الأميرة صفا
مضى شهران على اختفاء الأميرة صفا ولم يعلم أحد مقرها، لكن زادت الإشاعات بأنها ترهبت في أحد الأديرة، وكتب المطران إلى البطريرك، وبحث البطريرك في الدير الذي أشار إليه الأمير قاسم، فلم يجدها فيه ولا وجد أن راهبات الدير يعلمن شيئًا من أمرها، وكان أبوها يظن أنها هربت مع شاب من الفلاحين فحرمت ميراثها من أمها؛ لأن الشاب غني جدًّا، وكان يحبها ويود الاقتران بها، ولكن الشهابيين لا يزوجون الفلاحين، ولو صاروا من أفقر الناس وصار الفلاحون من أغناهم، وقد قال هذا الشاب لأبيها إنه يتنازل له عن ميراثها من أمها، وكان وافرًا جدًّا، فإن أمها من نسل الأمير بشير الكبير، وقد ورثت منها جنائن وبساتين في الحدث والشياح ووطأِ نهر الكلب، وضياعًا ومزارع في بلاد جبيل وسهل البقاع، فمال أبوها إلى تزويجه بها، ولكن إخوته وأبناء عمه منعوه من ذلك، وهي لم تكن تميل إلى ذلك الشاب، واتفق أنه كان غائبًا وقت زواجها، فاتهموه باختطافها ولكنه عاد من غيبته، واتضح أنه لم يكن عارفًا بما جرى لها؛ لأنه لما رأى إصرار أهلها على تزويجها بالأمير قاسم، سافر إلى مصر لكي يسلوها، فلما رأى أبوها ذلك انشغل باله وخاف أن يتحقق أمر ترهُّبها، فيُطلب منه أن يسلمها كل ميراثها من أمها.
وكان كذلك؛ فإنه بينما كان ذات يوم يفكر في هذا الأمر جاءه رسول من دير العازرية في بيروت ومعه كتاب من ابنته له، فلما فضه وقرأه أظلم الضياء في عينيه، وقام من ساعته وجاء إلى بيت أخيه الأمير عباس أبي الأميرة سلمى؛ لأنه كان أكبر منه سنًّا وأوسع خبرة وأراه الكتاب، فأرغى هذا وأزبد وشتم ولعن، وقال لأخيه: قلت لك لا تدع هؤلاء الراهبات يدخلن بيتك، وليس طمعهن بصفا بل بالجنائن والبساتين والضياع والمزارع، ما دمتم لاصقين بهذه الطغمة صيروكم على الأرض، هذا قاسم الحمار وهب المطحنة كلها للمطران لكي يفتش له عن صفا، وأنا أحلق لحيتي إن كان المطران لا يعلم أنها ذهبت مع الراهبات، وأن ذلك بعلمه وبدسيسته، هذا أمر لا نحتمله ولا نطيقه لم يقع مثله لبيت شهاب من أول مجيئهم إلى هذه البلاد إلى الآن، اسمع ماذا تقول لك في مكتوبها تقول إنها فرحة جدًّا؛ لأنها تستطيع الآن أن تصلي لأجل خلاص نفسك واهتداء عمها، من كان يمنعها عن الصلاة وهي هنا؟! ألا يسمع الله في لبنان كما يسمع في إيطاليا، ولكن ليس العبرة هنا، بل العبرة في قولها إنها نذرت لله أن تساعد الفقراء والمساكين بكل ما تملكه؛ أي بكل ما ورثته تكفيرًا عن نفس أمها؛ لأن نفسها لا تزال في المطهر، قم قم لعبوا عليك وأخذوا ابنتك ومرادهم أن يأخذوا أموالك، ثم اسمع ماذا تقول، إنها مبسوطة جدًّا ولكن البرد شديد في تلك البلاد وهي مصابة بزكام شديد، غدًا يتحول معها إلى سل في تلك البلاد الباردة وتموت، من يذهب من هنا إلى إيطاليا في فصل الشتاء غير المجانين؟!
فلم يقل الأمير فارس شيئًا بل جلس يفكر في الأمر، ويمص المصة بعد المصة من الشبق الذي في يده، ويطلق دخانها في الجو، حتى صار حوله سحابة من الدخان، وهو يقطب حاجبيه تارة، ويرفعهما أخرى كأنه يفكر في مسألة ابنته، والأمير عباس يعيد تلاوة المكتوب وينظر في معانيه، وأخيرًا قال الأمير فارس: ليس لنا إلا قنصل فرنسا، فهو محتاج إلينا الآن، فأَذهب إليه أنا وقاسم ونطلب منه أن يرجعها حالًا وإلا نخرب طبخته كلها.
فقال الأمير عباس: وهذا لا يكفي، بل يجب أن تتهددوا المطران بالرجوع إلى الإسلام إن هو أصر على عدم إجابة طلبكم، فإني أخاف أن قنصل فرنسا لا يستطيع أن يفعل شيئًا من هذا القبيل؛ لأن الإمبراطورة في يد الإكليروس لا تخالف لهم أمرًا، ولا تتجاسر أن تطلب منهم شيئًا والإمبراطور في يدها، وعلى كل حال لا ضرر من الذهاب إلى الاثنين؛ إلى القنصل وإلى المطران.
أختي وشقيقة روحي …
أطلب السماح منك يا حبيبتي ومن والدتك الحنونة؛ لأنني فارقتكما على هذه الصورة، وقد كنت أعلم لما ودعتك وودعتها أنني قد لا أعود أراكما في حياتي، فتصوري مقدار كآبتي حينما خرجت من بيت أبي ووقع نظري آخر مرة على الوجوه التي أحبها، وعلى المناظر التي قضيت فيها زهرة عمري، على الأماكن التي كنا نلعب فيها معًا والأشجار التي كنا نجلس تحتها، كل ما كنت أتسلى بتربيته من الطيور والرياحين والأزهار، كل شيء من ذلك له مكان في قلبي، ولكن المكان الأول فيه هو لك ولأمك ولقبر المرحومة والدتي.
آه يا سلمى! كم أود أن أراك الآن، وأضمك إلى صدري، ونذهب معًا إلى قبر والدتي، فأضع خدي عليه وأغسله بدموعي! صدقيني يا سلمى، إني تركتكم كلكم لأجلها؛ لكي أخلص نفسها، لا بد من أن يكون الناس قالوا أقوالًا كثيرة، واتهموني تهمًا لا أصل لها. الله يسامحهم، أما أنا فكنت أشعر أني اخترت النصيب الصالح، ولا يحق لقاسم أن يلومني؛ لأنني أخبرته صريحًا أنه يستحيل عليَّ أن أقترن به بعد أن كرست نفسي لمخلصي، فلومه على نفسه، وكذلك لا يحق لأبي أن يلومني، ومع ذلك فإني أصلي لأجلهما دائمًا، كما أصلي لأجل أبيك وأمك، ولا تظني يا حبيبتي أني صرت الآن أسعد مما كنت، كلا، غير أني أرجو أن يغفر الله لي ولكل الذين أحبهم، نوبي عني بتقبيل والدتك وتقديم الاحترام لوالدك.
ولما قرأت الأميرة سلمى الكتاب وترجمته لأمها جلست الاثنتان تبكيان، وشعرت الأميرة سلمى كأن بلاطة وقعت على صدرها، فلم تعد تستطيع التنفس، ومضت ساعة من الزمان وهي تعود إلى البكاء كلما وقع نظرها على أمها، وصفقت أمها بيديها فأتوها بالنارجيلة والقهوة، فجلست تتسلى بالتدخين، وقالت لابنتها: هل كنت تعلمين يا سلمى عزم صفا على الترهب؟ فقالت: أخبرتني صفا بذلك مرارًا، ولما رأت أني لم أصوب رأيها لم تعد تكلمني به، والظاهر أنها لم تصمم إلا قبل العرس بيوم أو يومين.
فقالت أمها: لا تخافي إلَّا من النهر الهادئ، من كان يظن أن صفا تقدر على هذه الحيلة؟! ولكن ماذا نقول وماذا نتكلم؟! أبوك يشمت بنا، وخالتك تشمت بنا، وابن خالتك يشمت بنا، فالصمت أولى، قال عمك إنه سيذهب إلى المطران وقنصل فرنسا هو وقاسم، ولكن لا فائدة من ذلك، وستكون عاقبة تشديدنا أنهم لا يعودون يدعونها تأتي إلى هذه البلاد، ما خلصنا من سيرة القديسة هندية حتى وقعنا في قصة ابنة عمك، غدًا ترين تطويل ألسنة الفلاحين علينا، الله يهونها.
ومرت ساعتان وهما في حديث مثل هذا، ودخل الأمير عباس، وجلس إلى جانب زوجته، وأتاهما أحد الخدم بمنقلة، وقال الأمير عباس: أخذتِ مني عشرين غرشًا أمس، ولا بد لي من استرجاعها. فقالت له: ستخسر عشرين فوقها. ثم أخذا يلعبان لكن الاثنين كانا مشغولي البال، وقبلما أتما الدق الأول قالت الأميرة هند: هل تظن أنهم ينجحون في إرجاعها؟ فقال: لا أظن؛ لأنهم طامعون بأملاكها، فإن أملاكها تساوي أكثر من ستمائة ألف غرش، ولا بد ما توقفها كلها للدير، وأنا خائف على صحتها؛ لأنها تقول في مكتوبها إلى أبيها إنها مصابة بزكام شديد.
فتنهدت زوجته وقالت: يجب أن ندير بالنا على سلمى، فإن أختي كلمتني عنها مرات كثيرة، وأحمد ميت حتى يأخذها، ولكن هي لا تلتفت إليه، ولاسيما بعد أن زارنا هذا الشاب الإنكليزي.
فاحمرت وجنتاها وخفق فؤادها وقد باغتها سؤال أبيها مباغتة، فلم تدر بماذا تجيب، لكنها كانت سريعة الخاطر تعلم أن سكوتها حينئذ أدل عليها من كلامها وأكشف لسترها، فقالت: لما رأيته كنت مع أمي ولم أسمع منه وعنه إلا ما سمعته أمي، ولا بد من أن تكون قد أخبرتْك بكل ما تعلمه من هذا القبيل.
فجعل يتفرس في وجهها وهي مطرقة إلى الأرض محمرة الوجنتين، فلم يخفَ عليه أمرها، ولم يشأ أن يزيد ارتباكها، ثم قال: لا بد من أن يكون أحمد عارفًا به. والتفت إلى زوجته، وقال: إذا جاء أحمد إلى هنا، فذكريني لكي أسأله عنه، أما أنت يا سلمى، فانظري ما أصاب ابنة عمك، ولا تدعي أحدًا يلعب بعقلك، وعلى كل حال لا أسمح لك أن تفعلي شيئًا إلا بعلمي، هل تعدينني بذلك؟
فقالت: نعم، ولكن صفا معذورة؛ لأن عمي لم يكن يلتفت إليها، كما يجب على الأب أن يلتفت إلى ابنته وخالتها على ما تعلم.
فقال: إن كانت صفا معذورة فأنت غير معذورة، فإنك تعلمين معزتك عليَّ وعلى أمك، وقد كانت أمك تود أن تعطيك لابن أختها، ولكن لما علمتُ أنك لا تميلين إليه اعترضتها وأوقفت الأمر.
فقالت الأميرة هند: ولا أزال أود أن تغير فكرها؛ لأنه ليس في كل الشبان مثل أحمد.
أما سلمى فلم تتكلم بشيء بل بقيت صامتة، وعاد أبوها إلى اللعب بالمنقلة، وعادت هي إلى القراءة في الكتاب الذي كانت تقرأ فيه.
وفي اليوم التالي نزل الأمير فارس أبو الأميرة صفا والأمير قاسم عريسها إلى بيروت، وزارا المطران أولًا فوجداه عارفًا بما جرى للأميرة صفا، وقال لهما إنه لم يكن يعرف ذلك من قبل، فقال الأمير فارس: لقد عرفتَ الآن وأنت وسيدنا البطرك قادران على إرجاعها حالًا.
فقال المطران: إن هذا لا يمكن بعد أن نذرت العفة. فنظر إليه الأمير قاسم نظرة الاستغراب وقال: إن قانون الرهبان والراهبات واحد في كل الدنيا تقريبًا، فالذي يدخل الرهبنة يدخل أولًا تحت التجربة مدة سنة أو سنتين، ويحق له أن يترك في هذه المدة.
فقال المطران: هذا قانون رهبنتنا، ونحن لا نعلم قانون رهبنتهم، وعلى كل حال أنا لست مسرورًا بهذا العمل، وقد كتبت إلى سيدنا البطرك ليعترض عليه، وأنا اعترضت عليه بنفسي؛ لأننا لا نسر بمداخلة الرهبنات اللاتينية في طائفتنا، ومع ذلك لا أقدر أن أعدكم بنجاحنا.
فقال الأمير فارس: نحن ذاهبان إلى قنصل فرنسا، فما رأي سيادتك في ذلك؟
فقال: لا بأس اذهبا إليه وهو قادر على مساعدتنا إذا أراد.
فقال الأمير فارس: إن لم يساعدنا، فأنا أعرف كيف أفسد لهم الطبخة.
فاضطرب المطران من هذا الكلام وقال: ماذا تقول يابْني؟! لا تخلط شعبان برمضان، هذه مسألة وهذه مسألة، فمسألة ابنتك مسألة دينية عائلية، ومسألة الجبل مسألة سياسية، وهذه هي الفرصة الوحيدة لنا للتخلص من هذه الحالة التي لا تحتمل، فأرجو أن لا تحركوا ساكنًا.
فقال الأمير فارس: سياسية أو غير سياسية، فأنا لا أسكت ما لم تردوا لي بنتي.
فأطرق المطران وهو ماسك لحيته بيده يفكر في الأمر، ثم قال للأميرين: انتظراني هنا حتى أذهب وأقابل القنصل.
ونادى قواسه ولبس جبته وسار إلى قنصلاتو فرنسا، فقابله القنصل بالترحاب وتذاكرا مليًّا ثم وعده خيرًا.