تكن قصصهم بالضرورة جديدةً، ولم تَبْدُ مثلَ ما نعرفه اليوم كخبر، لكنها ضمَّتْ عناصر صارت فيما بعدُ تُعَدُّ سماتٍ مميزةً لجنس الأخبار الأدبي، ولم يُرَ أن ثمة اختلافًا كبيرًا يفصل بين القصص والأخبار وبين الحقيقة والخيال. كانت الخطابات الشخصية تُعَدُّ قصصًا جديدةً، ويجري تبادُلها بوصفها كذلك مع الآخرين، وجرى تبادُلُ القصص الجديدة داخل المدن التي كانت شبكاتُ التواصُل بين بعضها مهمةً لمكانتها.
المثال الثاني
المثال الثالث
تطوَّرت مدونات ما بعد الحداثة بحيث تجاوزت كونها مذكراتٍ تكتب على الإنترنت يدير بها الأشخاصُ حسابًا (أو مدوَّنة) عن حياتهم الشخصية. وكما كانت الحال مع القصص الجديدة في العصور الوسطى، «أنشَدَ» المدوِّنون في العصر الحديث قصصَهم إلى جانب مؤدِّين آخَرين، لا عند زوايا الشوارع، بل على الشبكة العنكبوتية العالمية، ولم تَعُدْ هناك حاجةٌ لأن «يسافر» شيءٌ بعد الآن، لا الأخبار، ولا الصحفيون، ولا الأفراد؛ فكل هؤلاء يلتقون في ظلِّ العالم الافتراضي بالشبكة العنكبوتية العالمية؛ كما انتهى عهد الأخبار «الخالصة»، فكلُّ مَن يملك الوصول للتقنيات الحديثة يمكنه اليوم أن يصبح مراسِلًا إخباريًّا أو معلِّقًا صحفيًّا.
ما الذي حدث فيما بين المثال الأول والمثال الأخير؟ في المثال الأول، لدينا تجار للأخبار، يبيعون الأغاني التي ينشدونها عند زوايا الشوارع في مدنهم، وينشدونها لجمهور ضئيل العدد. أما في المثال الثاني، فنرى أولى شركات الأخبار العالمية الناشئة تبيع أخبارَها لوسائل الإعلام وتؤسِّس لأسواقها الحصرية؛ مما نتج عنه جمهور أخبار يتزايد بسرعة كبيرة، ويصل عدده إلى ملايين الأفراد حول العالم، قرءوا الأخبار في البداية بالصحف، ثم صاروا يستمعون لها على أجهزة الراديو، ثم صاروا يشاهدونها على التلفاز في منازلهم بالدرجة الأولى وأثناء السفر، وسنح لهم حمل الصحف أو جهاز الراديو معهم في طريقهم إلى العمل أو اللهو. أما في المثال الثالث، فبتعبير مدير محطة بي بي سي للأخبار العالمية: «لم تَعُدْ مؤسساتُ الأخبار تمتلك الأخبارَ» (سامبروك، ٢٠٠٦)؛ إذ لم يَعُدْ جمهور الخبر يقرأ الصحفَ نفسها بالوقت نفسه، ويصغي للنشرات الإخبارية نفسها، أو يشاهد أخبار التلفاز نفسها، بل صار يسافر في أركان العالم الافتراضي إلى نقطةٍ ما على شبكة الإنترنت، ويقرأ أو يشاهد الأخبارَ متى ارتأى الوقت مناسبًا لذلك، وانقسمت جماهير الأخبار الضخمة إلى أفراد يقفون على طرق سريعة في العالم الافتراضي، ليس مع مجموعة من الأفراد هذه المرة، بل وحدهم، وهم جاهزون للمضي.
سعيتُ للبرهنة على مرِّ كتابي أننا لسنا في حاجةٍ إلى دراسة حركة تحديث الأخبار فحسب، بل في حاجة لتقصِّي تطوُّرها التاريخي أيضًا من وسائل الإعلام والاتصالات رجوعًا إلى عهد العصور الوسطى. وبالأخذ في الاعتبار تطوُّر الأخبار على مرِّ التاريخ، بدءًا من باعة الأخبار الجائلين في العصور الوسطى، وصولًا إلى المدوِّنين في عهد عصر المعلومات؛ يمكن القول بأننا نشهد اليوم نهايةَ الأخبار «الحديثة» بمفهومنا لها في القرن التاسع عشر. وفي ظلِّ التغيُّرات المتعدِّدة التي يشهدها هذا الموقف، يجب أن نولي تفكيرًا جادًّا لما يشكِّل الخبر؛ فالكل يحسب أنه يعي ماهيةَ الأخبار، لكن في حقيقة الأمر، لا يمكن لأحدٍ تعريفُ مفهوم الأخبار في القرن الحادي والعشرين؛ إذ أخذت الحدود الفاصلة تلتبس من جديد، وقد تغدو الأخبار من جديد مجردَ قصص جديدة.