المذاكرات السياسية
اجتمع مجلس الوزراء في بلاد الإنكليز للنظر فيما سيطرح على البارلمنت من المسائل، ومنها مسألة عن جبل لبنان والفتنة التي اتقدت نارها فيه، فقال وزير المستعمرات: هذا هو الأمر الذي كنت أخشاه من حين شرعت الشركة الفرنسوية في إنشاء سكة المركبات من بيروت إلى دمشق، فقد أخذت الآن تقول إن لها مصالح مالية في سورية لا يمكنها الإغضاء عنها، وإنه لا بد لها من إرسال جنودها لحماية مصالحها هناك.
فقال وزير المالية: إلى أين وصلوا في إنشاء ذلك الطريق؟ قال ذلك موجهًا خطابه إلى ناظر الخارجية.
فأجابه وزير الخارجية: لا يمكنني أن أقول بالتأكيد إلى أين وصلوا؛ لأنهم ابتدءوا من أماكن مختلفة في وقت واحد على ما كتب به إليَّ قنصلنا في بيروت؛ لأن البلاد جبلية وفيها كثير من الآكام والأودية والغدران، ولا بد من بناء جسور كثيرة في أماكن مختلفة، فبنوا هذه الجسور، ومهدوا الطرق بين جانب كبير منها على ميول معتدلة، ولا يسعنا أن ننكر أنه صار لهم مصلحة مالية ثابتة في البلاد ولنا نحن أيضًا مصلحة مالية بسبب تجارتنا الواسعة، وهي أوسع من تجارة فرنسا، بل مثل تجارة أوروبا كلها، ولكن ليس لنا رأس مال موضوع في البلاد مثل فرنسا إلا إذا اشترينا الشركة الفرنسوية، وقد خابرت بعض الماليين في مشتراها فلم أر منهم رغبة في ذلك؛ لأنهم يظنون أن ترعة السويس ستبطل طريق التجارية البرية بين بيروت وبلدان المشرق، وليس الاعتماد على تجارة دمشق نفسها بل على البلدان الشرقية التي تصل تجارتها إلى دمشق.
فقال وزير الحربية: وهل تظن أن الفتنة خمدت واكتفى الفريقان بما حدث؟
فأجابه وزير الخارجية: كلا، بل يظهر من تقارير قناصلنا أن النار لا تزال مخبوءة تحت الرماد، وأنه لا بد من امتداد الفتنة إلى المدن الكبيرة في داخلية البلاد، ودمشق نفسها ليست بمأمن من ذلك، والقناصل باذلون جهدهم لإخماد الفتنة وحماية النصارى، ولكن الأمر ليس في يدهم؛ لأنه يظهر أن أوامر سرية وردت من الأستانة إلى رجال العسكرية لإيقاد نار الفتنة، وليس المراد بها الفتك بالنصارى دون الدروز، بل مساعدة فريق على فريق، فيصح أن يساعدوا الدروز على النصارى، ويصح أن يساعدوا النصارى على الدروز، والمراد إثارة الفتنة على كل حال وتضحية بعض النفوس لغرض سياسي، وهو تحريك أوروبا لإلقاء المسئولية على الحكومة الحالية، هذا هو الغرض الذي يرمون إليه على ما اتصل بنا وإخواننا عبر الخليج، يرمون إلى غرض آخر، ولكنهم يتوسلون إليه بالطريقة نفسها؛ أي بإيقاد نار الفتنة في البلاد، ونحن نكاد نكون مغلولي الأيدي، وقد كتب إلينا قنصلنا في بيروت أنه باذل قصارى جهده لإيقاف الفتنة عن هذا الحد وإطفاء نارها، ويساعده على ذلك صديق قديم لنا من مشايخ الدروز له أكبر سلطة على جماعته، فإذا نجح في سعيه ووقفت الفتنة عند هذا الحد، فلا أظن أن جيراننا يصرون على إرسال جنودهم إلى هناك، وإذا لم تقف عند هذا الحد بل شملت البلاد كما يخشى، فلا بد لنا حينئذ من تدبير آخر.
فقال وزير الحربية: إننا نطلب حينئذ أن يكون الاحتلال مشتركًا ونرسل فرقة من جنودنا.
فقال وزير المالية: وهل في الإمكان إرسال جيش الآن مع ما نحن فيه من الضيق المالي؟ ولا أرى أن الميزانية تساعدنا على ذلك.
ونظروا إلى رئيس الوزراء كأنهم يطلبون رأيه، فقال: ليس من الحكمة أن نرسل جنودنا مع جنود فرنسا؛ لأنه قد يتولد من وجود الجيشين مشاكل ليست في الحسبان، وفوق ذلك فإن جيراننا يستسهلون أن يرسلوا عشرة آلاف مقاتل إلى هناك ونحن لا نستطيع أن نرسل هذا العدد، ولا يلبق بكرامتنا أن يكون عدد جنودنا أقل من عدد جنودهم، فيضعف نفوذنا حيث نريد أن يقوى، ولكنني أرى أنه يسهل علينا أن نقنع فرنسا بأن يكون إرسال جنودها باسم أوروبا كلها، وحنيئذ يسهل علينا أيضًا أن نطلب منها إرجاعهم باسم أوروبا حينما يتيسر الاستغناء عنهم.
فاستصوب الجميع هذا الرأي، وطلبوا من ناظر الخارجية أن يكلم سفير روسيا به، وسفير بروسيا قبلما يكلم سفير فرنسا.
واجتمع البارلمنت في المساء فقال أحد الأعضاء: قرأنا في جرائد الصباح أن حربًا أهلية نشبت في سورية، وأن لبعض الدول الأوروبية يدًا في ذلك، فما هي الأخبار التي عند الحكومة؟ وما هي التدابير التي عزمت على اتخاذها لإخماد الفتنة؟
فأجابه رئيس المجلس: إن ما قرأه حضرة العضو المحترم صحيح بوجه الإجمال، والحكومة تنظر الآن في التدابير التي يجب اتخاذها، ومتى أقرت عليها لا تتأخر عن إخبار المجلس بها.
فقال عضو آخر: إن لنا مصالح مالية كبيرة في مدينة بيروت، فهل يخشى على تلك المدينة؟ وما هي التدابير التي اتخذتها الحكومة لوقاية مصالحنا هناك؟
فأجابه الرئيس: إن الأخبار التي وردت إلينا حتى الآن لا يظهر منها أنه يخشى على مدينة بيروت، وعلى ذلك فقد أمرت نظارة البحرية بارجة من أسطول البحر المتوسط بالذهاب من مالطة إلى سواحل بيروت وسواحل سورية.
وقال عضو ثالث: إن جماعة من المبشرين الإنكليز منتشرون في مدن سورية، فهل أُخذت الاحتياطات اللازمة لوقايتهم؟
فقال الرئيس: يظهر أن قناصلنا لم يغفلوا عن ذلك، ولا عن حماية المرسلين الأميركيين، والمرجح أن المتحاربين يحترمون الراية الإنكليزية مهما كانوا؛ لأن أعمال بحريتنا المجيدة في سورية — ولا سيما في بيروت وعكاء — لم تنس من تلك البلاد حتى الآن.
ثم دارت المناقشة في مواضيع أخرى داخلية وخارجية.
أما في فرنسا فلم تدخل المسألة مجلس النواب، بل اكتفت الوزارة بالمداولة فيها، وبيَّن ناظر الحربية أن الجنود مستعدة للسفر عند أول إشارة، وأن معارضات إنكلترا على ما جاءهم في التقارير السرية لا يعبأ بها؛ لأن إنكلترا لا تستطيع أن ترسل جيشًا مثل جيش فرنسا، ولا تستطيع أن تمنع إرسال الجيش من فرنسا بعد أن يتفاقم الخطب في سورية، ويتحفز نصارى كسروان للأخذ بثأر إخوانهم.