بوادر الحب
بُذلت الوسائل كلها في التفتيش عن الأميرة صفا لا من قبل أبيها؛ لأنه كان قليل الاهتمام بها، بل من قبل عريسها وذويه؛ فإنهم حسبوا اختفاءها عارًا لا يمحى، وزادهم قلقًا تلبس الأمر عليهم، فبعثوا بالرسل إلى كل ناحية وصوب، بعد أن فتشوا بيوت القرية كلها فلم يقفوا لها على أثر، وكان يأتيهم كل يوم رجل بخبر جديد، فيبحثون ويفتشون فلا يجدون لخبره صحة، وجاءهم رجل ذات يوم وقال إنه كان ذاهبًا إلى جهة بسكنتا، فأمسى عليه المساء وغامت السماء، فخاف من المطر والليل حالك الظلام والطريق وعر لا يسلك، ولا سيما بعد أن مر فيه السيل وخربه، فقصد ديرًا من أديرة الراهبات قريبًا من الطريق، وطلب من البواب أن يسمح له بالنوم عنده فامتنع البواب أولًا عن إجابة طلبه، ثم رأى اشتداد الريح فخاف أن يموت بردًا إذا لم يسمح له بالمبيت عنده. ونحو نصف الليل قرع الباب، فقام البواب وفتح وإذا أمام الباب رجلان معهما امرأة في زي راهبة، وهم راكبون خيولًا، فدخلا بها ووقف الثلاثة في الصحن الخارجي، ودخل البواب وقرع الباب الداخلي فجاءت راهبة فتحته وأدخلت المرأة وأقفلت الباب، وعاد الرجلان من حيث أتيا.
فلما سمع الأمير ذلك قام في نفسه أن هذه المرأة هي عروسه نفسها؛ لأنه شاع وذاع أنها كانت عازمة على الترهب، فقام من ساعته ونزل إلى بيروت وأخبر المطران بما سمعه من هذا الرجل، فأكد له المطران أن الخبر كاذب؛ لأن الراهبات لا يقبلن فتاة عندهن ما لم يأت بها أهلها، ولا سيما بعدما حدث من القيل والقال في مسألة الراهبة هندية، أما الأمير فلم يكتفِ بهذا النفي بل طلب من المطران أن يرسل ويتحقق له الأمر، فقال: إن هذا خاص بسيدنا البطرك، وسأرسل الآن أخبره بما وقع وأنتظر أوامره. وكان من الأمير كيس فيه عشرون ذهبًا، فقدمها إلى المطران أجرة قداديس، فامتنع المطران عن أخذها أولًا ثم أخذها، وقال للأمير: كنت أظن أنك تسمح لنا بنصف المطحنة كما سمحت أمك بالنصف الآخر حتى تصير كلها للكرسي. فعبس الأمير؛ لأن إيجار المطحنة السنوي ثلاثة آلاف غرش، ولو أراد أن يبيعها لبيعت بثلاثين ألفًا أو أكثر، ولكنه عاد فرأى حرج موقفه فقال للمطران: الذي تقوله سيادتك يصير. واتفقا على أن يكتب له حجة بالنصف الثاني من المطحنة فتصير كلها للكرسي.
وكانت الأميرة سلمى أكثر الشهابيات اهتمامًا بفقد ابنة عمها؛ لأنها عشيرة صباها وقد ربيتا معًا، وحالما بلغها الخبر عرفت حقيقته، ولكنها كانت تحسب أن ابنة عمها عدلت عن عزمها، ورضيت بما قسم لها؛ فإن صفا كانت قد أخبرتها بما عزمت عليه منذ أكثر من نصف سنة، ثم لما لج الأمير قاسم في طلبها ولم تر لها مناصًا من قبوله، ولا سيما بعد ما رأت من اضطهاد زوجة أبيها لها، ورأت أن سلمى لا تشجعها على عزمها، وغاية ما في الأمر أنها طلبت منها أن تترك بيت أبيها وتأتي وتسكن معها؛ لما رأت منها ذلك تظاهرت بالقبول، ولم تعد تبوح لها بشيء، وكانت كبيرة النفس قليلة الكلام، فدبرت أمرها على مهل، وكانت تعلم خطر السبيل الذي سارت فيه، ولكن لسان حالها كان يقول:
وكانت الأميرة هند كثيرة الأوهام تصدق ما يقال عن الجن والعفاريت، فقام في نفسها أن الجن خفطت ابنة سلفها، لكنها رأت الأمر فادحًا رهيبًا حتى لم تجسر على التفكير فيه، بل خافت أن تذاكر ابنتها به، وسرَّت الأميرة سلمى باعتقاد أمها ذلك لكيلا تضطر أن تكذب عليها إذا سألتها عما تعلمه من أمر ابنة عمها، لكنها بقيت مضطربة البال عليها، ولم يعد يهنأ لها عيش ومرت الأيام وهي لا تزيد إلا قلقًا، وكثيرًا ما كان يخطر ببالها السر هنري بدمونت فتسر بالخاطر وتجاربه أو تنفيه من ذهنها وتتسلى عنه بعمل تعمله أو كتاب تقرؤه، ثم كثر تردده في بالها ولم يعد يفارقها بسهولة، فقلقت أولًا من جراء ذلك، ثم رأت أنها مدفوعة إلى محبته رضيت أو كرهت، فلم تعد تحاول المحال بمحو صورته من ذهنها، وصارت تود أن تراه أو ترى منه أقل علامة تدلها على أن في قلبه مثل ما في قلبها، ولما مضت أيام كثيرة ولم تره ولا سمعت عنه شيئًا، صارت تقيم في رواق يشرف على طريق الشويفات، وكلما رأت فارسًا أحدقت بنظرها إليه، ولم تنقطع عن لوم نفسها، وكثيرًا ما قامت الحرب بين عقلها وقلبها؛ يقول عقلها: هذا شاب أجنبي رأيتِهِ مرتين لا غير، والمرجح بل المؤكد أنه نسيكِ الآن ولم تعودي تخطرين بباله، فما هذا الغرور بل هذا الجنون؟! فيجيبهُ قلبها: لو لم يكن في قلبه عاطفة إليَّ ما كان فيَّ هذه العاطفة إليه، وإلا فما معنى قولهم إن القلوب شواهد والحب متبادل، ناهيك عن أنه في المرتين اللتين رأيته فيهما نظر إليَّ نظرًا غير عادي، وفي المرتين كان الحياء يصبغ جبينه، وكان يسترق اللحظ، وإذا نظرت إليه غض طرفه، ولم أرَ شيئًا مثل ذلك في كل الشبان الذين عرفتهم ولا في أحمد. ثم يخفق فؤادها وتشعر كأن حجرًا ثقيلًا وضع على صدرها وهي تحاول كتمان ما بها عن كل أحد.