النصح بالإخلاص
هضاب لبنان آكام يعلو بعضها بعضًا من ساحل بحر الروم إلى قنن صنين، مرتصفة على طول البلاد من طرابلس الشام إلى ساحل صيداء، رصعتها القرى والدساكر، ووشحتها حراج الصنوبر والبلوط، وتخللتها أودية وفجوات تنساب فيها الجداول والغدران، وقد قامت على جوانبها الحدائق والبساتين من التوت والزيتون والتين والرمان، ودُبجت أرضها بطرائق الديباج من النرجس والخزام والأقحوان. بلاد المروءة والضيافة والشهامة والعفاف، مضى على سكانها دهور طوال، وهم يغرسون كرومهم ويجنون ثمارهم، ويذودون عن ذمارهم بالبيض الصفاح، جانبهم عزيز وحرزهم حريز، يمر بهم الغزاة من مصر، وبابل، واليونان، والرومان كالطيور القواطع تَلْتهم ما تراه وتغادر البلاد وأهلها، فيعودون إلى زرعهم وضرعهم يغرسون البساتين، ويزرعون الحقول ويسومون القطعان، ويبنون البيوت، ويشيدون القصور آمنين ناعمي البال إلى أن ينتابهم غازٍ آخر كما تنتاب الأوبئة البلدان، فيظاهرونه أو يشاغبونه حسب مقتضى الحال.
لما كثر مرور الغزاة في بلاد الساحل بين بيروت ولبنان، انحدر الأمراء آل أرسلان من الشرق إلى الغرب، ونزلوا قرى تطل على طريقهم لاستكشافها فسميت الشويفات، وبنوا فيها دورهم حيث ضافهم سلطان دمشق الملك المؤيد المحمودي الخاصكي منذ خمسمائة عام، ونزل على الأمير سيف الدين ثلاثة أيام.
في دار من هذه الدور وقف الأمير أحمد صباح يوم من أواخر عام ١٨٥٩، وقف في رواق يطل على بحر الروم وغابة الزيتون المعروفة بصحراء الشويفات، وكانت سفن الصيادين قد خرجت من بيروت للصيد، ونشرت شراعها لنسيم الصبا، وقد هب صباحًا من البر إلى البحر قبل اشتداد الهجير، فجازت خلدة وشقت صدر الماء فأرغى وأزبد، ونشرت الغزالة أشعتها على الرمال بين الصحراء والبحر، فعصفرتها وعبثت بما تجمع على أوراق الزيتون من ندى الليل، فطار ضبابًا لطيفًا كأنفاس المحبين.
الجناب الأكرم والملاذ الأفخم الأمير أحمد أرسلان المحترم دام بقاه
بعد أداء واجب التحية والإكرام، أعرض أن سعادة القنصل أمرني لكي أكتب إليكم أدعوكم إلى دار القنصلية غدًا صباحًا، للمذاكرة في بعض الشئون الهامة والمرجو تشريفكم في الوقت المعين، وأدام الله بقاءكم.
فقال في نفسه: ما هذه الأمور الهامة يا ترى؟ ولماذا لم يكتب القنصل نفسه إليَّ بالفرنسوية؟ أويظن أنني أكون آلة في يده كما كان المرحوم والدي؟! تلك أيام مضت ولن تعود، نعم إن إنكلترا وفرنسا ساعدتا دولتنا على الروس في حرب القرم، ولكن تلك المساعدة لا تقضي علينا بالاستعباد، وليس من صواب الرأي أن نجاري خورشيد باشا فيما طلبه، ولكن لا يليق بنا أن نستميت إلى هذا الحد.
ثم نظر إلى ساعته، ونادى مسرورًا عبده، وأمره أن يشد على جواده، ولبس ثيابه: بذلة من الجوخ الكحلي، وطماقًّا مزركشًا بالقصب، وتقلد سيفه؛ وهو لجده الأعلى الأمير جمال الدين، قلَّده به السلطان سليم الفاتح في مدينة دمشق يوم دخلها ظافرًا، وتنكَّب قربينة صنعت لأبيه في بيت شباب، صنعها له أولاد نفاع من فضلات نعال الخيل المطرَّقة، فجاءت مجوهرة كالسيوف الدمشقية يطلق بها عشرين حوَّاشة معًا، فتنطلق منها كالمدفع الرشاش ولا يستطيع إطلاقها إلا من كان ساعده من الحديد مثل ساعده، وألقى على كتفيه برنسًا أبيض من نسج دمشق، ثم اعتلى صهوة جواده، ووضع فردين صغيرين في قربوصه؛ وهما هدية لأبيه من إبراهيم باشا، أهداهما إليه قبل واقعة اللجاة، وسار وأمامه عبداه مسرور وسالم، وهما بالعدة الكاملة مع كل منهما يطقان، وزوج طبنجات، وبندقية نظامية إبرهيمية من البنادق التي ألقتها جنود إبراهيم باشا وهي عائدة إلى مصر.
فمر في طريق متعرج بين البيوت والحوانيت، وكانت نساء القرية ذاهبات يستقين وجرارهن على أكتافهن أو رءوسهن، والبراقع مسدولة على وجوههن لا يبين منها إلا عين واحدة يكشفنها لينظرن طريقهن، فلما دنا منهن وقفن كاسرات الطرف هيبة ووقارًا، وكذلك كان الرجال يقفون في حوانيتهم، ويضعون أكفهم على صدورهم ويحيونه.
وسار من تحت كفر شيما والحدث إلى الشياح والناس ينظرون إليه شزرًا؛ لأن قلوبهم كانت موغرة بالأحقاد، ومر في حراج بيروت، وكان الهجير قد اشتد وعلا صوت الصراصير، فوقف هنيهة في ظل صنوبرة كبيرة مما بقي من الصنوبر الذي غرسه الأمير فخر الدين المعني، وهي منتصبة بين الأشجار التي غرسها إبراهيم باشا كالجبار بين الأطفال، حتى إذا كثر رفس الجواد من كثرة الذباب استأنف السير ومر في طريق الميدان فالباشورة.
وعرف أصحاب الحوانيت أنه من أمراء الجبل من قيافته وعدته، لكنهم لم ينهضوا للسلام عليه لاعتقادهم أن أهالي لبنان فلاحون كلهم حتى أمراؤهم، ولو كانوا من نسل الملوك، ولا هو بادأهم بالسلام أنفة وعتوًّا، ودار من عند السور «عصور»، وصعد في طريق المصيطبة إلى بيت الكولونل روز قنصل الإنكليز الجنرال، فبادر إليه قواسان كانا واقفين عند الباب، وأمسكا بركاب جواده، فنزل عنه ونفح كلًّا منهما بريال، ودخل غرفة كبيرة، كواها تطل على حديقة غناء، نسقت فيها أشجار البرتقال والتفاح والرمان، وأنواع الورد والياسمين، وكانت الغرفة مفروشة بالبسط الفارسية، وفيها مقاعد مكسوة بالحرير المطرز من نسج دير القمر، ومكتب كبير من خشب الجوز مطعم بعرق اللولؤ من عمل دمشق، وكراسي إنكليزية كبيرة مكسوة بالجلد البني، أمامها موائد صغيرة، فلاقاه القنصل إلى الباب ورحب به، ثم أتي بالقهوة ودار الحديث بينهما على شئون الجبل وثورة الخواطر فيه، فشكا الأمير من أن نصارى المتن والعرقوب وزحلة ودير القمر قد أكثروا من ابتياع الأسلحة، ولا عمل لهم إلا سبك الرصاص ولف الفشك، فلا عجب إذا فعل دروز الشوفين فعلهم. قال: ويبلغني أن كسروان كلها متحفزة للثورة، وأن يوسف بك كرم قابل قنصل فرنسا، فشد القنصل أزره، وأكَّد له أن فرنسا لا تتخلى عن الموارنة بوجه من الوجوه. فقال القنصل: ولكن بلغني أن خورشيد باشا قال لكم مثل ما قال قنصل فرنسا ليوسف بك. فقال الأمير: أما أنا فلم أقابل خورشيد باشا. فقال القنصل: نعم لم تقابله أنت، ولكن قابله جماعة من بيت عماد وبيت نكد، ومضى اثنان منهم إلى خلوات البياضة لهذا الغرض، وقد استدعيتك الآن لكي أحذرك من عواقب الثورة، فإنه إذا استفحل الخطب فلا يبعد أن تحتل بلادكم دولة أجنبية، وهذا لا نرضاه لكم ولا للدولة العثمانية، وأمس كان عندي سعيد بك فأخبرته بما أخبرتك به الآن، وليس الخوف من عقَّالكم بل الخوف من جُهَّالكم، وأنا أعلم شدة طاعتهم للعقال، ولكن ما كل وقت يكون العقال على يقظة من أمرهم.
وطالت المذاكرة نحو ساعتين، حتى إذا حان وقت الغداء دعا القنصل الأمير للغداء معه، وتغدى معهما شاب إنكليزي اسمه السر هنري بدمونت في غرفة مجاورة لغرفة الاستقبال، وجلسوا بعد الغداء يدخنون التبغ ويشربون القهوة، ويتكلمون في مصالح الجبل، وتاريخ أمرائه، وسبب الخلاف بين اليزبكية والجانبلاطية، وبين النصارى والدروز، إلى غير ذلك مما يهتم به قناصل الإنكليز خاصة، وكان كلامهم بالفرنسوية، وقد سُرَّ السِّر هنري بحديث الأمير أحمد، وطلب إليه أن يسمح له بزيارته في داره بالشويفات. فقال: حبًّا وكرامة، وإن سمحت فإني آتي بنفسي وأذهب بك. فقال السر هنري: إني لا أكلفك إلى ذلك، وسأزورك بعد غد مع أحد قواسة القنصلية. ثم استأذن الأمير أحمد في الانصراف، فودعه الكولونل روز والسر هنري بدمونت إلى باب القنصلية.
ومر وهو راجع في طريقه ببيت رجل اسمه الشيخ درويش ويُكنَّى بأبي فخر، وكان هذا الرجل قد رآه ذاهبًا إلى دار القنصل، فجلس في رواق بيته ينتظر عودته، حتى إذا مر به قام للقائه ودعاه لينزل ويشرب القهوة، واعتذر الأمير عن النزول بفوات الوقت، فقال له: ألَّا نزلت، فإن المرحوم والدك كان يشرفنا كلما نزل إلى بيروت، وبيتنا مستعد لقبول الزوار، وأمس شرفنا الوالي والسرعسكر. وما زال به حتى ترجل وصعد معه إلى رواق كبير يطل على الطريق، فلما جلس قال له الشيخ درويش: يا سبحان الله! إنك جلست على الكرسي الذي كان يجلس عليه المرحوم والدك! وهو الكرسي الذي يجلس عليه دولة الوالي كلما زارنا، هات أخبرني أين كنت؟ ولا تخفِ عني شيئًا، فإن المرحوم والدك كان يطلعني على كل أخباره وأسراره، وقد كان أبي صديقًا له، وأوصاني لأكون صديقًا لك، قل لي أين كنت؟ فقال الأمير: كنت في بيت الكولونل روز لشغل خصوصي.
فقال الشيخ: أي نعم لشغل خصوصي، اسمع يابْني ولا تُملِّك الأجانب منك، ولا تحِدْ عن خطة أبيك — رحمه الله، ولماذا لم تذهب إلى بيت الوالي مثل سائر مناصب الجبل؟
فقال الأمير: إني ذاهب إليه.
فقال الشيخ: أحسنت أحسنت، وتفضل خذ القهوة. انظر ما أجمل هذه الفناجين! فإنها من الصيني الحر، اشتراها المرحوم والدي من دمشق الشام، كل فنجان بعشرة فندقليات، إذا رميته على الأرض لا ينكسر! والظروف من صياغة إسطانبول: فضة روباص، وذهب بندقي، والمرجان من أعلى طبقة. الظروف اشتريتها أنا من إسطانبول، أخذتها من الدلال بثمن بخس بالنسبة إلى ثمنها الأصلي، كانت لأزميرلي باشا الصدر السابق، وبيعت مع بعض التحف بعدما قتل، ما أكثر تقلبات الدهر! يقال إنها كانت للسلطان مصطفى، نعم كانت للسلطان مصطفى، فأهداها إلى أزميرلي باشا، أما أنا فاشتريتها بمالي، كل ما عندي اشتريته بمالي؛ لأني أكره المهاداة، فإن الهدية بلية على ما يقال، فأنت الآن تشرب القهوة في فنجان من الصين، وظرف كان يشرب منه السلطان مصطفى — غفر الله له.
وكان الأمير أحمد يعرف هذا الرجل وحبه للفخر والمباهاة، ولذلك لقب أبا فخر فلم يسؤه كلامه، لكنه ود تقصير الزيارة على قدر الإمكان، فلم يكد يشرب القهوة حتى نهض، وقال: تعذرني الآن يا أبا فخر لأنه لا بدَّ لي من رؤية دولة الوالي.
فقال: أحسنت، وإن أردت فأنا أذهب معك إليه، ولكن قد حانت صلاة العصر، ولا بدَّ لي من الذهاب إلى الجامع، لأني لا أترك الصلاة مطلقًا فعلى الطائر الميمون.
فودعه الأمير بعد أن طلب إليه أن يشرفه إلى الشويفات، وركب جوادهُ وسار إلى دار الولاية، وأقام مع الوالي نصف ساعة دار فيها الحديث على شئون الجبل، وكان الوالي يتودد إليه على خلاف عادته، وقال له: أنتم سيف الدولة ولا غنى لنا عنكم، ولا غرض لنا إلا استتباب الأمن في البلاد، وكفُّ يد الأجانب عنها، ولا بد للدولة من ذلك مهما كلفها، ونصيحتي لك أن تكون في خاطرها مثل أبناء عمك.
فقال الأمير: نحن لا نخرج عن خاطر الدولة؛ لأن طاعتها فرض علينا، ولكن يا حبذا لو فضت هذه المشاكل من غير حرب أهلية.
فقال الوالي: هذا الذي نوده، ولكن إذا كان لا بدَّ من الحرب الأهلية، فالدولة لا تتغاضى عنكم؛ لأنها لا تترك الحزب القوي ليفتك بالضعيف، وقد أبنت رأيي بالإسهاب لشيخ العقل، ولا بدَّ من أن يجمعكم ويبسطه لكم، ولا أخفي عليك أن ترددك على القنصل لا يرضينا.
فقال الأمير: كيف ذلك؟! والذي أعلمه أن دولة الإنكليز من أشد الدول صداقة لدولتنا العلية.
فقال الوالي: نعم هي كذلك، ولكن ليس كل رجالها على رأي واحد.
قال ذلك وصمت، فعرف الأمير أن مدة الزيارة انقضت، فقام وودع، فوقف له الوالي وشيعه إلى باب الغرفة التي استقبله فيها على خلاف عادته، وكان هذا الحديث باللغة التركية؛ لأن الأمير أحمد تعلمها لما كان في الأستانة مع أبيه، وهو يحسن التكلم بها كما يحسن التكلم بالفرنسوية، وكان العصر قد أذن فركب جواده وعبداه معه، وسار راجعًا إلى الشويفات في الطريق الذي جاء فيه. وكان يفكر في كلام القنصل المسهب وكلام الوالي الموجز وأحوال الجبل، وما يمكن أن تئول إليه إذا نشبت فيه حرب أهلية تسفك فيها الدماء وتحرق البيوت، وراجع ما كان من نتائج الحروب الأهلية السابقة وكلها ضعف على ضعف وذل على ذل، فقال: لا بد لي من اتباع نصيحة القنصل وحمل أبناء عمي على اتباعها. ووصل إلى نهر الغدير، وهو تائه في فيافي الأفكار وحانت منه التفاتة، فرأى نسوة جالسات وراء مطحنة، فخفق فؤاده وغض طرفه وظل سائرًا.
وكانت الشمس قد آذنت بالمغيب، وانتشر ذهب الأصيل على ربى لبنان، وألبس الأفق طرازًا معلمًا من البرفير والأرجوان.