مؤتمر باريس
ما هذا الحر الذي يزهق النفوس؟! حقًّا إن باريس لا تطاق في شهر أغسطس. (المتكلم مندوب روسيا والمخاطب مندوب إنكلترا.)
فقال مندوب إنكلترا: والحر عندنا شديد أيضًا على خلاف المعتاد، وقد بلغت درجة الحرارة التسعين أمس.
ففكَّر المندوب الروسي هنيهة، ونظر في وجه المندوب الإنكليزي لعله يقرأ فيه ما يضمر، ثم قال له: كلَّا، ولكن لماذا نفضل فرنسا على غيرها إذا فضلنا أن تنفرد دولة واحدة بإرسال جنودها؟!
فقال المندوب الإنكليزي: نحن لا فرق عندنا؛ فإذا أردتم فنحن نرسل جنودنا، أو أنتم ترسلون جنودكم، أو ترسل جنود نمسوية.
فلم يجب المندوب الروسي على هذا الكلام، بل بقي صامتًا يفكر في إرسال الجنود الروسية إذا أمكن، ولكنه يحسب ذلك ضربًا من المحال.
وتكامل الأعضاء حينئذ، ودارت المذاكرة بعد أن تليت عليهم تقارير القناصل كلهم، وكان حاضرًا في ذلك المؤتمر: معتمد بريطانيا، ومعتمد روسيا، ومعتمد تركيا، ومعتمد فرنسا، ومعتمد النمسا، ومعتمد بروسيا، ولم يسع مندوب تركيا أن ينفي شيئًا مما ذكره القناصل.
وبعد بحث طويل أقرت الأكثرية على أنه لا بد من إرسال جنود أوروبية لإرجاع الأمن إلى البلاد، وتبرعت فرنسا بإرسال ستة آلاف من جنودها، وكانوا مستعدين للسفر عند أول إشارة، فشكرها المندوبون على هذه المروءة. وقال مندوب إنكلترا: يجب أن نقرر أيضًا أن هذه الجنود ذاهبة باسم أوروبا كلها لا باسم فرسنا وحدها. فبهت المندوب الروسي والبروسي من هذه السياسة الرشيدة وقالا: نعم، هذا هو الصواب. ووافقهما المندوب النمسوي، فلم يسع المندوب الفرنسوي إلا القبول بذلك، وقال: هذا هو غرض مولاي الإمبراطور، فإن الذي دفعه إلى إرسال جنوده إنما هو الشفقة والحنان، وليس له أقل مأرب سياسي، فباسم أوروبا كلها نرسل جنودنا إلى سورية.
فقال المندوب الإنكليزي: والمفهوم أيضًا أن هذه الجنود ذاهبة لغرض مخصوص، وهو توطيد الأمن، فمتى توطد تعد مشكورة كما ذهبت مشكورة. فأبرقت أسرة مندوب الدولة العلية حينئذ، وكان قد أوجس شرًّا لما طلب مندوب إنكلترا أن يكون إرسال الجنود باسم أوروبا كلها قائلًا في نفسه: إن هذا يدل على اتفاق أوروبا كلها علينا. فلما سمع القول الثاني، وهو أن الجنود تخرج من سورية حالما يتوطد الأمن فيها سرِّي عنه، ووافق على ذلك ووافق سائر المندوبين، ولم يقل مندوب فرنسا شيئًا؛ لأن كلمة توطيد الأمن واسعة المعنى تحتمل التعليل الكثير والمطل الطويل.
وتذاكر أعضاء المؤتمر في أمور شتى تتعلق بهذا الموضوع، وعادوا إلى معاهدة باريس التي عقدت بعد حرب القرم سنة ١٨٥٦، وألحوا على مندوب الباب العالي بوجوب العمل بها، من حيث المساواة بين كل أصناف الرعية فقال لهم: إن الباب العالي قد بذل أقصى جهده للقيام بتلك المعاهدة، وسيبقى باذلًا أقصى الجهد للقيام بها.
وختم المؤتمر وكان ابتداء اجتماعه في الثالث من أغسطس سنة ١٨٦٠، ووصلت الجنود الفرنسوية إلى بيروت في السادس عشر منه؛ أي بعد وصول فؤاد باشا بشهر كامل، وعسكرت في حرش بيروت نصبت خيامها هناك وانتظرت الأوامر، وحالما وصلت سادت السكينة في كل مكان، واطمأنت القلوب وراجت الأعمال، لاسيما وأن أموال المحسنين من أوروبا وأميركا كانت تتدفق لإعانة المنكوبين، وجعل كثيرون منهم يعيشون من بيع الأطعمة للجنود، وتصرف الجنود تصرف الكرام، فكانوا يدفعون كل ما يطلب منهم، ويعطون الباعة شيئًا من طعامهم، حتى إن الفقراء الذين كانوا لا يأكلون إلا الخبز الحاف ولا تصل يدهم إلى شيء من الأدام؛ صاروا يأكلون اللحم الغريض مما يعطيهم إياه الجنود، واكتسى كثيرون من الثياب القديمة التي أعطوهم إياها، وظهر كأن البلاد انتعشت بعدما خيم عليها ظل الموت.