الغداء على الغدير
إلى الشمال الشرقي من الشويفات قرية كبيرة تفضلها في غزارة مائها وكثرة بساتينها، ولو قلَّت عنها في عدد سكانها وفخامة مبانيها، وهي قرية كفر شيما أو قرية الفضة، نزلها الأمراء الشهابيون من قديم الزمان كما نزل الأرسلانيون الشويفات، وبنى الشهابيون الدور الكبيرة، واعتنوا بغرس الجنائن والبساتين فيها وفيما جاورها من رياض الغدير، وهو نهر شتوي يفيض في الشتاء حتى يطمَّ على الربى، ويجف في الصيف حتى لا تبقى فيه نقطة ماء.
في دار من دور كفر شيما أمير من آل شهاب اسمه الأمير عباس لم يتنصر مع إخوته وأبناء عمه، بل بقي على الإسلام مثل أقاربه في حاصبيا ووادي التيم، وكان عنده خطيب يصلي وراءه، لكنه كان سمحًا لا يجادل إخوانه إلا بالتي هي أحسن، ولا منع زوجته وأولاده من التنصر، بل كانت زوجته شديدة التمسك بالنصرانية والإكرام لقسوسها، وكثيرًا ما قصده مطران بيروت وتجادلا طويلًا، ثم انتهى الجدال بينهما بقوله: لكم دينكم ولي ديني، فيتركان الجدال ويعودان إلى وصف الدخان الجبيلي والشقيفي، فإن المطران كان مولعًا بالأول والأمير بالثاني وكانا كلاهما مغرمين بالسعوط، ومع المطران حقة مرصعة بالماس أهدتها إليه الإمبراطورة أوجيني زوجة الإمبراطور نبوليون الثالث لما زارها في فرنسا، فلم يكن يسعه إلا استنشاق السعوط منها من وقت إلى آخر وتقديمها إلى الأمير، حتى يرى حجارة الماس على غطائها، والأمير يقدم له حقة سوداء سادجة من صنع الصين، لكن حملة شبقه كانت من الكهرباء وتحتها حلقات من الجزع والعقيق مرصعة بالذهب، والشبق نفسه قضيب طويل من الورد الأخضر يقطعه ويثقبه بيده، وقد غرس وردًا كثيرًا في حديقة داره لهذه الغاية فلا تلبث القصبة في يده يومين حتى يبدلها بغيرها قبلما تجف.
وكان للأمير عباس ابنان وابنة اسمها سلمى، وفي اليوم الذي مضى فيه الأمير أحمد أرسلان إلى بيروت لمقابلة الكولونل روز، قامت الأميرة سلمى وطالبت أمها بوعدها، وهو النزول إلى الغدير للنزهة وتناول الغداء هناك؛ لأن مطر الخريف كان قد كسا الأرض بساطًا سندسيًّا، وظهر زهر العصفر فدبجه بطراز معلم، فنادت أمها جارية اسمها زهرة، وقالت لها: قولي لمرجان إننا نازلتان إلى الغدير، وقولي للخزندار أن يرسل غداءنا إلى هناك، ويدعو أم يوسف لتوافينا إليه. وأرسلت سلمى إلى صفا ابنة عمها تدعوها إلى النزهة معهما.
ثم ركبت الأميرة هند وابنتها وابنة سلفها خيولًا عربية مطهمة تتهادى بما عليها من الحلى، ونزلن إلى الغدير ونزل معهن مرجان وبيده نارجيلة جوزتها من البلور المطرش وقلبها من الفضة والذهب، وقد علق على جنبه كيس التنباك من المخمل الأحمر المزركش بالقصب، ونزلت زهرة ومعها طاس من الفضة وجارية أخرى بطاس آخر وخادم يحمل سجادتين، وساروا الهوينى وقد تكبدت الشمس السماء، فلم يصلوا إلى الغدير إلا قبيل الظهر.
ثم تبعهم بعض الخدم والحشم ومعهم ما طهاه الطهاة من فاخر الطعام وسلتان من العنب والليمون، فمدوا سماطًا للأميرات، ووقفت الجواري في خدمتهن، حتى إذا اكتفين من الطعام وأكلن الحلوى والفاكهة، اتكأن يتطارحن الحديث، وكانت أم يوسف من أفكه نساء القرية حديثًا وأوسعهن رواية، فلا يطيب للشهابيات عيش بدونها فيدعونها من بيت إلى بيت، ولا يخرجن للنزهة إلا وهي معهن تطرفهن بالأحاديث المختلفة بعضها صحيح وبعضها مختلق أو مزوق، فحدثتهن تلك الساعة عن أعمال السحر والتعزيم التي كان يعملها الشيخ بشير تلحوق، وكان من أعلم أهل زمانه وأمهرهم وأدهاهم، ومما قصته عنه أنه كان يضع إبريقًا بين رجلين، ويتلو عليه بعض الآيات من القرآن والزبور، فيدور الإبريق من جهة إلى أخرى من تلقاء نفسه بقوة السحر، وأنه كان يوقف عصاه فتقف، ثم يأمرها فتدور أمام الجلوس من أمام واحد إلى أمام آخر من غير أن يلمسها أحد، ويضع إبريقين في زاويتين من زوايا الغرفة واحدًا ملآنًا والآخر فارغًا، ثم يتلو بعض الآيات فينتقل الإبريق الفارغ من مكانه ويسير إلى مكان الإبريق الملآن، ويسير الإبريق الملآن من مكانه إلى مكان الإبريق الفارغ، هذا والناس ينظرون ويعجبون ولا يشكون أنه يفعل ذلك بقوة سحرية، ويضع بيضة في إناء ويسلقها فتثب من الماء الغالي من نفسها وتبعد عنه.
وأعجب من ذلك قدرته على شفاء المجانين من جنونهم، لكنه لا يستطع ذلك ما لم يقفل باب غرفته عليه ويبقى فيها عشرة أيام أو أكثر صائمًا جاهدًا، وأخيرًا يأتيه ملك الجن ويقول له: اطلب ما تريد. فيقول الشيخ: إن فلانًا أصيب بالجنون، وأطلب منك أن تساعدني على شفائه. فيقول له ملك الجن: لبيك وسعديك قد أجيب طلبك. ولما تورمت امرأة الشيخ أحمد تلحوق، حتى ظن أنها حامل، وطال الزمن عليها ولم تلد ولا شفيت من الورم؛ أمرَّ الشيخ بشير يده عليها فشفيت للحال وزال الورم كله، وأتي إليه بالشيخ يوسف تلحوق وهو مجنون جنونًا مطبقًا، فأبقاه عنده يومين ثم أرجعه إلى بيته صحيح الجسم والعقل.
وكانت كلما أوردت قصة من هذه القصص تستشهد على صحتها بأسماء كثيرين من الرجال المعروفين في البلاد، حتى لم تبقَ شبهة في نفس الأميرة هند وابنة سلفها أن كل ما كان الشيخ بشير يفعله هو من قبيل السحر الحقيقي، أما الأميرة سلمى فقالت: إن كان الشيخ بشير ماهرًا إلى هذا الحد فلماذا لا يستعمل سحره فيما ينفعه وينفع أبناء عمه؟! وأنا لو كنت مكانه أقدر أن استخدم الجن لجعلتهم يملكونني الدنيا.
فصلبت أمها على وجهها، وقالت: اسكتي ولا تتكلمي بهذا الكلام! من منا ينكر الجن؟! ألم يستحضرهم عمك مرة، ولما رآهم مَلَئوا المكان الذي كان فيه وضاق بهم ذرعًا وهم يرقصون حوله، لم ير سبيلًا لصرفهم عنه إلا بأن أمرهم ليذهبوا وينقبوا له الأرض التي فوق نهر بيروت، فذهبوا ونقبوها كلها في ساعتين من الزمان، ولكنهم جعلوا جلالها ممتدة عرضًا من أعلى إلى أسفل، فلا تصلح للزرع ولا لشيء، ثم عادوا إليه يطلبون عملًا يعملونه له، فحار في أمره، وأخيرًا التفت إلى ما حوله فرأى بلاسًا أسود، فقال لهم: خذوه واغسلوه لي حتى يصير أبيض. فمضوا به يغسلونه وحتى الآن لم يعودوا، ولولا هذه الحيلة لخطفوا روحه.
فصادقت أم يوسف على كلامها، وقصت عليهن قصة القديسة هندية التي كان ملك الجان يأتيها ليلًا في شكل تيس من المعزى، فتركب عليه وتذهب به إلى بلاد الصين، وتعود منها بالحرير تدفعه إلى الخواجه جاماتي، وتذهب وترجع في ليلة واحدة من غير أن يشعر بها أحد، قالت: وقد اغتنى الخواجه جاماتي من الحرير الذي جلبته له من بلاد الصين، وها داره أمامنا على قمة سبنيه ولولا ذلك ما استطاع رجل فلاح أن يبني دارًا مثل دور الأمراء.
فقالت الأميرة سلمى: سمعت أبي يقول إن الجاماتي كان يدين الأمراء، ويستد الحرير منهم بثمن بخس، ثم يبيعه لتجار الإفرنج بثمن غال وهذا سبب غناه.
فقالت لها أمها: من أين عرف أبوك ذلك والجاماتي نفسه يقول إن الحرير يأتيه من الصين؟!
فقالت الأميرة صفا: الحق مع سلمى، وأنا سمعت أن ميخائيل طوبيا صار أغنى من قارون من مشتراه الحرير من الأمراء والفلاحين بثمن بخس، وبيعه لتجار الإفرنج في مرسيليا.
فقالت أم يوسف: أنا لم أسمع أن ميخائيل طوبيا استخدم الجن مثل الجاماتي، ولكن لا أحد ينكر السحر واستخدام اللعين — خزاه الله. ثم قصت قصة رجل أراد آخر أن يقتله غيلة، فأتى أحد السحرة، وكتب له كتابة سحرية على قطعة من الشحم، ومضى وعلقها في مغارة عميقة، فجعلت الكتابة السحرية تذيب الشحم رويدًا وريدًا، وكلما ذاب منه شيء نحل جسم الرجل، حتى كاد يموت سلًّا وعجز الأطباء عن شفائه، وأخيرًا استشاروا له أحد السحرة، فعرف بسحره أمْرَ الشحمة، ففتشوا عنها حتى وجدوها ونزعوا الكتابة عنها، فسلم الرجل من الموت ثم شفي، ولولا ذلك لمات لا محالة.
فقالت سلمى: إذا كان الأمر كذلك فلماذا لا يستعين الولاة بالسحر على التخلص من أعدائهم بدل المخاطرة بأنفسهم ورجالهم؟! أنا لا أصدق شيئًا من ذلك.
فقالت أم يوسف: هاكِ قصة جرت للمرحوم أبي يوسف بالقرب من المكان الذي نحن فيه الآن، كان ذات ليلة راجعًا من بيروت، وكان القمر بدرًا، فلما وصل إلى الوروار سمع غناء وزغردة، فظن أن على الطريق أناسًا آتين بعروس، ثم لما قرب من المطحنة علا الصوت كثيرًا، وأتاه أربعة أولاد وهم يصفقون ويغنون ويقولون: يا أبا يوسف يا أبا يوسف، تعال انظر العروس. فسار معهم رغمًا عنه، حتى إذا وصل إلى قرب الماء رأى عروسًا مجلوَّةً وحولها جمهور غفير من الرجال والنساء، وهم بالحلى والحلل فقبضوا عليه وقالوا له: هلم نكتب الكتاب. فصلب يده على وجهه، فانشقت الأرض وابتلعت العروس وكل الذين كانوا معها. ولما قالت أم يوسف ذلك ارتجفت مفاصل الأميرة هند والأميرة صفا، وأما سلمى فقالت: إني معلمي قص عليَّ قصة من هذا القبيل، وهي أنه كان سائرًا مرة في طريق لم يسر فيه من قبل، فوصل إلى بئر سمع صوتًا خارجًا منها، فأطلَّ وإذا في قعر البئر نساء يستقين ماء، فلم يشك أنهن من الجن، فأسرع العدو، ولما أتم غرضه من المكان الذي كان ذاهبًا إليه خاف أن يعود في الطريق الذي ذهب فيه، فعاد في طريق آخر يمر من تحت البئر، وكان هناك درج يوصل إلى أسفل البئر والنساء ينزلن به ويستقين من الماء، فلو لم يمر في ذلك الطريق لاعتقد أنه رأى نساء الجن في البئر.
فقالت لها أمها: لا يمكننا إلا التصديق بوجود الجن، وأبوك يصدق بوجودهم والمطرانُ أيضًا، وكل واحد يصدق بوجودهم، وهم الذين رجموا بيت خالك بالحجارة، فقد فتشنا عن الراجمين كل مكان ولم نر أحدًا. وقالت الأميرة صفا: دعونا من هذا الحديث، فقد صرت أخاف من خيالي ولا يمكنني أن أنام وحدي الليلة.
وقصت أم يوسف عليهن قصصًا أخرى مضحكة فأطربتهن بعد أن خوفتهن بقصص السحر والجن، فمضى النهار ومالت الشمس إلى المغيب وهن لا يشعرن، ولما مر الأمير أحمد والتفت إليهن، ثم غض طرفه نظرت أم يوسف إلى الأميرة صفا، ثم نظرت كلتاهما إلى الأميرة سلمى فرأتاها قد احمرت وأطرقت إلى الأرض، فتغامزتا ولم تقولا شيئًا، وكان العبيد قد أتوهن بالخيل فركبن وعدْن إلى بيوتهن.
ودخلت الأميرة هند غرفة ابنتها في المساء، وقالت لها: أين كان أحمد يا ترى؟ الظاهر أنه لم ينظرنا، ألم تغيري فكرك من جهته؟ تقول خالتك إن عمه وأولاد عمه يحسبونه رئيس العائلة وركنها.
فقالت سلمى: نعم، ولكنه درزي، وفوق ذلك فأنا لا أميل إليه مهما كان.
فقالت أمها: وأبوك لا يرضى بمجيد لأنه شاب خليع.
فقالت سلمى: ومن قال إني أريده؟! أنا لا أريد أحدًا، ولا أريد أن أفارقكِ وأفارق أبي.