البحث والتحقيق
لم يكد السر هنري يصل إلى بيروت، حتى وصل إليها فؤاد باشا الصدر الأعظم، جاء ليصلح الحال من أقرب الطرق خوفًا من مداخلة أوروبا، وقد فُوض إليه أن يفعل ما يرى فعله لازمًا لاطمئنان الخواطر وإرجاع الأمن إلى البلاد، فقبض على والي بيروت وألقاه في السجن، وسجن معه بعض رجال الحكومة، لكنه لم يفعل ذلك إلا بعد أن جاءه كتاب قوي اللهجة من أميرال الأسطول الإنكليزي الذي كان راسيًّا تجاه بيروت، وصف له فيه الفظائع التي جرت، وأبان له أن الأمم الأوروبية لا تستطيع السكوت عنها، وأنه إذا لم تبادر الدولة إلى الاقتصاص من المرتكبين، فالدول الأوروبية متفقة على أن تتولى هي بنفسها الاقتصاص منهم وإرجاع الأمن إلى نصابه، وأشار في هذا الكتاب إلى أن اللوم الأكبر واقع على كبار رجال الحكومة الذين أمروا بهذه الفظائع وتولوا إجراءها.
فوقع هذا الكتاب وقعًا شديدًا في نفس الوزير، وصعد إلى دمشق وقبض على واليها وأمر بقتله، وقتل معه المأمور الذي كان في حاصبيا وثلاثة من ضباطه ومائة وسبعة عشر جنديًّا ونحو خمسين أو ستين من الأهالي، وكان الذين قتلوا من دمشق وضواحيها نحو ستة آلاف نفس.
وسُئِل أحد وجوه دمشق ليكتب محضرًا يصف فيه ما جرى له، وكان قد نجا من المذبحة، فكتب ما خلاصته.
لما فشت الفتنة في لبنان والبلاد المجاورة له اضطربت الأفكار في دمشق، حتى إذا ورد الخبر بالاستيلاء على زحلة كان فرح عظيم وزينت الأسواق بالأنوار، فزاد الخوف وهرب كثيرون إلى دمشق من البلاد المجاورة لها فامتلأت بهم الكنائس والأزقة، وكانت الآمال معقودة بأن الأمير عبد القادر الجزائري يستطيع منع الفتنة، وقد بذل جهده في هذا السبيل، فاطمأنت الخواطر وعاد الناس إلى أعمالهم في السابع والثامن من شهر يوليو، وفي التاسع منه استبيحت الأرواح، ودخل الأشقياء البيوت والأديرة والكنائس، وقتلوا من فيها حتى العاجز والأعمى من السكان ومن اللاجئين إليهم، بل قتلوا المجذومين الذين يقصدون دمشق للتداوي فيها وحرقوا مكانهم.
وكما فعل هؤلاء الأشقياءُ المنكراتِ فعل الفضلاءُ الصالحاتِ؛ فالأمير عبد القادر، والشريف أسعد حمزة، والشيخ سليم العطار، والشيخ عمر العابد، وأمثالهم؛ طافوا أحياء المدينة برجالهم ينقذون الناس، ويمنعون الاعتداء عليهم، فخمدت الفتنة في اليوم الثاني، ثمَّ اشتدت في اليوم الثالث، ودامت الشدة إلى أن وصل إلى دمشق والٍ جديد وأمَّن من بقي حيًّا.
وأنا كنت نائمًا في بيتي فأيقظوني صباح الاثنين في ٩ يوليو، وأخبروني أن الفتنة فشت في المدينة، فخرجت إلى باب داري لأتحقق الخبر، فرأيت الناس يتراكضون فأقفلت بابي منتظرًا قدوم قواس من قنصلاتو الإنكليز؛ لأني تابع لها، وبعد قليل حضر قواس، فأرسلته إلى الأمير عبد القادر أطلب منه رجالًا يوصلونني إليه، فرجع القواس وحده بعد برهة قائلًا إن الأمير أعطاه ستة رجال، ولكن لم يمكنهم الوصول إليَّ؛ لشدة الازدحام ولأنهم غير مسلحين، فانتظرت آملًا أن يتسلحوا ويعودوا إليَّ، وبينما أنا جالس في انتظارهم هجم جماعة على باب داري وكسروه بالبلطات ودخلوا الدار الخارجية، وجعلوا يطلقون الرصاص على غرف البيت، فخرجت من باب صغير خارجي ومعي ابني وعمره تسع سنوات وابنتي وعمرها ست سنوات والقواس، وأخذت معي مبلغًا من النقود لأستعين به بدل السلاح، وكنت كلما التقيت بجمهور من الثائرين ورأيتهم هاجمين عليَّ أرميهم بقبضة من النقود فيلتهون بها عني، إلى أن وصلت إلى زقاق ضيق ظننت أني لا أجد فيه أحدًا فأصل منه إلى دار الأمير عبد القادر، ولكن خاب ظني وهجم عليَّ رجاله ليقتلوني، وضرب واحد منهم ابنتي ببلطة على رأسها، فأسال دمها، وأطلق آخر عليَّ الرصاص مرتين فأخطأني، وبادرني واحد ببلطة على رأسي فشق جبيني، وأصبت بضربات كثيرة في جنبي الأيمن، ولم يعد الذين حولي يستطيعون إطلاق الرصاص عليَّ لئلا يصيب بعضهم بعضًا، فقلت لهم: إني ذاهب لأقابل حضرة البك محافظ المحلة في شغل له فيه مصلحة كبيرة.
فقال بعضهم: هلَّم نأخذه إلى البك. فأخذوني إليه بعدما سلبوا مني ساعتي وكل ما معي من النقود، وبينما نحن سائرون لحقنا درويش بعمامة خضراء وشعر مسدول، وبيده عصا طويلة في رأسها منجل كبيرة، وكان يمدها من فوق رءوس الرجال لينخر بها رأسي، حتى إذا وصلتُ إلى بيت المحافظ أخذني بيده وصرف الناس عني ووضعني في بيت أحد أتباعه مع القواس، وكان قد صار العصر وليس في البيت إلا امرأة عجوز، والتفتُّ فلم أرَ ولديَّ ولا كنت أعلم ماذا جرى لزوجتي وطفلها الرضيع ووالدتها وخالتها، وكنت قد فارقتهم في البيت، أما ولداي الكبيران فكان أولهما عند قنصل الإنكليز والثاني في مدرسة الروم البطريركية، ولم أكن أعلم أيضًا ماذا جرى لهما، وأصعدوني إلى غرفة عالية «قصر» تطل على الشارع، فرأيت منها المحافظ آتيًا إلى بيته بأناس كثيرين وعيالهم، فاستغربت كيف يحمي هؤلاء في بيته ولا يحميني أنا فيه، بل يضعني في بيت أحد أتباعه، وترجح عندي أنه يقصد الإيقاع بي ليلًا، ولا يريد أن يقتلني في بيته أمام الجمهور، فأخبرت القواس بذلك، وقلت له: الأجدر بك أن تنجو بنفسك. فقال: وأنت ماذا تفعل؟ فقلت له: إني أنتظر حتى يخيم الليل، وأدخل بيت المحافظ، فلا أظن أنه يتجاسر على قتلي في بيتِه وبيتُه مملوء بالناس. فقال: هذا هو الصواب ولكني لا أفارقك إلا بعد أن تصل إلى بيت المحافظ، وحينئذ أذهب وأخبر الأمير عبد القادر، فاستحسنت رأيه وانتظرنا إلى أن خيم الظلام.
وحينئذ رأينا سبعة رجال جاءوا وقرعوا الباب بعنف، ففتحت لهم العجوز فسألوها: هل فلان هنا؟ فقالت: نعم هو في القصر «الغرفة العليا». فقلت: دنت الساعة! وأشرت إلى القواس لينجو بنفسه ويخبر عما حل بي، وبينما أنا أكلمه بذلك صرخ واحد من الرجال قائلًا: انزل يا فلان فأنا صديقك السيد محمد السوطري، جئت برجال الأمير عبد القادر لكي أنقذك، فلا تخش بأسًا. فنزلت إليه، وألبسوني برنسًا كالمغاربة، ومشيت بينهم وسرنا ندوس على القتلى في الأزقة حتى وصلنا إلى بيت الأمير، وكان مزدحمًا باللاجئين إليه؛ لأن الأمير بقي ثمانية أيام متسلحًا يطوف في الشوارع وينقذ الناس من القتل، ولما رأى السيد محمد السوطري أن بيت الأمير مزدحم إلى هذا الحد طلب منه أن يسمح له بأخذي إلى بيته وهو قريب من بيت الأمير فسمح له، ومضى بي إلى بيته وسألني عن عائلتي، فقلت له: إن ابني الكبير في قنصلاتو الإنكليز، والثاني في مدرسة الروم، وكان معي ولدان ففرقوا بيني وبينهما ولا أعلم ماذا جرى لهما، وقد تركت زوجتي وطفلها في البيت. فقال: أما ابنك الكبير فلا خوف عليه؛ لأنه لم يدنُ أحد من قنصلاتو الإنكليز، وأما الباقون فأنا أمضي الآن أفتش عنهم، وهم لا يعرفونني فقد يمتنعون عن المجيء معي، فدع القواس يذهب برفقتي لاطمئنانهم.
ومضى هو والقواس فوجدوا زوجتي وأولادي كلهم ما عدا الثاني الذي كان في المدرسة، وسألت السيد محمدًا كيف عرف أني في البيت الذي كنت فيه، فقال إنه لما بلغه ما حصل بباب البريد ظن أن الأمر طفيف وأن الحكومة تتلافاه حالًا، فأقفلوا الباب الواصل إلى حارة النصارى لمنع أولاد محلتهم من الاشتراك مع الثائرين، فأتى جمهور من أكراد الصالحية، وخلعوا الباب فخاف حينئذ على بيتي، وأتاه واحد فأخبره بما أصابني وبوصولي إلى بيت محافظ الحارة، فتوجه إليه وطلبني منه فأنكرني، فرجع وأخبر الأمير عبد القادر، فأعطاه ستة من المغاربة المتسلحين ليطلبوني من المحافظ، فذهب معهم وطلبوني منه وشددوا عليه، فاضطر أن يرسل ابن أخيه معهم ليدلهم على مكاني.
وفي تلك الليلة زارني المستر برانت قنصل الإنكليز وطمنني عن ولدي الأكبر، أما ولدي الثاني فمضى ثلاثة أيام، ولم أقف له على خبر ولا وجد بين القتلى المطروحة في الأزقة.
ثم أتى رجل تركي إلى قنصل الإنكليز، وأخبره أنه متزوج ابنة علي آغا كاتب الخزينة — وكنت قد أسكنت المستر روبنصن المرسل الإنكليزي في بيته — فلقيت زوجته ابني المفقود وأخفته في بيتها، فللحال أرسل القنصل رجالًا من المغاربة فأحضروه إليه.
وبقيت شهرًا في بيت السيد محمد السوطري حتى شفيت من جراحي، ثم دعاني الشريف محمود أفندي حمزة إلى داره فانتقلت إليها؛ لأن الأشقياء خربوا بيتي، ونزعوا خشبه وبلاطه، وبقيت في بيت محمود أفندي إلى أن حضر فؤاد باشا.
وعادني السيد محمد الأمين الشاعر المشهور مفتي بلاد بشارة وقال لي: ماذا أصابكم؟ فقلت: الذي تراه. فقال: سُفكت دماؤكم وسُبيت نساؤكم وهدمت بيوتكم، ولكن عليكم أن تتأسوا بمصاب غيركم، فإن أهالي دمشق الذين فعلوا بكم هذه الفعال قتلوا أولاد نبيهم وسبوا نساءهم وهدموا الكعبة المشرفة.