كشف الغامض
اثنان من العملة دخلا مغارة بين الشويفات وكفر شيما، ظاهرها قبر بسيط باب في الصخر الكذان الأبيض، عرضه نحو ثلاث أقدام وعلوه نحو أربع، وقد علاه الطحلب، وعلت النباتات حوله، حتى كادت تسده من الأقحوان والشوكران وبخور مريم، وأينعت السراخس داخل المغارة من كل ما يكره الشمس ويحب الظل، وكان مع العاملين أدوات الركس مرَّان ومجرفتان، وهما أخوان أتيا ليغرسا نصب التوت حيث كان التين مزروعًا؛ لأنهما رأيا الحرير أربح من التين، وهما مالكان لتلك الأرض مثل سائر أبناء لبنان؛ لأنه قلما يخلو أحد منهم من ملك يعمل به وكثيرًا ما ينقب البور ويفتت الصخر ويزرع في فتاته تينة أو كرمة أو توتة أو زيتونة.
واستمر وقوع المطر ساعة من الزمان فاضطرا أن يبقيا في المغارة كل تلك المدة، وصارت عيونهما ترى ما لم تكن تراه أولًا؛ لأنها اعتادت الظلام فاتسعت حدقاتها، وجمعت النور القليل المنعكس عن جدران المغارة فانتبها إلى حفرة في داخلها كأنها باب مغارة أخرى، فقاما إليها وجعلا يحفران فأزالا التراب، وإذا هما بباب آخر كالباب الأول ولكنه مسدود بحجر كبير.
فتعاونا عليه ونزعاه من مكانه، ودخلا المغارة الثانية وهي أكبر من الأولى، وكان الظلام حالكًا فيها إلَّا حيث يدخلها قليل من النور من الباب الذي فتحاه، فمشيا فيها وعثرا بما ظناه عظامًا فاقشعر بدناهما ووقفا حائرين، ثم اعتمدا على أن يرجعا الحجر إلى مكانه، ويعودا بعد الظهر ومعهما شمعة، فعادا بعد الظهر ولم يكن أحد يشك في أنهما عائدان لزرع نصب التوت بعد انقطاع المطر؛ لأن الأرض أرضهما وكانا يزرعان التوت فيها، ودخلا المغارة وفتحا الباب الداخلي ثانية وأنارا الشمعة، فدهشا مما رأيا فيها؛ فإنهما رأيا عظام عشرين أو ثلاثين جثة، وبعض تلك الجثث لم يكن باليًا بل كان جافًّا مسودًّا، ومع بعضها أسلحة قديمة: دروع وسيوف وفئوس وخوذ، كأن الذين وضعوا القتلى هناك من أصدقائهم لا من أعدائهم، أو كأن الفرصة لم تسمح لهم لسلبهم فألقوهم في المغارة بأسلحتهم.
فاتفق الأخوان على أن يسدا الباب الداخلي كما كان ويعودا في الليل، فيأخذا الأسلحة شيئًا فشيئًا حتى لا يشعر بهما أحد، فسداه وخرجا وكانت السماء قد صحت، فعادا إلى غرس نصب التوت ووضعا الشمعة على حجر إلى جانب باب المغارة.
ومر بهما الأمير أحمد حينئذ، وكان قد خرج للصيد وحده، فوقفا للسلام عليه فحانت منه التفاتة إلى باب المغارة؛ لأنه لم ينسَ غرض السر هنري بدمونت، فرأى الشمعة موضوعة على الحجر، فسألهما عنها فارتبكا في الجواب، فوقف مشتبهًا بأمرهما وطلب منهما أن يصدقاه الخبر، فجعل كل منهما ينظر إلى أخيه، وكانا كلاهما من حزبه يركنان إليه، فلم يريا لهما بدًّا من إخباره بما رأيا في المغارة الداخلية، فدخل معهما وأزاحًا الحجر، وأوقدا الشمعة فرأى ما رأياه وقال: لا بد وأن تكون جثة جد السر هنري بين هذه الجثث، لا سيما حينما رأى الأسلحة قديمة، نعم إن الصدأ كان قد أكلها، ولكن شكلها لا يزال ظاهرًا، وهي من الأسلحة القديمة التي كانت تستعمل في عهد الصليبيين.
فأمرهما أن يسدا المغارة ولا يخبرا أحدًا أبدًا، ووعدهما بمشتري كل ما وجداه فيها، وعاد إلى داره وهو حائر في أمره: هل يخبر السر هنري بما رأى فيكثر تردده على كفر شيما والشويفات ويرى سلمى فيزيد ميلها إليه وحبها له، أو يكتم الأمر عن كل أحد ويقنع السر هنري أن التفتيش عن جده في تلك الجهات ضرب من العبث، وعليه أن يفتش عنه في جهات أخرى. فقام في نفسه عاملان متنازعان: عامل الشهامة وكرم الأخلاق يقول له: هذا رجل غريب، وقد التجأ إليك واستنجد بك، وقد صار في طاقتك أن ترشده إلى ما استعان بك عليه، فيجب أن تلبي طلبه وترسل تخبره بما اكتشف هذان الرجلان وجزاؤهما عليه، وإلا فأنت لئيم لا نجدة لك. وعامل الحب والأثرة يقول له: هذا مناظرك في حب ابنة خالتك، ويجب عليك أن تبعده عنها بكل طاقتك، ولا تدع له سبيلًا للتردد إلى هذه الجهات فتنساه وتعود إليك. فتقول له الشهامة: إن كانت ابنة خالتك قد فضلت هذا الأجنبي عليك فلا خير فيها لك، ويجب عليك أن تسلوها وتنساها. فيقول الحب: هذا اغترار بالظواهر، فقد اغترت به وقد لا تخطر على باله أبدًا، فإذا لم تعد تراه نسيته ونجت من ورطة كان يمكن أن تقع فيها، فيجب عليك أن تبذل كل واسطة لنجاتها منها.
وبعد جدال طويل على هذا النمط تغلب عامل الحب على عامل الشهامة، فصمم على أن يحضر الأسلحة إلى داره ويخفيها فيها ويسد المغارة ويطمس معالمها، فاستدعى الرجلين وأمرهما أن يأتياه بكل ما يمكنهما حمله من الأسلحة، ثم يسدا المغارة ولا يخبرا أحدًا، وأعطى كلًّا منهما عشرة ريالات، فقبَّلا يده وذهبا وجعلا ينقلان الأسلحة في حالك الظلام، واكتفيا بنقل السيوف والخوذ، وأما الدروع فتركاها في مكانها، وسدا باب المغارة جيدًا وغرسا شجرة أمام بابها تمنع الدخول إليها.
وفي تلك الليلة جاء كتاب إلى الأمير أحمد من الكولونل روز يدعوه فيه إلى بيروت، فود أن يطلع أولاد عمه عليه، ولكنه خاف من غيرتهم؛ لأنهم كانوا يغارون منه لمكاتبة القنصل له دونهم، وكان يود أن يشركهم في المسئولية معه، فوقع بين نارين، ونام تلك الليلة وهو على أحر من جمر الغضا؛ لا يستطيع أن يخالف الوالي ولا أن يعادي القنصل، ولا يريد أن يقابل السر هنري؛ لئلا يسأله عما إذا كان قد عرف شيئًا عن المغارة أو بلغه شيء عنها؛ لأنه كان قد وعده بمداومة البحث والتنقيب، وكانت الشرور قد تفاقمت، وعزم الناس عزمًا أكيدًا على إيقاد نار الفتنة، وكانوا ينتظرون انقطاع المطر، وأهالي الساحل يودون أن ينتهوا من موسم الحرير قبلما يحدث شيء.
وقام في الشويفات في ذلك الحين شاب من النصارى اسمه كامل؛ جريء الفؤاد، قوي الساعد، لا يخطئ رصاصه من يسدده إليه، اجتمع عليه مرة ستة وحصروه في مطحنة، ففتك باثنين منهم ونجا من يدهم، وانتقل إلى المتن وجعل دأبه ربط الطرق وشن الغارات.
وكان النصارى يحسبون أن الفوز سيكون لهم حتمًا؛ لأنهم فازوا فوزًا مبينًا في الحركة الأولى في بيت مري التي حدثت في الصيف الماضي، وأتت الرجال من كسروان وهي بالسلاح الكامل، وأقامت في بعبدا تشجيعًا لنصارى الساحل، فخشي الأمير أحمد أن يذهب بطريق الحدث، فيلتقي بكامل هذا أو بأحد من أتباعه، فيحدث ما لا تحمد عقباه، فاختار طريق البرج. ووصل إلى دار الكولونل روز نحو الساعة العاشرة صباحًا على جاري عادته، فرحب به الكولونل وأجلسه إلى جانبه، ورحب به السر هنري أيضًا، وكان الكولونل قد أرسل واستدعى اثنين آخرين من مشايخ الدروز الذين يثق بهم، فوصلا بعد وصول الأمير أحمد بنحو ربع ساعة، ولما استقر بهم المجلس وشربوا القهوة قال لهم الكولونل: لقد بلغني أن الوالي أبلغكم الأوامر التي وصلته من الأستانة، فأنا أؤكد لكم أن هذه الأوامر غير صحيحة، وأن الذين بعثوا بها إليه غير مسئولين عما يفعلون، أو هم جهلاء يعرفون مصلحتهم ومصلحة بلادهم؛ لأن الحركة التي أمركم بها ستعود عليكم بالوبال وتجر الشر على رءوسكم، فاسمعوا مني وأخبروا عقالكم لينصحوا جهالكم، وإلا فالخطب جلل.
فجعل الشيخان ينظر كل منهما إلى الآخر، أما الأمير أحمد فكان خالي الذهن؛ لأن الوالي لم يعد يأتمنه، فلم يطلعه على تلك الأوامر مع أنه أرسلها إلى أولاد عمه، لكن كبر عليه أن يتظاهر بجهلها أمام الشيخين، واستنتج ماهيتها من كلام الكولونل، فقال: لقد قلنا لسعادتكم قبلًا إننا نحن لا نكون البادئين، ولكنهم إذا أحرجونا أخرجونا. فوافق الشيخان على كلامه.
ولحظ القنصل أن الأمير أحمد يتكلم وهو غير عالم بمفاد الأوامر، ولكنه لم يشأ أن يظهر ذلك أمام الشيخين، فقال لهم: إني أنذرتكم وبينت لكم وخامة العاقبة؛ حتى إذا تخلت عنكم دولة إنكلترا لا يكون عليها لوم.
وكان أحد الشيخين كبير السن وقور المنظر، فقال له: اسمع يا سعادة القنصل، نحن نعلم أن دولة إنكلترا تحبنا وتودنا وتدافع عن حقوقنا، ولكن ذلك كله يتوقف على رأي سفيرها في إسطانبول وقنصلها في بيروت، والسفراء والقناصل يتغيرون كل سنة أو كل بضع سنوات، وأما دولتنا فلا تتغير وسياستها معنا صارمة كما لا يخفى، فإذا لم نطع أوامرها أوقعتنا في ألف مهلك، ودولتكم أقوى منا، وكما منعت إبراهيم باشا المصري عن البقاء في هذه البلاد، يمكنها أن تمنع رجال دولتنا عن إلقاء الفتن فيها، فإذا كنتم تريدون أن توقفوا هذه الحركة فلا أسهل عليكم من أن تأتوا بمركبين حربيين وتهددوا بهما بيروت، وترسلوا فرقة من عساكرهما إلى الشام فيقف كل واحد عند حده، ولا يخفى على سعادتك أن الحركات التي تصير في لبنان أكثرها ليس منا، بل من غيرنا، فإذا أوصيتم كل أهالي الجبل حتى يلزموا السكينة، لم يحدث فيه شيء، ونحن قد نزلنا إلى بيروت خوفًا من القلاقل، ونؤكد لسعادتك أن البلاد كلها منتظرة الشهر التالي، ولا بد من قومة عامة إذا كانت بقية القناصل لا توجب على النصارى أن يلزموا جانب السكون.
فقال القنصل: وما هي هذه الأوامر التي أطلعكم الوالي عليها؟
فقال أحدهما: يصعب علينا أن نجيب سعادتك على هذا السؤال، ولكن لا بد ما يكون سفيركم في إسطانبول قد وقف عليها كلها.
ولم يكن السفير عارفًا بها ولا مهتمًّا بالوقوف عليها، واستحى الكولونل أن يخبرهم بذلك، وكان واثقًا أن الأمير أحمد لا يعلم بها والشيخين لا يفشيان سرًّا اؤتمنا عليه، فلم يلج عليهما، لكنه فهم من مغزى كلامهما أن الأوامر ذات شأن خطير كما قيل له، ورجا أن يأتيه من يخبره بها حرفيًّا؛ لأنه كان يقول إن السياسة تقضي على المرء أن يعرف مقاصد خصمه بكل واسطة، حتى يتلافى الضرر قبل الوقوع فيه، إلا أنه ود أن يعرفها ذلك اليوم؛ ليكتب مع البريد يخبر وزارة الخارجية، ورأى أن الشيخ مصيب في طلب مركبين حربيين، وعزم أن يكتب بذلك إلى حكومته، ولو وقف على الأوامر السرية التي بلغه خبرها لفعل ذلك حتمًا.
ولما انتهت المذاكرة نهض الأمير أحمد ونهض الشيخان لنهوضه، فودعوا وركبوا خيولهم، وساروا؛ الأمير أحمد إلى بيت عمه، والشيخان إلى بيتيهما؛ لأنهما كانا قد شتيا في بيروت تلك السنة هما وكثيرون من مشايخ الجبل على خلاف العادة، وكان لا بد لهم من المرور تجاه بيت الشيخ درويش أبي فخر، وكأنه كان جاسوسًا عليهم يرقب حركاتهم وسكناتهم فوقف في باب بيته وسلم عليهم، وطلب منهم أن ينزلوا ويشربوا فنجان قهوة، فاعتذروا إليه بضيق الوقت وبقرب آذان الظهر، فمسك بلجام فرس الأمير أحمد وقال: عليَّ الطلاق إن لم تنزلوا وتشربوا فنجان قهوة. فاضطروا أن ينزلوا، فأدخلهم بيته وأجلسهم حيث أجلس الأمير ونادى بالقهوة، وجعل يقص عليهم ما سمعه من الوالي من المدح والثناء على الأمير أحمد وذكائه، قال: وقلت لدولته إن الأمير أحمد ابن أبيه، وأبوه كان صديقي، والصداقة قديمة بيننا، أنتم الآن آتون من عند قنصل الإنكليز، لا بأس؛ فإن الإنكليز أصدقاء لدولتنا العلية هم والفرنسوي حالفوها على حرب المسكوب، ولكن يُرى لي أن السياسة انقلبت اليوم؛ فإن أفندينا الوالي ما عاد يركن إلى قنصل الإنكليز، لم يقل لي ذلك صريحًا ولكنني فهمت منه، أنا ألقطها طائرة! ونحن ما لنا وللقنصل ولكل الإفرنج ما دام دولتنا في الوجود، ما هو رأي القنصل؟! قل لي يا أمير أحمد، الظاهر أنك لا تستخلصني كما كان يستخلصني المرحوم والدك.
فقال الأمير أحمد: ليس الأمر كذلك يا أبا فخر، ولكنك أنت عارف بكل شيء، والذي لا تعلمه بالسمع تستنتجه بذكاء عقلك.
فضحك أبو فخر وقال: هكذا كان المرحوم أبوك يقول عني، نحن أحباب من زمان طويل، وحضرة الشيخين معرفة مباركة إن شاء الله، تفضلوا خذوا القهوة، هذا بُن حجازي يأتيني هدية كل سنة، لا مثيل له في كل بيروت ولا في الشام، وعندي جارية اشتريتها من جواري أسعد باشا كأنها مخلوقة لعمل القهوة فلا أطيب من قهوتها، وهي تدق البن في هاون خشب ولا تدقه في هاون نحاس لئلا يفسد طعمه — كل شيء صنعه — يقال إن قهوة البدو أطيب من غيرها، شربتها في السنة الماضية لما أتى الفضل إلى بلاد الحولة، ذهبت إلى هناك من قِبل الوالي لبعض الأشغال، وكنت أشرب من قهوتهم فلا أراها أطيب من قهوة الجارية التي عندي، ماذا تقول يا حضرة الشيخ، هل شربت قهوة أطيب من هذه القهوة؟ والفناجين والظروف الأمير أحمد يعرف قصتها، زارني الوالي في رمضان لكي يشرب من هذه القهوة، ولما رأى الفناجين ابتهج لها، وإلى الآن يقول إنه ما شرب مثل القهوة التي شربها في بيت الشيخ درويش.
فقال أحد الشيخين: نعم القهوة كما وصفتَ يا حضرة الشيخ، ونحن مسرورون بهذه المعرفة الجديدة والفضل فيها لسعادة الأمير. وصادق الشيخُ الآخر على كلامه ونهضوا، وبعد اللتيَّا والتي تمكنوا من وداعه وركبوا وساروا في طريقهم، والأمير أحمد يقول: لا بد لنا أن نجد طريقًا آخر نمر به بعد الآن حتى نخلص من هذا الثقيل.
وسار الأمير أحمد إلى بيت عمه والشيخان إلى بيتيهما، وافترقوا على أن يجتمعوا في المساء في خلوة رأس بيروت، ويتداولوا فيما يجب عليهم عمله في الأحوال الحاضرة.