استفحال الخطب
•••
ليقل محبو السلام ما شاءوا في مذام الحرب، وليطنب كتَّابهم في وصف ويلاتها، فما دام في الدنيا أناس يتجرون بالحروب ويكتسبون بها اسمًا وجاهًا أو مالًا ومقامًا، فهم يوقدون نارها ويذكون أوارها، فهي آلة الملوك والوزراء والقواد والرؤساء والمرابين والموردين وصانعي الأسلحة والمهمات وكل المرتزقين من مال غيرهم، فما دام هؤلاء يجدون فيها مغنمًا فلن تنطفئ نارها.
وشر الحروب الحرب الأهلية، وشر الناس موقدو سعيرها، ولا سيما إذا لم يكن للمتحاربين مصلحة فيها.
مضى الشتاء وجاء الربيع فانتعشت الطبيعة، ولبست أبهى حللها وحلاها، تفجرت الينابيع، واكتست الرياض والغياض أثوابًا سندسية مطرزة بالوشي المعلم، وانحنت الأدواح تحت حملها من تفاح فضي ومشمش عسجدي، والطيور تتغنى في أفنانها، وعبق أريج الأزهار يعطر الآفاق ويسلي النفوس عن أشجانها. أستغفر الله، الطبيعة من نبات وحيوان جذلة طربة، إلا ابن آدم انتظر انقطاع الأمطار لكي يبدلها بوابل من رصاص بنادقه يخطف بها النفوس من الأبدان قضاء للبانات أفراد معدودين.
وصلت الأخبار إلى الكولونل روز أن الرزيئة وقعت والنار اشتعلت، وقد طرح الصوت وأطلق المدفع، وانفض رجال كسروان من الساحل إطاعة لأمر الوالي والمطران وعادوا أدراجهم، واجتمع الدروز حول مشايخهم وهجموا على قرى المتن، فالتقاهم النصارى خائري العزائم؛ لأن الجنود في الحازمية وراءهم، وقد خافوا أن يقعوا بين نارين، لا سيما وأنه كان قد شاع وذاع أن في يد الوالي أوامر سرية باستئصال شأفتهم.
وصعد السر هنري بدمونت إلى سطح القنصلية والنظَّارة في يده، فرأى كأن ربى لبنان استحالت إلى براكين كثيرة تقذف الدخان والنيران من أفواهها، وقام أبناؤه زرافات زرافات مشاة وفرسانًا، وقد نشروا الأعلام وانتشروا حول القرى يهاجم بعضهم بعضًا ويترامون برصاص البنادق من وراء المتاريس، ثم يستلون السيوف ويردون الحتوف إلى أن يتغلب فريق على فريق، فيدحره ويضرب في أقفيته ثم يضرم النار في مساكنه، والتفت إلى كفر شيما حيث دار الأميرة سلمى، فرأى الدخان مسردقًا فوقها، فوقعت النظارة من يده وجلس على كرسي، وسند رأسه وقد مر في ذهنه صور الحروب القديمة التي كانت تنشب في تلك البلاد وتنتهي بحرق البيوت وسبي النساء والذراري، فقال في نفسه: ترى ما حلَّ بتلك الأميرة؟ وأي فارس أردفها وراءه الآن وهي تنادي وتستغيث ولا سامع ولا مغيث؟ هل يفعل ما كان يفعله الفرسان في القرون الوسطى، فيتقلد سلاحه ويركب جواده ويبادر لإنقاذها، يهجم على الفارس الذي خطفها ويطعنه طعنة تكون القاضية؟ ولكن أنَّى له ذلك الآن وهو غريب في بلاد غريبة، وقد قضي الأمر وكادت جموع الفارين تصل أبواب بيروت؟ وهل بقي الأمير عباس وأهل بيته في كفر شيما إلى أن هاجمها الأعداء أو غادرها في الليل الغابر؟ وهل ركب مع أتباعه وقاوم الأعداء، فدارت الدائرة عليه، أو رأى أن المقاومة ضرب من المحال فأركنَ إلى الفرار؟
وكان الكولونل روز مصابًا بزكام شديد وحمى وهو طريح الفراش، فنزل السر هنري وأخبره بما رأى، فتململ في سريره وتحفز للقيام، ولكن أصابته نوبة سعال صرفته عن عزمه، فقال: نالوا بغيتهم، أتوا بالرجال من كسروان لتشديد العزائم ثم صرفوهم لحلها، وأرسلوا الجنود إلى الحازمية لتسكين الخواطر وهم يعلمون مع من ضلعها، وأولئك الحمقى من أمراء ومشايخ مغترون بالمواعيد، ولا يعلمون أن الدائرة ستدور عليهم أخيرًا ولو كان النصر لهم، وقد أخلصت لهم النصح فما انتصحوا.
ثم عاودته نوبة السعال فعجز عن الكلام، وحضر الترجمان حينئذ، وقال للسر هنري: إن الفارين من قرى الساحل قد وصلوا إلى بيروت وهم في حالة يرثى لها، وكلهم نساء وأولاد مع بعض العجائز، ولا طعام لهم ولا شراب، ولا يعلمون إلى أين يذهبون، فاتجه فريق منهم إلى دار مطران الموارنة، وفريق إلى دار بطركخانة الروم، وانتشر كثيرون منهم في بساتين التوت في حي المصيطبة وبير النبع، ولا بد لنا من مساعدتهم بما يفرج كربتهم، وإن كنا لا نحمِّل الوالي تبعة كل ما يحدث في المدينة، فلا أمان عليهم ولا علينا، كيف حال القنصل الآن؟
ودد السر هنري أن يذهب ويختلط بجموع الهاربين ليفتش عن الأميرة سلمى، ولكنه كان يجهل كل طرق الاستدلال عليها، وخاف أن يسأل الترجمان كما يخاف من يحاول منكرًا، ويرى العيون رقيبة عليه، ثم لام نفسه؛ لأنه فكر بأمر خاص وقتما يجب عليه أن يهتم إلا بالأمر العام وبالبليَّة الكبرى التي تشتمل ألوفًا مثل الأميرة سلمى، وقد تكون هي أسعد حالًا منهم كلهم، فجلس مشرد الأفكار ينظر إلى السقف مرة وإلى الأرض أخرى.
وسار الترجمان إلى الدار التي يجتمع فيها المرسلون الأميركيون ليستشيرهم في الأمر، وهو عازم أن يذهب بعد ذلك ويرى قنصل فرنسا وقنصل روسيا، ثم يعود ويخبر السر هنري بما وقف عليه.