واقعة الساحل
لما كان السر هنري واقفًا على سطح القنصلية يرى الدخان يتصاعد عن سفح لبنان من قراه المنتشرة كالحبب على وجه الماء أو كالدراري في كبد السماء؛ كان رجال الساحل قد أحبوا الليل بالاستعداد لمقابلة الأعداء، وانقسموا فريقين: فريقًا تولى حماية النساء والأولاد، والذهاب بهم إلى مدينة بيروت مع ما خف حمله وغلا ثمنه من الأمتعة؛ وفريقًا تسلح وودع أهله وأقاربه وداعًا قد لا يعقبه لقاء، فكنت ترى هنا طفلًا متعلقًا بثياب أبيه، وهو يقول له: كيف تتركنا يا أبت؟! ومن يبقى مع أمي وأخواتي؟! وأبوه يرفعه بيديه ويقبله، ثم يسلمه إلى أمه ويوصيها به، وهناك امرأة تربط زنار الفشك «الخرطوش» على وسط زوجها، وتناوله بندقيته ويطقانه وهي تنظر إلى وجهه تارة وإلى أطفالها أخرى، وترفع قلبها إلى الله وقدِّيسيه ليردوا لها زوجها سالمًا، وهنالك رجلًا يودع ابن عمه ويقول له: أودِعك يا أخي المرأة والأولاد. فيجيبه ذاك: بأمان الله، كن مستريح البال فهم مثل أولادي وأعز. وأكثر الأولاد نيام يوقظهم أمهاتهم فيفركون عيونهم ثم ينامون، والنساء الجبارات يحملن جرار الماء ليجرين وراء الرجال، والجمال باركة تهدر والناس يحملون عليها أمتعتهم، وهم يتآمرون فيما يجب أخذه وما يجب تركه، والمكارون يسبون ويشتمون وقد علت الجلبة واختلط الحابل بالنابل، ووقف العجائز بعضهن يشير بما يجب عمله وينبئ بحسن المصير، وبعضهن يضرع إلى السيدة ومار إلياس، ومار أنطونيوس، وكانت ليلة صفا أديمها وأغنت دراريها عن بدرها، فأشرقت تقابل بين توحش الناس وأنس الوحوش.
ولما طلع الفجر ركب الأمراء وهم بالعدة الكاملة، مع كل واحد منهم سيف وقربينة وطبنجتان، ومشى الرجال معهم ومع كل منهم بندقية ويطقان أو بالة وطبنجتان أو فردان، وسار حملة البيارق في مقدمة الجمع وهم ينشدون الأناشيد الحماسية، ومشوا فرقًا فرقًا إلى ظهور الوادي وبعبدا ومترسوا هناك، وأشرقت الشمس حينئذ وصبت أشعتها عليهم فكادت تعمي أبصارهم، وقبل أن يتموا إقامة المتاريس، أقبل الدروز عليهم براياتهم البيضاء وأصلوهم نارًا حامية، ومرت ساعتان والحرب سجال بين الفريقين، لكن الدروز كانوا أكثر عددًا وأحكم انتظامًا وأطوع لقوادهم، فأقام فريق منهم يناوش النصارى، ودار فريق من ورائهم، وكاد يقطع خط الرجعة عليهم، ويئس النصارى من الفوز فجعلوا يرتدون القهقرى، وكلما وصلوا إلى مكان تسهل المترسة فيه وقفوا، وأطلقوا بنادقهم على أعدائهم، حتى إذا لم يستطيعوا قهرهم أخروهم عن بلوغ قراهم إلى أن تخرج عيالهم منها، وتصل إلى بيروت.
ودار الحديث التالي بين اثنين من الدروز:
فقال له: ومن أين تعرفه؟
فقال: من حصانه.
فلما سمع الشيخ حمدان ذلك أغمد سيفه، وصلى قربينته، وأغار على الأمير عبد الله وهو يقول في نفسه: كسرنا القوم وقتلنا عميدهم. حتى إذا دنا من الأمير قال له: خذها ولا تقل إني غدرتك وأطلق القربينة عليه، وكان الأمير عبد الله قد تنحى من وجهه، فلم يصبه شيء من حوَّاشها، ثم ارتد إليه والسيف في يده وأطبق عليه وكاد يوقع به، ولكن رآه أربعة من أتباعه وهجموا عليه ببالاتهم فارتد عنه وهو يقول له: إن كنت راعي كحيلان فابرز إليَّ وحدك فارسًا لفارس.
وكان بعض الدروز قد داروا من وراء النصارى، وأضرموا النار في بيوت الوادي وبعبدا وسبنيه، والتفت النصارى فرأوا الدخان يتصاعد من بيوتهم، فأيقنوا أن الجنود المعسكرة في الحازمية لن تدفع عنهم مكروهًا خلافًا لمواعيد الوالي إن لم تكن ممالئة لعدوهم عليهم، فارتدوا إلى بعض الدور وتحصنوا فيها.
والتفت ميخائيل إلى منصور، وقال له: لقد دخل الأمير داره وتحصن فيها، ويظهر لي أننا لا نستطيع أن نصبر أكثر من ساعة، وربما تتعذر علينا النجاة بعد ذلك، فما لنا ولقلة العقل.
وسدد إليه بندقيته ورماه فلم يصبه، ثم التفت فرأى الأمير خارجًا من باب داره ومعه صندوق صغير فتناوله منه وجرى وراءه.
وكانت الشمس قد تكبدت السماء، ورأى النصارى أن الدروز تكاثروا عليهم، وكادوا يحيطون بهم من كل جهة، فأركنوا إلى الفرار، وتبعهم الدروز إلى قرب الشياح، وقتلوا منهم زهاء ثلاثين نفسًا، وفي جملتهم الأمير بشير قاسم الملقب بأبي طحين.
ووصلت العيال إلى بيروت في الصباح بعد شروق الشمس بساعة أو ساعتين، وتفرقت في أحياء المدينة، واضطر الأولاد الصغار من ابن ست سنوات فصاعدًا أن يسيروا هذه المسافة كلها مشيًا على أقدامهم، والرجال الذين ساروا معهم لحمايتهم لقيهم الخفر عند فرن الشباك والميدان، وأخذوا ما معهم من الأسلحة بأمر والي بيروت، فلم يعودوا يستطيعون الرجوع لنصرة إخوانهم.