خيبة الأمل
وصل السر هنري إلى صيداء، وبات عند قنصل الإنكليز وأخبره أنه ذاهب إلى حاصبيا، فقال له القنصل: إن حاصبيا والقرى المجاورة لها أمست رمادًا، وقتل أكثر رجالها ووصل الفارون من النساء والعجائز إلى هنا وهم في حالة يرثى لها.
فطلب منه السر هنري أن يريه بعضهم، فأرسل القنصل قواسًا من قواسته، فجاءه بشيخ طاعن في السن، فقص عليه ما جرى من أول الفتنة إلى أن جمع الرجال في السراي وذبحوا ذبح الغنم، فسأله السر هنري عن الأمراء الشهابيين، فقال له إنهم قتلوا أيضًا، فسأله عن الأمير عباس، فقال له إنه رحل إلى عرب الفضل في جبل عجلون منذ عشرين يومًا أو أكثر.
وطلب السر هنري من القنصل أن يسير به إلى حيث يقيم المهاجرون من أهالي حاصبيا والقرى المجاورة لها لكي يراهم، فسار به إلى الخانات التي كانوا مقيمين فيها، فقابله النساء بالبكاء والعويل ورأى مناظر تفتت الأكباد، فتداول مع القنصل في أمرهم، ثم مضى وقابل المتسلم، وأسمعه من الكلام أمرَّه، واستأجر سفينة كبيرة ليرسل بها المهاجرون إلى بيروت، وأرسل معهم القواس الذي أتى معه، وكتب إلى الكولونل روز يخبره بما سمع ويستأذنه في السفر إلى جبل عجلون، وأرسل الكتاب مع رسول، وقام يطوف في صيداء ليرى مبانيها القديمة، فرأى خان الإفرنج وقلعة البحر، وصعد إلى قلعة الملك لويس، ورأى أبراجها وما فيها من المدافع المصرية الباقية فيها من عهد إبراهيم باشا، فأعجبه منظرها، وخرج إلى خارج المدينة من عند الميناء القديم، ورأى أكمة الحلازين البحرية التي كان الصيدونيون يستخرجون الأرجوان منها، وركب في اليوم التالي وذهب إلى ضواحي المدينة، وزار بيت لادي إستيرستانهوب، واستقصى أخبارها من بعض الذين يعرفونها، وعاد عند الظهر إلى المدينة، فوجد الجواب من الكولونل روز ينصح له فيه أن لا يوغل في البلاد ما دامت الفتنة قائمة قاعدة، ويؤكد له أن الأمير عباسًا فعل عين الصواب برحيله إلى عرب الفضل، ولا بد ما ينزل هناك على الرحب والسعة؛ لأن الأمير عمر أميرهم من أكرم أمراء العرب ووسائل الراحة والرفاهة متوفرة لديه.
قال الكولونل: وقد زرته منذ سنتين وأقمت عنده ثلاثة أيام، فرحب بي وأكرمني غاية الإكرام، ووجدت عنده كل وسائل الراحة التي يمكن أن توجد خارج المدن، ولو كنت أعلم أن الوصول إليه سهل لأشرت عليك بالذهاب إليه من غير تردد، أما والأحوال كما ترى فليس من الحكمة أن تخاطر بنفسك، لا سيما وأن خصومنا قد ينسبون ذهابك لغاية سياسية، ولا يخفى عليَّ انشغال بالك، ولكن ما كل ما يتمنى المرء يدركه، والصبر مر ولكن ثمرته حلوة كما يقول المثل الفرنسوي، وما دام الأميرة سلمى وأهلها في حمى عرب الفضل فلا خوف عليهم، وبعد شهر أو شهرين نرى كيف تتصرف هذه الأمور؛ لأن دوام الحال من المحال، ولقد أسفت جدًّا لما أصاب هؤلاء المساكين على ما وصفت لي، ولا بد من أن تصل السفينة التي أرسلتهم بها اليوم أو غدًا فيجدوا هنا بعض الراحة وكل مساعدة ممكنة.
لما قرأ السر هنري هذا الكتاب رأى أن رجوعه إلى بيروت أجدر به في الأحوال الحاضرة، فاستدعى الشيخ الذي رآه قبلًا، وكان لا يزال باقيًّا في صيداء عند أقاربه، وسأله عن عرب الفضل ومنازلهم وعدد رجالهم وأوصاف أميرهم، فقص عليه الشيخ ما يعلمه من أمرهم، وقال: إنهم بطون كثيرة تنزل جبل عجلون والسهول المجاورة له، فتقيم في الجبل صيفًا وفي السهول شتاء، وهم نحو ستة آلاف بيت، وإذا خرج أميرهم الأمير عمر الفاعور للغزو خرج معه أربعة آلاف فارس، وقد حاولت الدولة إدخالهم في طاعتها مرارًا فأخفقت، لكنهم لا يضمرون العداء لها على ما يظهر، بل يكرمون رجالها ويهادون الولاة بالهديا، ويقصدهم التجار ويشترون منهم السمن والصوف والغنم والجمال والخيل إذا لم تكن كريمة، وقد يبيعون الفرس الكريم بألف ريال أو أكثر، ويشترون من التجار الأقمشة المختلفة والتبغ والرز والبن والسكر والطيوب والآنية النحاسية والحلى والأسلحة، ويقيم إلى جنوبيهم بنو صخر وهم لا يقلون عنهم عددًا وعُددًا، وقد ذهبت إليهم في تجارة منذ عشر سنوات، وكان معي ولداي.
ولما نطق بهذه الكلمة اغرورقت عيناه بالدموع وألقى رأسه على عصاه وجعل يبكي كالطفل الصغير، ثم كفكف دموعه وعاد إلى الحديث، فقال: نعم ذهبت مع ولديَّ، وكانت الحرب ناشبة بين عرب الفضل وبني صخر، لكن العدول من الطرفين اجتمعوا يوم وصولنا ووقعوا شروط الصلح، فاستبشر العرب بنا واشتروا كل ما معنا من البضائع، وأعطونا غنمًا بدلًا منها فرجعنا راكبين على دوابنا، ومعنا قطعان كبيرة من الغنم، رزق الله على تلك الأيام! يا ليتني مت فيها.
فسأله السر هنري عن حال المعيشة في بيت أمير عرب الفضل. فقال الشيخ: العرب عرب أينما كانوا، وقد ضافنا أمير عرب الفضل في بيته فأكلنا وشربنا مع رجاله، وهو وبعض الأمراء يأكلون وحدهم، وطعامهم الرقاق والرز المفلفل والخرفان، والأمير متأنق في طعامه، فيصطادون له الحجال ويطبخون له أحيانًا مآكل تركية؛ لأن عنده الجواري السود المعتادات على طبخ المآكل التركية وعمل الحلويات، وهم يكثرون من أكل الحلوى، وعندهم العسل البري يَشْتَارُونَه من الجبل ويكون في شقوق الصخور العالية، وقد أكلت منه وهو أطيب من العسل الشبعاوي.
فقال له السر هنري: وكيف ينامون؟ هل عندهم فرش مثلنا؟
فقال: نعم عندهم فرش كبيرة محشوة بالصوف الناعم، وكثيرًا ما يزورهم كبار رجال الحكومة وينامون عندهم، والهواء هناك طيب منعش، فينام الإنسان ساعتين كأنه نام الليل كله، فإن كنت عازمًا على الذهاب إلى هناك فاذهب ولا تخف، فإن كثيرين من السياح قد ذهبوا إلى هناك، وأنا ذهبت مع جماعة من الإنكليز إلى مصر بطريق البر، ومررنا على عرب الفضل وعلى كل العربان الذين في الطريق من هنا إلى عريش مصر، نعم إن السياح كانوا ينامون في خيامهم، ولكن أمراء العرب كانوا يدعونهم للأكل عندهم فيجدون ما يسرهم.
فاطمأن بال السر هنري من هذا الحديث، وسلم أمره لله، وصرف الشيخ بعد أن ناوله صرة من النقود، وقام في اليوم التالي وعاد راجعًا إلى بيروت.