بارقة الأمل
في أحوال الناس سر غامض لا ينطبق على قاعدة معلومة، وهو الاتفاقات الكثيرة التي تقع على غير انتظار، يخطر على بالك رجل لم تره منذ سنين كثيرة، وفي الساعة التي يخطر على بالك فيها تراه آتيًا لزيارتك، كأن قوة روحية تقدمتهُ ووصلت إليك فأعلمتك بقدومه.
وتفتش عن عبارة قرأتها في كتاب فتقع عينك عليها حالما تفتح الكتاب، وقد تفتش عنها مرة أخرى فلا تجدها إلا بعد العناء الطويل، فكيف اتفق أن عثرت عليها في المرة الأولى؟!
وينشغل بالك بأمر هام وترتبك فيه ولا ترى وجهًا لحله، ثم تقابل أحد أصدقائك اتفاقًا أو رجلًا لا تعرفه، ولم تره قبلًا، فتجده عنده حل المشكل والخبر اليقين، كأنه سُخِّر لخدمتك وقت حاجتك إليه.
على هذا النمط كان الأمير أحمد في نظر السر هنري بدمونت، فلم يكد يخرج من دار القنصلية حتى دخل السر هنري مكتبه، وعاد إلى إتمام الكتاب الذي شرع في كتابته إلى أمه ذاكرًا فيه خلاصة ما جرى له يومًا بعد يوم من حين وصوله إلى بيروت، وكان قد أخبر أمه عن كل ما رآه وسمعه من حين قدومه، وعن درسه جغرافية البلاد من بيروت إلى صيداء، وتعيينه مكان الواقعة التي جُرحَ فيها جده الأعلى كونت بدمونت، لما أوفده ملك الإنكليز الملقب بقلب الأسد لفتح بيروت، فقد عين مكان الواقعة بالتدقيق، وكانت تقاليد عائلته تجعلها قرب نهر الدامور المعروف عند الأقدمين باسم تاميراس أو داموراس، حيث حدثت المعركة الدموية المشهورة بين أنطيوخس ملك سورية ونيقولاوس قائد الجيوش المصرية، فدارت الدائرة على الجنود المصرية، وقتل منها ألفا رجل وأخذ ألفا أسير، وعادت فلولها إلى صيداء، وذلك قبل التاريخ المسيحي بنحو ٢١٨ سنة، لكنه وجد أن شكل الأرض هناك لا ينطبق على الوصف الذي وصفها به ولف خادم جده، بل ينطبق على جهات خلدة، حيث تكثر نواويس الحجر التي ذكرها ولف في وصفه، ولا عبرة بما جاء في دليل أورشليم من أن خلدة على اثني عشر ميلًا رومانيًّا عن بيروت؛ لأن الاسم القديم وهو«هلدوي» ينطبق على الاسم الجديد، فالواقعة حدثت قرب خلدة، وجدُّه لجأ إلى كهف من الكهوف التي قرب الشويفات، ولا بدَّ من أن تكون رفاته هناك حتى الآن؛ لأن خادمه ولف سد باب الكهف الداخلي عليه بعد أن لفه بردائه.
ولما قابل السر هنري الأمير أحمد، وعرف أنه من أمراء الشويفات شعر كأن بارقة من الأمل بدت أمام عينيه، ثم لما علم أنه من طائفة الدروز أصحاب الطريقة السرية الخاصة بهم، كادت نفسه تطير حبورًا، وجعل يسترق اللحظ ويتفرس في وجهه، وكان الكولونل روز يعلم أنه مغرم بالمباحث التاريخية والأثرية، فأشار إلى عائلة الأمير، وقال للسر هنري: لا يبعد أن يكون جدك كونت بدمونت قد التقى بجد الأمير منذ سبعمائة سنة في ضواحي هذه المدينة، وقد يكون بينكما ثارات وأخاف أن تتقاضياها الآن.
فتبسم السر هنري، وقال: أما الآن فإننا في جوار الأمير، والعرب يرعون الجوار ويحمون الجار. فقال الأمير: بل أنا في حماكم وضيف عليكم.
فقال الكولونل: إن السر هنري جاء هذه البلاد للتفتيش عن رفات جده؛ لأنه توفي فيها على قول خادمه، بعد أن قتل أكثر رجاله، وأُسر من بقي منهم حيًّا، وأرجو أن تبذل جهدك لكي ينال بغيته.
فقال الأمير: حبًّا وكرامة، إني من الساعة في خدمته باذل جهدي في تحقيق بغيته.
فشكره السر هنري على مروءته وكرم أخلاقه، واتفق معه على أن يزوره بعد يومين؛ ليريه ما حول الشويفات من الكهوف القديمة.
وذكر السر هنري هذه الأمور كلها لأمه، وهو يعجب من هذا الاتفاق الغريب، ويقول: إني موفق بإذن الله. إلى أن قال لها: فإذا عدت ومعي الوثيقة، وختم قلب الأسد عليها، فلا يبقى لي منازع في كونتية بدمونت، ولا يبقى اعتراض لإفلين ولا لأمها، أواه يا أماه لو تعلمين كم أقاسي من هذا البعاد؟! وقد آليت على نفسي أن لا أكتب إلى إفلين حتى أجد الوثيقة.
قال ولف: إنها من الفضة وعليها ختم قلب الأسد، وإنه وضعها على صدر سيده لما لفه بردائه، هذا هو الخبر المسلسل في تاريخ العائلة، وإن باب المغارة إلى جهة الشمال الغربي وقد سدها من الداخل على أسلوب يظهر منه أن نهايتها هناك، لا بد وأن أهتدي إليها إن شاء الله، وهذا الأمير شاب في نحو الرابعة والعشرين تلوح على وجهه لوائح الشهامة وعزة النفس، وهو يحسن الفرنسوية، ولا بدَّ من أنه يحسن لغته العربية، والكولونل روز يكرمه كثيرًا، وقال لي إن أباه كان من أخلص الناس لنا، لكنه يخشى أن لا يكون مثل أبيه؛ لأن الذين علموه اللغة الفرنسوية أثروا في ذهنه، فضلًا عن أن اللغة وآدابها تكفي لهذا التأثير، ولا أدري لماذا لا يسعى رجالنا في نشر اللغة الإنكليزية وتعليمها لأبناء الأمراء والعظماء، كما يسعى الفرنسويون في نشر لغتهم؟! فإننا إذا فعلنا استفدنا تجارة وسياسة، وقد رأيت كثيرين هنا يتكلمون الفرنسوية والإيطالية ولم أر أحدًا يتكلم الإنكليزية من أبناء البلاد غير اثنين أو ثلاثة، ولا أحد يهتم بتعليم اللغة الإنكليزية غير بعض المرسلين الأميركيين. وسأزور الأمير بعد غد، وأكتب إليك عن زيارتي له بالتفصيل. ثم فصَّل لها كيفية سفره من الأستانة العلية إلى بيروت، لكنه لم يذكر لها شيئًا عن المهمة السياسية التي جاء لأجلها.
وكانت الباخرة الفرنسوية على أهبة السفر، فطوى الكتاب وأرسله مع مكاتيب القنصلية، وركب هو والقنصل جوادين وخرجا للنزهة على رمل بيروت إلى أن بلغا البحر ورأيا غروب الشمس، وقد امتدت أصابع الشفق حتى بلغت الأفق الشرقي وهو منظر بديع قرأ عنه في الكتب، ولكنه لم يره قبل الآن، فقال: ما أجمل هذا المنظر وما أبدعه للتصوير! أين مصورو الطبيعة يأتون هذه البلاد فيرون فيها كل يوم منظرًا بديعًا تعجز ألوانهم عن تصويره؟!
فقال القنصل: نعم، هي كما تقول وفوق ما تقول، ومتى جاء فصل الربيع تتعشقها تعشقًّا، وما هضاب اسكتلندا وجبال سويسرا شيئًا مذكورًا في جنب جبال لبنان وهضابه، ولكن انظر كيف صار أقرع أجرد من توالي المحن، وهذه المدينة التي كانت من أعظم المدائن الرومانية تكاد أعلامها تندرس، ولولا الإصلاح القليل الذي نالها في زمن الدولة المصرية لصارت أثرًا بعد عين، أين أرز لبنان وبلوط باشان؟! أين المعاقل والمصانع؟! لا ترى مكانها غير أديرة الرهبان ومزارع الفلاحين، أما دور الأمراء والمشايخ فلا تذكر في جنب ما كانت عليه قصور الأمراء في سالف الزمن، أين المدارس والمشاهد التي كانت بيروت غاصَّة بها في عهد الرومان؟! لم يبق منها غير بعض الأعمدة الكبيرة مبثوثة بين الخرائب والأنقاض دالة على عظمتها السالفة.
فقال السر هنري: أوَتبقى الحال على هذا المنوال؟
فقال القنصل: كلاَّ؛ لأن دوام الحال من المحال، فإن لم تفلح مساعينا احتلت فرنسا البلاد كما تعلم، وأن أفلحت فلا بدَّ لنا من وضع حد لسوء الإدارة.