الذهاب إلى العرب
وصل الأمير عباس وزوجته وأولاده إلى حاصبيا كما تقدم، وخرج الأمراء الشهابيون ورجالهم للقائهم إلى سوق الخان، ولم يقابلهم بإطلاق البنادق على جاري العادة؛ لأن الأمير عباسًا أرسل ينهاهم عن ذلك، وأمراء حاصبيا أنفسهم كانوا يخافون إيقاظ الفتنة بأية وسيلة كانت، لكن حذرهم لم يجدهم نفعًا، ولما وصل الأمير سعد الدين إلى حاصبيا مرسلًا من قبل والي دمشق ليجمع الأموال الأميرية من الدروز؛ قص على الأمير عباس ما أشار عليه به أحد أصدقائه في دمشق، وكان الأمير عباس يعرف هذا الرجل، ويعرف أنه واسع الخبرة شديد الفراسة، فقال للأمير سعد الدين: لا رأي لي بالإقامة بينكم بعد الآن، ولا أظن أنهم يضمرون لكم إلا الشر، وقد دعاني الأمير عمر الفاعور، أمير عرب الفضل، إليه فأرى في تلبية دعوته السلامة. ثم أخبر زوجته وأولاده بما عزم عليه، فوقع الخبر على زوجته وقع الصاعقة؛ لأنها كانت ترى البدو الذين يشتون في ساحل بيروت وهم في حالة من القذر تشمئز منها النفوس، فظنت أن كل البدو مثلهم، أما الأميرة سلمى فطربت أولًا لهذا الخبر؛ لأنها كانت تود أن تقف على حال البدو في قفارهم، وترى معيشة نسائهم وبناتهم، وتحقق بالخُبْر ما قرأته عنهم بالخَبَر، وكانت تحب ركوب الخيل فتصورت نفسها راكبة مع أميرات العرب يَجُبْنَ القفار ويُنشدن الأشعار فطربت نفسها لذلك، ثم تذكرت أنها تبعد عن السر هنري، وقد لا تعود تراه، فخفق فؤادها وصعد الدم إلى وجهها، ثم تقلص عنه فاصفرت وجنتاها وارتجفت شفتاها، وجالت الدموع في عينيها، فألقت جبينها على يدها، وحاولت أن تنسى كل شيء حتى وجودها.
وسر أخواها بهذا السفر؛ لأنهما كانا يحبان ركوب الخيل أيضًا ولم، يغتظ منه إلا أمها وأم يوسف، وكادت أم يوسف تعدل عن الذهاب معهم، وودت أن ترجع إلى كفر شيما أو بيروت، ولكنها لم تجد من يوصلها إليهما، فعادت تندب زوجها وأولادها، وسلمت بالذهاب مع الأميرة هند مكرمة وهي لا تنشف لها دمعة.
وكان الأمير عباس على وفاق مع الست نائفة أخت سعيد بك جنبلاط، فأرسلت معه اثنين من رجالها ليوصلاه إلى عرب الفضل، ويخبرا الدروز الذين يلتقي بهم في الطريق أنه من أصدقائهم، ولم يكن السير شاقًّا كما ظنت الأميرة هند، ونزلوا في الطريق على مشايخ الدروز والعرب إلى أن وصلوا المزار في جبل عجلون، فالتقاهم الأمير عمر بخمسمائة فارس رامح على بعد ساعتين من مضاربه، وكانت عيونه مبثوثة في البلاد، فأوصلت إليه أخبارهم قبل وصولهم بيومين، ولما دنا من الأمير عباس ترجل الأميران وتصافحا، فترجل الفرسان كلهم في أقل من طرفة عين وعلا صهيل الجياد، ثم دنا الأمير عمر من الأميرة هند، وقبَّل يدها وعاد إلى الأميرة سلمى، فطارحها السلام مصافحة، وقبَّل يده بعد أن صافح بها يدها، وكانت مسفرة عن وجه يُخجل البدر، فوقه عينان تفتنان الظبي، وقد توردت وجنتاها من هواء الصحراء ومما جاش في صدرها من الفخار لما رأت الجياد تتدفق كالسيل المنهمر، كأن الأخلاق التي غرست في نفوس أسلافها، وهم في بطحاء مكة وجبل كامل، لم تزل من خلفائهم، بل بقيت آثارها فيهم تظهر كلما حانت لها الفرص ونبهتها العوامل.
وكان الأمير عمر شابًّا في نحو الخامسة والعشرين طويل القامة، أبيض الوجه، أسود العينين، ولم يطلق العنان لعارضيه على جاري عادة العرب، ولا جدل شعر رأسه كما يفعلون؛ لأن أباه أحضر له معلمين من دمشق، فعلموه مبادئ العلوم، وزار دمشق غير مرة، وتزيا بزي أهلها، وكان لابسًا قفطانًا من الأطلس الأحمر، فوقه رداء من الجوخ الرصاصي، وعلى رأسه كوفية وعقال من الحرير والقصب، وتدل ثيابه ورائحته على أنه عائش في نعمة ونعيم، فسرت الأميرة سلمى بمنظره وطلاقة وجهه.
ثم ركب الأميران وركب الفرسان لركوبهما، وانشقوا شطرين؛ فسار الأمير عباس والأميرة هند في المقدمة، والأمير عمر والأميرة سلمى وراءهما وأخواها وراءها، ثم سائر الخدم والحشم، إلى أن بلغوا مقدمة الفرسان، وكان السهل قد لثم الجبل، فصعدوا فيه بين المناهل والغدران، وواصلوا السير على هذا النمط إلى أن وصلوا إلى مضارب الأمير عمر، فلقوا مئات من النساء بالمزاهر والدفوف قد خرجن للقائهم، وهن ينشدن نشيد الترحيب ويقلن:
وكانت واحدة منهن تقول الدور، والباقيات يرددن عليها على نقر الدفوف والمزاهر، فطربت الأميرة هند والأميرة سلمى، ووقفتا هنيهة تسلمان عليهن وتقولان: مرحبًا بالزينات، مرحبًا بزينات الدار ربات الفخار. حتى إذا دخلتا الحلة وجدتا الأميرة عاتكة أم الأمير عمر واقفة في باب خدرها، فسلمت على الأميرة هند مصافحة، واعتنقت الأميرة سلمى وقبلتها في وجنتيها، وجلس الأمراء وحدهم في مضرب كبير والأميرات وحدهن، وقدمت لهم كلهم القهوة الجديدة وكئوس الشراب، ثم مدت أسمطة الطعام وعليها الخرفان المحمرة، وكان عند الأميرة عاتكة جارية تحسن الطبخ التركي، فطبخت للأميرات ألوانًا من الطعام والحلوى لم يأكلن أطيب منها.
ولم يكن الأمير عباس ضعيف البنية، ولكن الترفه الكثير والانقطاع للمطالعة أضعفا جسمه، فصار لا يقوى على عوادي الأدواء، وكأنه أكل طعامًا غير صالح أو شرب ماء تطرق إليه الفساد وهو آت في الطريق، أو أثرت فيه حرارة الشمس، أو أصابه أمر آخر، فلم يكد يتم عشاءه حتى أصابه صداع شديد، وكانوا قد أعدوا له مضربًا خاصًّا، فقام إليه وجاشت نفسه فتقيأ ما أكله وحُمَّ وأصابه شيء من الهذيان، وأُخبرت زوجته وأولاده فأتوا مضربه وقد تولاهم القلق، ولما رأت أم يوسف القيء قالت: إن سيدي مسموم. قالت ذلك همسًا في أذني الأميرة هند، وخرجت تدعو الخدم ليأتوها بكثير من اللبن حتى تسقيه، وفهم الأمير عمر مرادها فاسودت الدنيا في عينيه، وقال لها: إننا أكلنا معًا من خروف واحد وعن سماط واحد، وشربنا القهوة من غلاية واحدة، وأنا شربت قبله. فأخذت تعتذر عن نفسها، وقالت: ربما يكون سيدي قد شرب شيئًا أو أكل شيئًا في الطريق. وأتوها بكثير من اللبن لكن الأمير أبى أن يشربه.
وأرسل الأمير عمر أربعة فرسان إلى دمشق يستدعي طبيبًا من أمهر أطبائها.
واشتدت الحرارة على الأمير عباس إلى درجة لا تطاق، حتى كاد يشتعل ثم انحطت سريعًا، وجعل يشكو من ضيق النفس والعطش الشديد، وجعل جلده يجف ثم يتندى بالعرق دواليك، ونبضه يسرع ثم يبطئ، وازرقَّ وجهه وعنقه، وانقبضت حدقتاه ثم اتسعتا، وأصابته تشنجات صرعية وعقب ذلك سبات عميق.
وكان في القبيلة شيخ كبير مارس صناعة التطبيب من غير معلم ومن غير كتاب، ناقلًا ما يعرفه عن أبيه وجده، ومضيفًا إليه ما عرفه بالاختبار، فاستدعاه الأمير عمر حالًا، فأمر بصب الماء الكثير على رأس الأمير عباس قائلًا إن ما أصابه ضربة شمس، ورأت الأميرة هند أن ما قاله الرجل صواب؛ لأن الشمس كانت حارة، وكان نورها ساطعًا جدًّا حتى اضطرت أن تسدل نقابها على وجهها أكثر الطريق، ولم تخفَّ حرارتها بعد غيابها، فأذنت لهم في صب الماء على رأسه، وخالفتها أم يوسف في ذلك، وهي تقول: «سموه يا ستي سموه، اسمعي مني واسقوه اللبن وزلال البيض.» لكن الأميرة هند لم تصغ إليها بل أمرت بصب الماء، وكان ماؤهم باردًا؛ لأن الأرض جبلية؛ فانتعش الأمير عباس قليلًا ثم عاودته الحمى وأسلم الروح.