التزلف والنفور
الأميرة هند وابنتها وولداها في خيمة سوداء من الشعر، مرفوعة العماد، مبطنة بشقق الحرير الدمشقي المخطط بالأصفر والأزرق، وهي جالسة على أريكة متكئة على مسند عابسة الوجه مقطبة الجبين، والسيكارة في يدها والأمير حسان واقف أمامها يكلمها بصوت منخفض، ويسترق اللحظ إلى الأميرة سلمى وهي جالسة إلى جانب أمها مستندة إلى مسند آخر لكنها صامتة لا تتكلم، وحاول الأمير حسان جهده لكي يصلح منطقه حتى يكون بلغة مفهومة لدى الأميرة هند، فقال: لقد أبنت لحضرتك أننا لم نقصدك أنت وأولادك بسوء على الإطلاق، ولم يكن لنا غرض إلَّا عرب الفضل لأخذ الثأر وكشف العار، وأنتم آل شهاب من العرب الكرام الذين يعرفون عادات القبائل ولا يرضون لنا بمذلة إذا أمكننا أن نرفعها عنا.
فقال: لا أنكر عليك أنني كنت عالمًا بنزولكم على عرب الفضل، وكنت أحسدهم على هذا الشرف، ولكن لم يخطر ببالي أننا نفوز عليهم هذا الفوز المبين، وغاية ما كنت أتوقعه أن نأخذ بثأرنا منهم، ونستاق بعض ماشيتهم غنيمة، أما الوصول إلى مضاربهم وسبي من فيها، فلم نكن لنطمع به، والظاهر أن وجودك في مضاربهم غل أيديهم، وأفسد تدابيرهم، ولولا ذلك لناوشونا إلى أن نبعد عن حماهم، وأميرهم بطل مجرب ولكن خانته الأقدار هذه النوبة؛ لأنه ظلمنا هو وقومه، والله لا ينصر القوم الظالمين.
وكان واقفًا ويده اليسرى على مقبض سيفه، ويده اليمنى مطلقة يشير بها حينما يتكلم، وهو كهل في نحو الأربعين من العمر، قصير القامة أسود الشعر أسمر الوجه براق العينين خفيف اللحية عصبي المزاج.
فقالت الأميرة هند: لماذا تكلمنا وأنت واقف مع أننا أسراك؟ ولماذا لا تجلس وتستريح؟
فرفع يده إلى رأسه وقال: العفو يا مولاتي، بل أنا أسيركم، ولكن ما دمتِ قد أمرتني بالجلوس فأنا أجلس إطاعة للأمر.
ثم جلس مكانه متربعًا ووضع سيفه على حضنه، ونادى خادمه فأتاه بشبق قصير فمُه من الكهرباء وماسورته من الكرز، فمص منه مصتين، وأتاهم خادم آخر بالقهوة، فقدمها للأميرة هند أولًا، ثم للأميرة سلمى وأخويها فتناولتها الأميرة هند منه، وأما الأميرة سلمى فاعتذرت عن شربها وكذلك اعتذر أخواها.
ولما شربت الأميرة هند بعض فنجانها قالت له: يا حبذا لو كنت توصلنا إلى الشام «دمشق»، فنظر إليها مستغربًا، وقال: ألم يبلغكم ما حدث في الشام؟ فقد حدث فيها أكثر مما حدث في حاصبيا.
فلما سمعت هذا الكلام صرخت قائلة: ماذا تقول؟! أقتلوا نصارى الشام أيضًا؟! وارتجفت يدها ووقع الفنجان منها وضربت بيدها على المسند، وقالت: قلت لأحمد إن هذا العمل كله بدسيسة، والغرض منه قتل كل النصارى فلم يصدقني.
ثم ألقت رأسها على يدها وقالت: الله يجازيهم، الله يجازي الذي كان السبب! ما هذه المصيبة؟ ما هذه البلية؟ أين أهلي الآن؟ أين إخوتي وأخواتي وأولاد عمي وأولاد خالي؟!
وقالت له الأميرة سلمى: هل أنتم على يقين من صحة هذا الخبر؟
فقال: نعم وقد سمعته من أكثر من واحد من الذين كانوا هناك، وقد أرسل إلينا والي دمشق لنزحف مع دروز حوران على جبل لبنان، فلم أشأ أن أفعل ذلك؛ لأن الدروز أعداؤنا ولا أركن إليهم، ولم أفهم ما هو غرض الوالي من ذلك، ولا كيف استحل قتل الآمنين في دار الولاية نفسها. ونحن نشكر الله لأننا في هذا القفر مستغنون عن الشام وعن النزول إليها، وبلادنا الآن قاحلة لأننا في فصل الخريف، ولكن متى جاء الربيع تجديها من جنان الخلد، وسترينها في ذلك الفصل إن شاء الله. (قال ذلك موجهًا كلامه إلى الأميرة سلمى.)
فقالت له: أنبقى هنا إلى الربيع لا سمح الله؟! ثم كيف تقيمون في هذه الخيام وقت المطر؟
فقال: إن المطر لا يخرق الخيام، ولا سيما إذا كانت محكمة النسج مثل هذه الخيمة، وفصل الشتاء عندنا من أبدع الفصول، وسترينه إن شاء الله. وقد سمعت أنك تحبين ركوب الخيل، فخيلي كلها تحت أمرك وأمر أخويك، وعندي مهرة بيضاء تتجلى كالعروس.
ثم صفق بيديه فدخل عبد أسود فقال له: هات غزالة يا شيبوب لتراها الأميرة سلمى. فذهب وبعد دقائق قليلة عاد يقود مهرة كالريم، وقال لها: هذه المهرة لا يعلو ظهرها أحد غيرك، وهي وديعة كالحمل وسريعة كالنعامة.
فشكرته وقالت في نفسها: لعل له ابنة من عمري أركب معها. وكانت قد رأت نساء كثيرات في المضارب، وعرفت أن واحدة منهن زوجته ولكنها لم تر له أولادًا، وحقيقة أمره أنه كان قد تزوج بابنة عمه وولد له منها ولدان ماتا بالجدري، ولم يرزق غيرهما، ثم طلقها وتزوج كثيرات غيرها، وكان كلما سمع بابنة حسناء يخطبها إلى أبيها، ثم لا يلبث أن يكرهها ويطلقها، وعرف بهذا الخلق حتى كان العرب يخفون بناتهم عنه، فلما وقعت الأميرة سلمى في أسره لم يشك أحد في أنه يتزوج بها حالًا، رضيت بذلك أو لم ترض.
أما هو فهابها في أول الأمر وخشي أن ينظر إليها كما ينظر إلى غيرها من بنات قبيلته، ولكنه لما جالسها وسمع حديثها سولت له نفسه أن يخطبها إلى أمها، وأبت عليه عادات قومه أن يخاطبها في ذلك قبل أن يريها ضروب الكرم، وكان له نديم رُبي معه وشاركه في كل طرق الفساد، فأطلعه على مرامه، فسهله له قائلًا: إنها أسيرتك وليس لها ملجأ غيرك، ويستحيل عليها أن ترفض طلبك.
وجاء الرسل من قبل الأمير عمر الفضل طالبين فك الأسرى، وأخبروا الأمير حسانًا أن الأميرة سلمى مخطوبة لأمير إنكليزي، فهاله الخبر لكنه لم يصدقه، وسأل الأميرة هند عن حقيقته، فاستغربت ذلك ولم تسأله عمن أخبره به، بل قالت له: إنها غير مخطوبة لأحد.
فسري عنه واستدعى الرسل، وقال لهم إنه يرد أم الأمير عمر إليه إن هو افتداها بمائة ناقة ومائتي جمل، وأما الأميرة هند وأولادها فليسوا أسرى بل هم ضيوف عليه، وقد أنزلهم على الرحب والسعة، وهو أولى منه بحمايتهم وسيبقون في حماه إلى أن يسكن الاضطراب في جبل لبنان، ثم يردهم إلى بلادهم آمنين. وكان معه رجال من شيوخ قبيلته فأشاروا عليه أن يرد أم الأمير عمر إليه حالًا حسمًا لأسباب النزاع، وأن ما غنموه من الماشية يكفي بدل ما فقده تجارهم، فاستصوب رأيهم ونادى الرسل، وقال لهم: «هوذا أم الأمير عمر، فخذوها لا فداء ولا فكاك، لكي تعلموا أننا أكرم منكم، وأن ليس غرضنا العداء، وإنما الأخذ بالثأر وردُّ ما سلبتموه من رجالنا.» ثم أمر لها بهودج، وأرسل معها جارية لخدمتها، فرأوا أن لا سبيل لهم للاعتراض ولا للادعاء بأن الأميرة سلمى مخطوبة؛ لأنها هي كذبت الخبر فعادوا من حيث أتوا.
ومرت الأيام والأمير حسان يزيد توددًا إلى الأميرة سلمى وهي تزيد منه نفورًا، وقد ظلم الحب من سمَّى مثل هذا حبًّا؛ لأنه ميل شهواني دنس، وضعفت سلطة زوجته عليه بازدياد شغفه بالأميرة سلمى، فصار يتهددها بالطلاق كلما لامته، وأسقط في يد الأميرة هند، ولم تعلم كيف تنجو من هذه البلية، أما ولداها فأخذتهما الغيرة والأنفة وعزما على الفتك به إن لم يرعوِ عن غيه، ولازمت الأميرة سلمى خيمة أمها ولم تعد تخرج منها، وقلَّ أكلها فنحلت وذبلت، ومرت الأيام والشهور وهي تزيد سقمًا ونحولًا، وذلك الطاغية يزيد جرأة وقحة، وأخيرًا اتفق مع نديمه على أن يبعد الأميرة سلمى عن أمها، وينقلها إلى خيمة بعيدة، ويحضر الشيخ ويكتب كتابه عليها غصبًا، فاحتال النديم عليها ذات يوم واحتملها هو وغلمانه وساروا بها خلسة إلى تلك الخيمة، فركضت أمها حافية حاسرة إلى خيمة ولديها وهي تلطم وتنوح، فاختطف أحدهما سيفًا والآخر هراوة وأسرعا وراء أختهما فلاقاهما الأمير حسان ورجاله وقبضوا عليهما واعتقلوهما، وجاء الشيخ ليكتب كتاب الأميرة سلمى، فسأل: من ولي أمرها؟ ففطنت إلى قوله وقالت: أنا ولية أمر نفسي ولا أريد الاقتران بهذا الرجل مطلقًا. قالت ذلك وهي لا تدري كيف أتتها القوة لتنطق بهذا القول لشدة ما حل بها من الجزع، ولكن النفوس الكبيرة يظهر مضاؤها في المكاره. فقال الشيخ: إذن لا أستطيع أن أكتب كتابها. والظاهر أن الأمير حسانًا لم يكن يتوقع هذا السؤال، فوقف مبهوتًا لا يدري ماذا يفعل، فأشار إليه نديمه وانفرد به، وقال له: ليس لك إلا أن تذلها هي وأمها حتى تصغر نفساهما وتضطر أن تفتدي أمها بنفسها. فقال: أصبت. وأمر أن تخرجا من خيمتهما وتنقلا إلى خيمة صغيرة، وتُقدَّم لهما لوازم الطعام فقط، وتجبرا على إعداده بأيديهما من عجن وخبز وطبخ، وأقام عليهما الجواسيس، وأبقى الولدين بعيدين عنهما.