المجمع البطريركي
شمالي لبنان مقر المردة ومعقل رجال الدين، عصى قياصرة الروم ولم يخضع لخلفاء المسلمين، بل كان ينازعهم السلطة في بلاد الشام، وكان لأمرائه السيادة المطلقة من أورشليم إلى أنطاكية يحاربون بني أمية كما يحارب الأكفاء بعضهم بعضًا، واستمروا على ذلك إلى أن وقع الخلاف الديني بينهم وبين أراخنة القسطنطينية، فعاون الروم العرب عليهم، وتوالت السنون وهم لا يزيدون قوة ولا تزيد بلادهم اتساعًا، فضعف شأنهم رويدًا رويدًا إلى أن انقرضوا وبقيت السيادة لرجال الدين؛ لأنهم يتجددون بالانتخاب، فبنوا أديرتهم على كل معقل، واستأثروا بجانب كبير من أملاك البلاد.
في دير من هذه الأديرة، فوق زوق ميكائيل شمالي الطريق إلى بزمار دير بكركي لرهبنة أنشأتها فتاة حلبية اسمها هندية، جاءت كسروان واشترت أولًا دير ما عبدا المشمر، وأنشأت فيه الرهبنة، ثم استحسنت موقع بكركي، وطلبت من رهبانه المقايضة فأعطتهم ديرها وأخذت ديرهم، وبنت فيه بناء كبيرًا أنفقت عليه أربعين ألف ريال، وكانت عازمة أن تزيده فخامة واتساعًا، فجاءته بثلاثين ألف حجر منحوت وبأعمدة عظيمة من الرخام، ولكن قام عليها مبغضوها وشانئوها ونسبوا إليها السحر والضلال، فاضطر البطريرك يوسف التيان إلى الاستعفاء؛ لأنه كان من ناصريها، وحرمتها الكنيسة وحرمت أعمالها، وحلت رهبنتها، وبات الدير قفرًا لا يأوي إليه غير البوم. ويقال إن أحد المطارنة أحرق الثلاثين ألف حجرًا كليًّا، زاعمًا أن الحرم تناولها.
وكان بطاركة الموارنة يقيمون في دير قنوبين في شمالي لبنان، فاختاروا الإقامة في كسروان في الأيام الأخيرة؛ لأنها مقر وجهاء الموارنة، فكانوا ينزلون في الدير الذي يختارونه إلى أن تَنصَّب البطريرك يوسف إسطفان، فعقد المطارنة مجمعًا في دير مار يوسف الحصن في غسطا، حضره القاصد الرسولي، وقرروا في جملة ما قرروه أن يكون الكرسي البطريركي في بكركي، ثم تكرر هذا القرار في مجمع آخر ولكن لم يعمل به، فلما تنصب البطريرك يوسف حبيش عمل به، وأقام في بكركي وخلفه البطريرك يوسف الخازن فزاد البناء. وأمام الدير ميدان صغير في آخره شجرة ميس قديمة العهد، وكثيرًا ما يمشي البطريرك والمطارنة فيه يتلون فروض الصلاة.
وفي تاريخ الدويهي أن بكركي كانت بلدة كبيرة في أوائل القرن الخامس عشر، والمنظر منها جميل جدًّا يطل على كل بلاد الساحل من جبيل إلى بيروت وما وراءها جنوبًا.
إن حوادث الجبل المشار إليها في الفصول السابقة جعلت بطريرك الموارنة يدعو المطارنة ووجوه الطائفة للاجتماع والمذاكرة فيما يجب عمله إذا قام الدروز لمحاربة النصارى، فاجتمع لديه جماعة منتقاة لا تتجاوز اثني عشر نفسًا، وهم: مطران بيروت، ومطران صور وصيداء، ومطران عكاء، ومطران قبرص، ومطران الشام، والخوري نعمة الله الدحداح كاتب السر، والخوري يوحنا الحاج قاضي النصارى. ومن الوجوه: الأمير أمين منصور أبو اللمع، ويوسف بك كرم، والشيخ كنعان الخازن، والشيخ صالح الخازن، وترجمان قنصلاتو فرنسا في بيروت.
المجلس رهيب البطريرك في صدره والمطارنة على جانبيه وأكثرهم شيوخ عركوا الدهر، وبعضهم درس في رومية، واطلع على أخبار الأمم الغابرة والحاضرة، وعرف تاريخ لبنان وما تعاقب عليه من أيام النعيم والبؤس، فدارت المذاكرة على أحوال الجبل من حين تولاه عمر باشا النمسوي، فإنه تولى إمارته واتخذ بتدين دارًا للولاية واتخذ له مديرين: الشيخ خطار العماد، والشيخ منصور الدحداح؛ الأول: درزي والثاني: ماروني، وولى الشيخ فرنسيس أبا نادر الخازن على كسروان، والشيخ ظاهر منصور الدحداح على الفتوح، وولى على بلاد جبيل والبترون والكورة ثلاثة من المشايخ الحمادية، فنفرت الخوازنة من انضمام ولاياتهم الثلاث إلى واحد منهم، ونفرت نصارى جبيل والبترون والكورة؛ لأن الحمادية مرفوعة ولايتهم عنهم منذ نحو ستين سنة، نعم إن عمر باشا اتخذ النصارى أحلافه ليرضوا بولاية الدولة، وجنَّد منهم الجنود وجعل الشنتيري وأبا سمرا قائدين عليهم، وكتب مصطفى باشا والي بيروت إلى البطريرك يثني على غيرته في خدمة الدولة، وأرسل إليه هدية نفيسة ظرف فنجان مجوهرًا، ولكن الأفعال التي فعلها منيب باشا بالدحادحة والدسائس التي دست للدروز لينتقضوا على عمر باشا ويحاربوه، ثم قسمة البلاد إلى قائمقاميتين متناظرتين، ثم إلى ولايتين وتجدد الفتن واستمرارها؛ كل ذلك مكن الضغائن والأحقاد في قلوب النصارى والدروز.
هذا من حيث أهالي لبنان ونسبتهم بعضهم إلى بعض، وكأن الحروب الأهلية التي استمرت مئات من السنين لم تكفِ لزعزعة أركان الجبل والتنكيل بأهله، فتسلط عليه عاملان آخران يرميان بسهم واحد إلى غرضين مختلفين: الواحد يريد التنكيل بالنصارى لكي يتحزب لهم أهل ملتهم من الدول الأوروبية، ويسعوا في تغيير الحالة الحاضرة، والثاني يريد التنكيل بهم لكي يجد سبيلًا لحمايتهم واحتلال البلاد.
وكان مدار الكلام في المجمع البطريركي على شئون الجبل، وما يجب عمله في تلك الأحوال، وكان كثيرون من الحضور غير عارفين الغاية المقصودة، فلما شرحت لهم بهتوا وخاف بعضهم عواقبها، وكثر الجدال بينهم، ولا سيما بين مطران بيروت ومطران عكاء، وأخيرًا تكلم مطران دمشق وكان مسموع الكلمة لتقواه، وقال: إن نحن جرينا على الخطة التي فصلها لنا حضرة الترجمان، فقد لا يكون الضرر جسيمًا في نواحي لبنان، ولكن المدن البعيدة كدمشق لا تسلم من الإفراط، ونحن هناك شرذمة صغيرة فلا تبقى منا بقية، وما فائدتنا من اصطلاح الأحوال بعد أن نمسي من الغابرين.
فقال له الترجمان: لقد أوصينا بكم أميرًا مقدامًا عندكم، وهو تكفل بمنع كل إفراط، ولا نظن أنه يصاب أكثر من اثنين أو ثلاثة، وقد لا يصاب أحد، بل يكتفى بنهب بعض البيوت، وإن كانت حادثة البادري توما أقامت أوروبا وأقعدتها والقاتل مجهول، فكيف إذا حدثت ثورة عامة وبدا اعتداء مقصود؟!
وبعد جدال طويل وأخذ وعطاء أجمعوا على إرسال جانب من الرجال المسلحين إلى ساحل بيروت، وجانب آخر إلى جهات زحلة ثم يعود الفريقان من حيث أتيا.