توقع القضاء
كانت البيوت في حي مارمتر، أحد أحياء بيروت، قليلة صغيرة متفرقة بين بساتين التوت، وقد لجأ إليها كثيرون من النصارى الذين سلموا من المذابح، فكنت ترى البيت الذي فيه أربع غرف تسكنه أربع عيال، ولم يكد يستقر بهم المقام حتى أخذ الرجال منهم يفتشون عن أعمال يعملونها، وشارك النساء نساء الحي في تسليك الحرير وكبه، فاكتسبن ما ساعدن به رجالهن على نفقات بيوتهم، ولم يُترك الأولاد يلعبون في الشوارع، بل أرسلوا إلى المدارس؛ لأن أهالي سورية يحسبون تعليم أولادهم من الضروريات التي لا بدَّ منها، فترى الرجل يقتصد في نفقاته لأجل تعليم أولاده، والمرأة تبيع حلاها وتعلم أولادها ولا يكتفون بتعليم الصبيان، بل يعلمون البنات أيضًا.
في مدرسة من هذه المدارس، وهي غرفة واحدة على دائرها مقاعد من الخشب، والأولاد جلوس عليها مرصوصين رصًّا، والمعلم جالس على كرسي إلى جانب الباب، وأمامه مائدة صغيرة عليها جرس ودواة وفي يده قضيب من الرمان؛ وقف ثلاثة أولاد أمام المعلم وجعلوا يقرءون في كتاب طبع حديثًا في المطبعة الأميركية، وبينما هم يقرءون والمعلم يصلح أغلاطهم، ويأمر المجتهد بشد أذن الكسلان دخل رجل طويل القامة، أسمر اللون، عابس الجبين، لابس دامرًا مرخي الأكمام، دخل يتهادى في مشيه لطول قامته، فنهض المعلم واقفًا إكرامًا له ووقف التلامذة كلهم لوقوفه، فأمسك بيد المعلم وأسر في أذنه كلمتين، ثم خرجا من المدرسة ووقفا أمام الباب يتحادثان، وبعد هنيهة عاد الرجل من حيث أتى، ودخل المعلم وقرع الجرس، وقال للتلامذة: اذهبوا كل واحد إلى بيته، لا تحيدوا يمنة ولا يسرة، ولا تتأخروا في الطريق، وقولوا لأهاليكم: إن المعلم صرفنا وستقفل المدرسة بضعة أيام. وخذوا كتبكم معكم.
فقام التلامذة وتأبط كلٌّ كتابه أو كراسته، وتكتفوا وخرجوا في صف واحد، ثم تفرقوا وسار كل منهم في طريقه، ولم يكادوا يصلون إلى بيوتهم حتى وجدوا فيها حركة غير عادية، وبعضهم التقوا بآبائهم ذاهبين للمجيء بهم، وقابلهم أمهاتهم بلهفة وأدخلنهم حالًا إلى داخل البيوت، وكن قد أخذن يجمعن القليل من ثيابهم ويرزمنها.
فدهش الأولاد من ذلك، وسأل الكبار منهم آباءهم وأمهاتهم عن سبب هذا الاضطراب، وأقبلت حنَّة وأصبعها على فمها وهي تقول لأخيها: «هس، قتِل مسلم وبدهم يقتلونا كلنا.» فأمسكت أمها بكتفها وهزتها، وقالت لها: «اسكتي يا مضروبة.»
ما أرهب تلك الساعة! وما أثقلها على النفوس! ألوف مؤلفة من الأرامل والأيتام الذين نجوا من المذابح وقصدوا بيروت للاحتماء بها، ألوف من النساء اللواتي ذُبح رجالهن وأولادهن أمام عيونهن، ألوف من الصبيان والبنات الذين نجوا مع أمهاتهم وساروا يومًا بعد يوم مشيًا على أقدامهم إلى أن بلغوا بلاد الأمان، مئات من الرجال الذين ساعدتهم التقادير على النجاة، وعلى كل منهم أن يعول عائلتين أو ثلاثًا من عيال إخوته الذين ذهبوا شهداء السياسة والطمع؛ كل هؤلاء التجَئوا إلى مدينة بيروت، وهم يحسبون أنهم نجوا من كل خطر، وفي ساعة واحدة رأوا سيف النقمة مسولًا فوق رءوسهم، فتصوروا المشاهد الفظيعة التي مرت بهم منذ شهر أو شهرين، ورأوا فيها أشلاء القتلى لم تزل تتحرك والدم يفور من جراحها، وأيقنوا أن نجاتهم كانت حلمًا مر وانقضى، وأن السيف تابعهم لا محالة، ولم يبق لهم مهرب ولا نصير، الجبل وراءهم محروق القرى، والبحر أمامهم يرغي ويزبد.
مضى العصر ومالت الشمس إلى المغيب، وطالت ظلال البيوت والأشجار واكدرَّ ماء البحر بعد صفائه، وبدت تباشير الشفق فوق جبال لبنان، وامتدت أصابعه من الشرق إلى الغرب، الطبيعة ساكنة جامدة، ولكن النفوس جائشة مضطربة.
ماذا نعمل يا رجل؟ وإلى أين نذهب بهؤلاء الأولاد؛ أولادنا وأولاد أخيك وأولاد صهرك؟ ليس لنا مهرب إلا إلى بيت إبراهيم، فإنه واسع وله بوابة كبيرة متينة، ولا بد ما يجتمع فيه كثيرون من أهالينا وأقاربنا، فندافع عن أنفسنا إلى أن يفرجها ربنا.
وبعد قليل جمعوا ثيابهم وساروا هي وزوجها وسلفتها وابنة حميها وأولادهم إلى أن وصلوا إلى بيت الخواجه إبراهيم، وهو من وجوه بلدهم، وكان قد نجا مع الذين نجوا، احتمى ببيت الست نائفة، ثم هرب بعد المذبحة، ورحل إلى بيروت واستأجر بيتًا كبيرًا فيها؛ لأنه كان على شيء من الثروة، ولما أتت أموال الإحسان جُعل وكيلًا على توزيعها، فخص نفسه بجانب كبير منها، أما الآن فهرب من بيته إلى بيت رجل من وجهاء بيروت، له بوابتان؛ الواحدة داخل الأخرى، وهو أحصن من بيته، وكان صاحبه مشهورًا بشجاعته وبأنه من أمهر الرجال بلعب السيف، ولكنه كان قد هرب من بيته والتجأ إلى دار وجيه كبير من أكبر أغنياء بيروت، فلما وصلها وجدها مملوءة بالناس الذين التجَئوا إليها من النازحين ومن أهالي بيروت أنفسهم، والدار كبيرة ساحتها مرصوفة بالحصى الملونة ولها سور عال على دائرها، وفي وسطها حديقة غناء فيها من أنواع الأزهار والرياحين وفسقية كبيرة يتدفق الماء منها، وعلى جانبي الحديقة بناءان فخيمان، كل منهما طبقتان فيهما الغرف الكبيرة الدالة على غنًى وافر، ولا عجب؛ فإن صاحبها جمع ثروة طائلة من مصر وبر الأناطول من التجارة والمرابحة، لكنه شعر الآن بالخطر كما شعر غيره، فأخذ زوجته وأولاده وأمواله ونزل إلى سفينة بخارية كانت راسية في المرفأ، ووافاه إليها أولاد عمه وكثيرون من أغنى أغنياء المدينة، وعزموا على السفر تلك الليلة تاركين الدار تنعى من بناها.
وغابت الشمس وخيَّم الليل، والرجال يعدون ما وجدوه من الأسلحة ليدافعوا بها الدفاع الأخير، والنساء يضرعن إلى الله وإلى السيدة، والأولاد سهروا مع والديهم إلى أن غلبهم سلطان الكرى، فانطرحوا في أماكنهم، وجالت نفوسهم في فردوس الأحلام، يحلمون بألعابهم تارة وبدروسهم أخرى، ولم تغمض في تلك الليلة إلى عيونهم.
وجلس اثنان من الشيوخ يحدِّث أحدهما الآخر عن حركة الأمير بشير الأولى والثانية، وعن خروج إبراهيم باشا، ويقول: مرت بنا التباريح ولكن لم يحل بنا مثل هذا الضيق، أيذبحوننا ذبح الغنم برجل واحد؟! ولا أحد يشفع ولا أحد يدفع، وقد تخلى الله عن شعبه وأسلمنا إلى يد الأعداء.
فقال الآخر: هذه آخر الأيام كما أنبأنا الجفر، ولكن لا بدَّ ما يأتي المسكوب من أقصى الشمال كما قال النبي دانيال.
فقال الأول: يأتي ولكن بعد خراب البصرة، وما نفع مجيئه الآن وقد اجتمعت طوائف الدروز وقبائل العرب في حرش بيروت؟!
فأجابه الثاني: ولكن لماذا لا ينزل رجال كسروان لخلاصنا؟ أين يوسف كرم؟ وأين البطرك؟ لم نرَ منهما إلا المواعيد.
فقال الأول: سمعت أن يوسف كرم مخاوذ معهم، ولكني لا أحط بذمتي، وعلى كل حال آخر زمان يا أبا نهرا.
الثاني: آه على أيام الصبا! رزق الله على تلك الأيام! ولكن ما العمل والسن له حق، انظر كيف ترتجف يدي، فلا أستطيع رفع البندقية ولا يزال الرصاص في فخذي من أيام إبراهيم باشا، هذا الذي كتبه الله علينا، ولكن لا بد ما يجيء المسكوب، قلبي يقول لي إن مراكبه الآن في البحر ولا بد ما نراها غدًا.
والتقى نقولا بمارون هناك، وقال له: أين عساكر فرنسا التي وعدتنا بمجيئها؟! فإننا لم نسمع عنها كلمة، والأمر كما ترى، وكنت عازمًا على النزول في البحر مع الذين نزلوا، ولكننا لم نكتب حتى الآن حجج الأملاك التي اشتريناها أخيرًا من الشهابيين، وأخاف أن يصيبهم شيء وينكر أولادهم المشترى.
مضى الليل بتباريحه، وأشرقت الغزالة وانعكست أشعتها عن وجوه صفراء لم تغمض لها عين، وعيون غائرة لم يغمض لها جفن، وأطفال يبكون وينتحبون طالبين كسرة خبز أو شربة ماء، ولم يكن إلا القليل حتى اهتزت تلك النفوس طربًا، كأنه بسلك كهربائي، وجعل الألوف يستشرفون البحر، أو يصعدون على السطوح ليتمكنوا من رؤيته، وهم يقولون: أتى أتى، الله ينصره، الله ينصره!
في أقصى الشمال بارجة تشق سطح الماء، وقد رفعت شراعها للنسيم، واستعانت بما فيها من البخار، يقودها الأمل ويسوقها الواجب، وكأن إله السلام أوحى إلى ربانها أن قُم على عجل، واقصد مدينة بيروت، فهناك مائة ألف نسمة حياتُهم معلقة بخيط من العنكبوت، فقام لا يلوي على أحد، واستعان بالرياح والبخار حتى إذا أشرف على المدينة جعل يطلق أكبر ما عنده من المدافع، فاهتزت المنازل وتكسر زجاج الشبابيك، وأخذت الدهشةُ قومًا والفرحُ آخرين، أخذت الدهشة رعاع القوم الذي يتوقعون الفتن والثورات؛ لكي يطلقوا لنفوسهم المنحطة عنانها، ويأتوا من الشر ما فطروا عليه، وأخذ الفرح العقلاء والفضلاء الذين يعلمون أن الفتن تفضي إلى خراب البلاد وتضييع مصالحها.
والتقى أحمد بمصطفى بعد ساعة من الزمان، وقال له: الحمد لله على انفراج الأزمة. فقال مصطفى: الحمد لله على كل حال، فقد أويت في بيتي ثلاثين عائلة من هؤلاء المساكين، وكنت حائرًا كيف أدافع عنهم وأدفع عنهم الأشرار، أنا لا أفهم هذه السياسة؛ سياسة والينا، وستأتي كلها على رأسه، بأي شرع وفي أي سنة تحرَّض الرعية بعضها على بعض، الله ينجينا من القوم الظالمين، ليأخذوا الآن على أيديهم، فقد جاء المسكوب وسبع دول ما وقفت في وجهه، أسمعت صوت مدافعه؟ كسَّر نصف الزجاج في شبابيك بيتي.
فقال أحمد: نعم قبق كبير لم أر مثله في حياتي، مع أني سافرت إلى قبرص وإلى الإسكندرية، ولكن ماذا فعلوا بالقاتل؟
وانفرجت قلوب الألوف من سكان بيروت واللاجئين إليها على أثر مجيء البارجة الروسية، وجعلوا يعانق بعضهم بعضًا، ويهنئ بعضهم بعضًا بالسلامة وعاد كل إلى منزله.