خطر غير منتظر
مضى على قبائل العرب أكثر من أربعة آلاف سنة من حين ورد ذكرهم في التاريخ المكتوب والمنقوش، وهم رحَّل يعيشون بالغزو والنهب وتربية المواشي وحمل بضائع التجار ولم تتغير حالهم.
قامت ممالك آشور وبابل وصور وصيداء ومصر والنوبة، وأينعت ثم انحطت وانقرضت، وقام اليونان والرومان ودوخوا المعمور ثم زالت دولهم، وخرج من العرب أناس بلغوا في فتوحهم قلب الهند والصين شرقًا وأطراف أوروبا وإفريقية غربًا، ولكن أبناء البادية المقيمين فيها بقوا على بداوتهم لهذا العهد، يعيشون في الخيام ويضربون في انتجاع الرزق ويغزو بعضهم بعضًا، كما كانوا يفعلون منذ ألف سنة وألفي سنة، وقد يظن أن بداوتهم هذه على تأصلها فيهم وتمكنها من عروقهم؛ تفارقهم إذا خالطوا أهل الحضارة ورأوا فيها من الرفاهة ما ليس في البداوة، لكنهم لم يروا في البلاد التي حولهم لهذا العهد ما يرغبهم في الحضارة، فبقوا بعيدين عنها ما أمكن.
ولما لم يكن لقبائل العرب وازع عام يقضي بينهم تراهم يلجَئون دوامًا إلى أخذ ثأرهم بيدهم، وهذا هو السبب الأكبر لما يقع بينهم من العدوان.
وكان بين عرب الفضل وعرب بني صخر ثارات قديمة، واتفق أن عرب بني صخر آنسوا الضعف من عرب الفضل، أو حرَّضهم محرض على غزوهم لكي يضعف الفريقان معًا فشنوا الغارة عليهم، وبلغ الأمير عمر أن بني صخر زاحفون عليه، فجمع رجاله في سفح جبل عجلون، وكان هناك سهل فسيح يبتدئ بواد عند أسفل الجبل، ثم ينتشر شمالًا وجنوبًا وشرقًا، وكانوا نحو ثلاثة آلاف فارس، وترك النساء والأولادَ في الجبل ومعهم نحو ألفين من الرجال لحمايتهم، وأراد ابنا الأمير عباس أن يخرجا معه للقتال فمنعهما وأوصى أمهما أن لا تدعهما يخرجان من مضربها، وأكد لها وللأميرة سلمى أنه يعود فائزًا مساء ذلك اليوم؛ لأن رجال بني صخر لا يقاسون برجاله.
وخرج هو في مقدمة جيشه وكان رجاله مسلحين بالسيوف والرماح، ومعهم نحو مائتي بندقية من البنادق القديمة ذات الزناد، فلما توسطوا السهل رأوه يموج بفرسان العدو، فتقدم فارس منهم براية بيضاء، ومعه رسالة إلى الأمير عمر مفادها أن يسلم للأمير حسان أمير بني صخر الرجلين اللذين قتلا ابن خالته، ويرد له أحمال البن التي نهبها رجاله من قافلة كان فيها عشرون جملًا لبني صخر على كل جمل منها نصف قنطار من البن، ويسلم له الأمير عباسًا وأهله ليحميهم عنده؛ لأن بني صخر أولى بحمايتهم من عرب الفضل.
فقرأ الأمير عمر الرسالة وقال للرسول: قل لمولاك إن الرجلين اللذين قتلا ابن خالته إنما قتلاه بثأر قديم لهما عنده، وإن العرب الذين نهبوا القافلة لم يكونوا كلهم من عرب الفضل، ولا هم فعلوا ذلك بأمره، ولا رأى البن الذي يقال إنهم نهبوه، وإن الأمير عباسًا — رحمة الله عليه — لجأ إلى حماه، وأوصاه بزوجته وأولاده قبل وفاته، وهو وحده حامي الذمار في تلك الديار، وعرب صخر معتدون عليها وأوطانهم بعيدة في البلقاء، وهو يطلب منهم أن ينكصوا على أعقابهم ويعودوا إليها، فيعود عنهم، وإلا أشبع غربان الجو ووحوش البر من لحومهم.
فرجع الرسول وأخبره مولاه بما سمع، فالتفت إلى الذين حوله وأخبرهم بمفاد الجواب، فأشرعوا رماحهم، وقالوا له: مرنا بالهجوم عليهم. فقال: هلموا يا شجعان العرب! واستل سيفه وهمَّ بالهجوم معهم فمنعه رجاله، وأقسموا عليه أن لا يهجم ما لم يبرز له الأمير عمر، لكن رجاله قوَّموا الأسنة وأطلقوا الأعنة، فالتقى الجيشان كأنهما جبلان، ودار الطعن والضرب، وكانت الشمس قد علت عن الأفق، وأرسلت أشعتها في وجوه عرب الفضل، فكادت تعمي أبصارهم، وانفصلت كتيبة من بني صخر ودارت وراء عرب الفضل، وربطت عليهم المضيق المؤدي إلى جبلهم، واحتر القتال، واشتدت حمارة الصيف، وتعثرت الجياد بجثث القتلى، وبرز الأمير عمر للأمير حسان، فتنازلا ساعة زمانية على ميمنة الجيش حتى تكسر رمحاهما وتثلم سيفاهما، وكاد فرساهما يسقطان تحتهما، ثم افترفا للم شعث رجالهما.
وكان بنو صخر قد فازوا على عرب الفضل وأثخنوا فيهم؛ لا لأنهم أشد منهم بأسًا وأمهر في الكر والفر والضرب والطعن، بل لأن أشعة الشمس كادت تعمي أبصار عرب الفضل، فسقط منهم مئات من القتلى، ولما حاولوا الفرار رأوا فرسان بني صخر تفصل بينهم وبين جبلهم، فانتشروا في عرض البر، وبنو صخر يجدون وراءهم ويضربون في أقفيتهم، وصعد فريق منهم إلى الجبل وهجموا على خيام الأمير عمر، فنهبوها وسبوا من فيها وفي جملتهم أمه والأميرة هند وأولادها، واحتملوهم وعادوا بهم يجدون السير إلى جهة البلقاء.
ولما بلغوا السهل التف حولهم فرسان بني صخر يخفرونهم، وكان الأمير عمر قد سعى وراء رجاله يلم شعثهم وينخيهم ليعاودوا الكرة، فجمع نحو ألف منهم وعادوا إلى السهل، وبلغه حينئذ أسر أمه والأميرة هند وأولادها، فصار الضياء في عينيه ظلامًا، والتفت إلى رجاله وقال لهم: هذا يومكم يا عرب الفضل، النار ولا العار، من منك أخو أخته يرضى بهذه المذلة؟! افتضحنا والله بين العرب إلى آخر الدهر، وقد مالت الشمس الآن ولم يبق لنا عذر، فهلموا يا أبطال الحرب والطعان. ثم أشار بيديه إلى الأعداء، وهجم عليهم هجمة منكرة وأخذ يجندل الأبطال يمنة ويسرة، حتى دنا من الفرس الذي عليه أمه وكاد يخطفها من سرجها، ولكن عثر جواده حينئذ فسقط، واجتمع رجاله حوله يدافعون عنه، فأسرع الفارسان اللذان معهما الأميرة سلمى وأمها وأبعدا عنه، ولم يكن إلا دقائق قليلة حتى عاد إلى صهوة جواده، واقتحم فرسان العدو بصدره وكانوا قد أطبقوا عليه من كل ناحية وسدوا في وجهه منافس الفضاء.
ومضت ساعة من الزمان بيعت فيها الأرواح بيع السماح، وفعل الأمير عمر فعالًا تشيب الأطفال، وكان معه فارس أسود يحمي ظهره لكنه لم يستطع استرجاع الأسرى مع كل ما بذله من الجهد، ورأى رجاله استبساله فزادت نخوتهم واستقتلوا كلهم، ولكن اجتمع عليهم نحو ألفين من الفرسان الأشداء، ومضت ساعة لم تر تلك البطاح مثلها من عهد الصليبيين، وأخيرًا رأى الأمير عمر أن الكثرة غلبت الشجاعة، وأن شمل رجاله قد تمزق، فعزم أن يرجع ويجمعهم ثانية ويُبيت بني صخر بهم تلك الليلة.