حادثة دمشق
لا أعدى من الحمس الديني، ولا أشد منه خطرًا على البلاد، لا سيما وأنه سلاح الرعاع الذين إذا ثار ثائرهم أمسوا وحوشًا ضارية لا تأخذهم شفقة ولا رحمة، ويا ويح بلاد يطلق العنان لرعاعها، ويحرَّضون على الانتقام من مخالفيهم مذهبًا، فإن التاريخ يشهد أنهم كانوا يفتكون بالألوف ولا يملون، ويرتكبون أقبح الموبقات مع أسيادهم الذين هم غرس نعمتهم، وأي عمل أقبح من أن تربي ولدًا مسكينًا في بيتك، وتأتمنه على أولادك وأموالك، ثم تراه وقت الشدة مقبلًا إليك كالوحش الضاري والخنجر في يده يغمده في صدرك وصدور أولادك لكي يغتنم أموالك، الوحوش الضاربة لا تصل إلى هذه الشراسة، ولكن ابن آدم يقدم عليها عفوًا إذا ثار في صدره ثائر الحمس الديني، كذا فعل اليهود بالنصارى والنصارى باليهود، وأهل الشيعة بأهل السنة وأهل السنة بأهل الشيعة، ولا تزال أمثال هذه الفظائع تجري في بلدان المشرق، وإن زالت الآن من بلدان المغرب حتى لقد يقف المرء حائرًا بين فوائد الأديان ومضارها، وأيها أكثر لنوع الإنسان، وإن شئت فقل المتنطعين في الأديان؛ لأن الدين بريء مما يفعله المتنطعون فيه باسمه.
أهالي دمشق من مسلمين ونصارى من ألين الناس عريكة، وأكثرهم وداعة، وقد عاشوا السنين الطوال متآلفين متحابين والنصارى قلال العدد جدًّا، وكأنهم عائشون في حمى المسلمين، وهؤلاء أهل تقى ومسالمة ولا سيما الكبراء منهم، ولكن لما أراد ذوو الشأن أن يوقعوا الجفاء بينهم وبين المسيحيين لأغراضهم، لم يتعذر عليهم أن يجدوا من يجيب نداءهم من العامة، فحرضوهم وأطلقوهم فانطلقوا كالنار في الهشيم يذبحون ويفتكون إلى أن جرت الدماء أنهارًا، وحل بالمسيحيين هناك ما لم يحل بهم مثله من زمن الفتح إلى الآن، ولولا بعض الصلَّاح ذوي الشهامة والنجدة لما أبقى الأشرار على أحد. كل ذلك، والوالي متسلح بالأوامر السرية التي في يده وغير خائف أن يطالب بشيء مما فعل.
ووصلت أخبار هذه المذابح إلى بيروت، وهاجر إليها من بقي حيًّا من نصارى دمشق وسائر مدن الشام التي أصابها ما أصاب دمشق، فازدحمت بهم منازلها وشوارعها وبساتينها، حتى كنت ترى عائلتين أو ثلاثًا في غرفة واحدة، بل أخرجوا الدواب من مزاربها وسكنوها، والأولاد المعتادون رفاهة العيش كانوا يفتشون عن أوكار النمل ليأكلوا ما فيها من الحبوب، وإذا أصاب أحدهم رغيفًا اجتمع حوله عشرون من أمثاله يقاسمونه إياه.
وبادر أهل البر والإحسان في أوروبا إلى معونة أولئك المنكوبين بسخاء حاتمي، فأرسلوا إليهم أكياس الدقيق وأثواب القطن والصوف وكثيرًا من النقود، وأقيمت اللجان في بيروت لتوزيع الإحسان، ولولا ذلك لمات كثيرون جوعًا.
وظل المنكوبون في بيروت يتقلبون على مثل جمر الغضا، ويبحث بعض النساء عن أزواجهن وأولادهن، وهن لا يعلمن أفي عداد من قتل هم أو لم يزالوا في قيد الحياة. وكل يوم يصل جريح لم يجهز الأعداء عليه، فبقي مغطى بالقتلى مغمى عليه من كثرة ما نزف من دمه، إلى أن أفاق ودفعته بقية الحياة الكامنة فيه إلى الهرب، فجعل يسري ليلًا ويختبئ نهارًا، وهو يسد رمقه بأعشاب الأرض إلى أن بعد عن مواقع الخطر، والأطفال الذين أرضعتهم أمهاتهم لبن الحزن يموت الواحد منهم بعد الآخر، وقناصل الدول يكتبون إلى دولهم يشرحون لها وقائع الحال وهم مجمعون على استقباح ما جرى واستفظاعه، ورجال الدولة متربصون ليروا ماذا تكون العاقبة، وهم يكذِّبون تارة ويشمخون أخرى قائلين أن لا شأن للدول الأجنبية، حتى تطالبهم بما يجري بينهم وبين رعاياهم، ووحوش البر وطيور السماء قزت نفوسها من أكل لحوم القتلى، فجلست أمامها يدفعها الطبع إليها، ويبعدها الشبع عنها، وهو شعور جديد لم تعرفه من قبل، والشمس تشرق على منازل أكلتها النار، والنجوم تتطلع عليها فلا ترى فيها غير الضباع وبنات آوى، وقد ندم الله على خلق الإنسان كما ندم في عهد نوح وود ملائكته أن تصاب الأرض بطوفان آخر يطهرها من الأشرار.
أيعجب أحد بعد هذا إن كانت أرض الموعد جنة الله في خلقه، الأرض التي كانت تفيض لبنًا وعسلًا، الأرض التي نشأت فيها دمشق وصور وصيداء وأورشليم وبيروت وعكاء وعسقلان، أرض حكمة اليهود وصناعة الفينيقيين، التي طمع فيها الفاتحون من كل الأقطار لكثرة خيراتها وتوسط موقعها، بلاد الضيافة والشهامة وعزة النفس، هذه البلاد أوصلها سوء السياسة إلى أن صار أبناؤها يحرش بينهم ليفترس بعضهم بعضًا.
وبينما كان أبو فخر يتذاكر مع قدورا أفندي على ما تقدم، كان الخواجه بخور والخواجه شمعون يتذاكران في الأخبار التي بلغتهما من دمشق وفيما يخشى منه على بيروت.
فقال بخور: كانت المذبحة هائلة، وقد انتقمنا منهم على ما جرى لنا في مسألة البادري توما، واشترى يوسف كل الصيني الذي كان في بيت الخوري وكل شيلان الكشمير.
فقال شمعون: وما أدرانا أنهم لا يرتدون إلينا بعدما يخلصون منهم؟
ودخل ثالث فانقطع الكلام في هذا الموضوع.